الفاطمات
تاريخ النشر: 02/09/14 | 8:19وصلتني رسالة من رجال أهل غزة.. يطلبون مساعدتهم في البحث عن فاطمة الغزاوية.. التي اختفت آثارها، منذ ايام، وذهبت كل محاولاتهم للبحث عنها أدراج الرياح، ويقولون في رسالتهم، ان حياتهم بدونها أصبحت عسيرة.
وفاطمة – ان أردت المساعدة في البحث عنها -.. وجهها أسمر مربوع.. تتقد فيه عينان سمراويتان، وشعرها الخروبي يسرق من أعلاه، مساحة على شكل هلال. ليست بالطويلة، حتى تجعلك ترفع رأسك الى أعلى، عندما تريد ان تنظر الى وجهها، ولا قصيرة حتى تجعلك تحني رأسك عندما تريد قراءة تعابير وجهها.
آخر مرة شوهدت فيها.. كانت من قبل حسين الكفراوي.. رآها تغادر مسرعة كعادتها مستشفى الشفاء، بعد ان وضعت في مدخله كيسا من ملابس الاطفال.. حاول اللحاق بها، كي يشكرها على العكازة التي اعطتها له، في أحدى الغارات، فعجز عن ذلك..
شاهدوها محجبة وبدون حجاب.. بجلباب وبغير جلباب.. فهي تبدل ملابسها بشكل دائم.. ولذلك فانك لا تستطيع التعرف عليها من ملابسها.
عجيب أمر فاطمة الغزاوية.. فهي تظهر في مكان فتختفي كلمحة البرق، لتظهر في مكان آخر..!
ولكن روحها متواجدة في كل مكان في غزة.. على السنتهم، وفي ضماضات جراحهم، على انامل أيدي الثكالى والارامل، وهن يمسحن دموعهن، وفي جرعة الحليب، التي يشربها الاطفال الجوعى.!
لا تحاول ان تبحث عنها بين انقاض البيوت، التي دمرت أمس.. فقد غادرتها بعد ان لمت لعب الاطفال، من بين اكوام الركام.. وسلمتها لأطفال دار ابناء الشهداء، فرسمت بسمة على شفافهم المقهورة.
وأهل غزة يذكرون في رسالتهم، ان سبب بحثهم عنها هو- انهم يريدون منها ان ترتاح من “السفر “، ؤتخفف لهاثها، وتهجع قليلا.. ولو للحظة.!
يقسم عيسى العجايب أغلظ الأيمان، أنه رآها وهي تدخل أحد الأنفاق، وهي تحمل سلة مليئة بالمناقيش، فاستغرب البعض الأمر، واستهجنه آخرون.. ” أمرأة تدخل الأنفاق المسكونة بالشباب.. !! “، فصاح بهم عارف الصايغ: ” انها فاطمة الغزاوية.. هل نسيتم..!! ” فسكتوا..!
قبل عدة اسابيع ظهرت – على غيرعادتها – على الملأ.. تقدمت من المشيعين، الذين كانوا يشيعون شهيدا آخر الى مثواه الأخير، وبدأت بتوزيع ” شربات ” الماء عليهم، لقد كانوا كلهم يريدون التحدث معها، ولكن هيبة الموقف منعتهم من ذلك.! ولما انتهوا من مراسيم الجنازة، بحثوا عنها فلم يجدوها..
تنادى الرجال لأجتماع في ميدان البلد، للتشاور في أمر غياب فاطمة، وضرورة مضاعفة جهود البحث عنها، فلبى اهل البلد بجماهيرهم النداء، تركوا أعمالهم ومصالحهم ووظائهم، وخنادقهم.. وكلهم حضروا ليشاركوا في البحث عنها..!
بحت الحناجر، من شدة تأثير الخطب الرنانة، التي ألقاها الزعماء، وعلت هتافات الجماهير الى أعالي السماء، ” كلنا نريد فاطمة.. كلنا نريد فاطمة..!! “.
واذا بصوت نسائي عميق مهيب يجترح له طريقا بين أصوات الرجال.. فيخرس الأصوات التي حوله، فينتقل تأثيره، الى الدائرة الأكبر التي حوله فيسكتها، فكان تأثيره كالحجر الذي يرمى في بركة ماء.. فسرعان ما سيطر الصمت، على جميع أرجاء المكان.!
” فاطمة الغزاوية..!!”..يخترق صوت أحدهم غطاء السكون الذي كان تقبض على خناق المكان، واجتاحه سيل من الهرج والمرج.. وتدافعت أجسام الرجال نحوها، كل يريد ان يرى فاطمة بأم عينيه، فكون الذين كانوا يقفون بجوارها حاجزا دائريا، ليحموها من هذا المد البشري، الذي أصبح فيه خطرا على حياتها..!
” أيها الرجال.. ان فاطمة تريد ان تتكلم معكم.. من فضلكم حافظوا على الهدوء.. “ارتفع صوت أحد الرجال، الذين يقفون بالقرب منها.. فتبخر الضجيج، وحل مكانه صمت ينتظر صوتا يتعطش، لسماعه بلهفة.!
” أيها الرجال..!”.. انطلق صوتها يعانق اسماعهم.. “يا رجال غزة الأبطال..!” أكملت تاركة لصوتها فرصة السيطرة على حواسهم..” تبحثون عني في كل مكان، وأنا متواجدة، في كل أماكن تواجدكم.. فأنا موجودة في بيوتكم.. في شوارعكم.. في أماكن عملكم.. في أسواقكم.. في خنادقكم.. في مستشفياتكم.. في معارككم.. يشربن حسرات الهدم والشهادة قبلكم.. ويمسحن غبار المعارك عن جباهكم، وبقع الدم عن جراحكم.امسحوا الغشاوة عن عيونكم..وانظروا حولكم، فغزة تعج بالفاطمات.. !!”
انهت الغزاوية كلامها.. وغادرت الساحة مسرعة.. اما هم فأسرع كل واحد منهم، الى أحضان ” فاطمته “، ليرتاح في حضنها، من عناء الوقوف الطويل، في ميدان الأجتماع..!
وفي اليوم التالي عمموا بيانا على كل أهل البلاد، يشكرون كل من ساعدهم في البحث عن فاطمة.. !
يوسف جمال – عرعرة