فولوا وجوهكم شطره
تاريخ النشر: 22/10/14 | 14:17استقبال القبلة شرط من شروط صحة الصلاة، لا تصح الصلاة إلا به. قال تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} (البقرة:144)، وقد تكررت هذه الآية ثلاث مرات، وفي ذلك دليل على وجوب هذا الاستقبال، وهو حكمة عظيمة، ذلك أن المقصود من الصلاة العبادة والخضوع لله تعالى، وبمقدار استحضار المعبود يقوى الخضوع له، فتترتب عليه آثاره الطيبة في إخلاص العبد لربه، وإقباله على عبادته؛ وذلك ملاك الامتثال.
وتكرر الأمر باستقبال النبي صلى اله عليه وسلم الكعبة ثلاث مرات، وتكرر الأمر باستقبال المسلمين الكعبة مرتين، وتكرر {أنه الحق} (البقرة:144) ثلاث مرات، وتكرر تعميم الجهات ثلاث مرات، والقصد من ذلك كله التنويه بشأن استقبال الكعبة، والتحذير من تطرق التساهل في ذلك؛ تقريراً للحق في نفوس المسلمين، وزيادة في الرد على المنكرين.
ومن الأحكام المتعلقة بهذه الآية وغيرها من الآيات المشرعة لمسألة استقبال القبلة ما يلي:
استقبال عين القبلة أو جهتها
أجمع العلماء على أن من شاهد الكعبة وعاينها فَرْضٌ عليه استقبالها، وأنه إن ترك استقبالها، وهو معاين لها، وعالم بجهتها فلا صلاة له، وعليه إعادة كل ما صلى. والصحيح من أقوال أهل العلم أن كل من غاب عنها فإنما عليه أن يستقبل ناحيتها وجهتها، ولا يجب عليه استقبال عينها؛ لتعذر ذلك. والعمدة في ذلك قوله سبحانه: {فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره}، و(الشطر) هو الجهة والناحية.
الصلاة في الغيم وما أشبه ذلك
ذهب أكثر أهل العلم إلى أنه إذا صلى في الغيم لغير القبلة، ثم استبان له بعد ذلك أنه صلى لغير القبلة، فإن صلاته جائزة، وهو قول أبي حنيفة ومالك، غير أن مالكاً قال: تستحب له الإعادة في الوقت، وليس ذلك بواجب عليه؛ لأنه قد أدى فرضه على ما أُمر، والكمال يُستدرك في الوقت؛ استدلالاً بالسنة فيمن صلى وحده، ثم أدرك تلك الصلاة في وقتها في جماعة، أنه يعيد معهم. ولا يعيد في الوقت استحباباً إلا من استدبر القبلة، أو شرَّق أو غرَّب جداً مجتهداً، أما من تيامن أو تياسر قليلاً مجتهداً، فلا إعادة عليه في وقت ولا غيره. وقال الشافعي: لا يجزيه؛ لأن القبلة شرط من شروط الصلاة. وقول من قال بالجواز أصح؛ لأن الضرورة -كحال القتال والسفر- تبيح ترك استقبال القبلة، وهذا داخل في حكمها.
صلاة المريض
أجمع أهل العلم على أنه لا يجوز لأحد صحيح أن يصلي الفريضة إلا على الأرض مستقبلاً القبلة إلا حال الخوف الشديد. واختلفوا في المريض، فذهب بعضهم إلى أنه يجوز للمريض مرضاً لا يستطيع القيام معه أن يصلي الفريضة على محمله -سريره أو دابته- مستقبلاً القبلة، فإن تعسر ذلك، فليصلِ على الوجه المتيسر. واختلف قول مالك في المريض يصلي على محمله؛ فمرة قال: لا يصلي على ظهر البعير فريضة، وإن اشتد مرضه، فإن فعل أعاد. ومرة قال: إن كان ممن لا يصلي بالأرض إلا إيماء، فليصل على البعير بعد أن يُوقف له، ويستقبل القبلة.
صلاة المسافر
اختلف الفقهاء في المسافر سفراً لا تقصر في مثله الصلاة؛ فقال مالك وأصحابه: لا يتطوع على الراحلة إلا في سفر تقصر فيه الصلاة؛ قالوا: لأن الأسفار التي حُكِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يتطوع فيها، كانت مما تقصر فيه الصلاة. وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما: يجوز التطوع على الراحلة خارج المصر في كل سفر، وسواء كان مما تقصر فيه الصلاة أو لا؛ لأن الآثار ليس فيها تخصيص سفر من سفر، فكل سفر جائز ذلك فيه، إلا أن يُخَصَّ شيء من الأسفار بما يجب التسليم له.
وقال الطبري: يجوز لكل راكب وماشٍ، حاضراً كان أو مسافراً، أن يتنفل على دابته وراحلته وعلى رجليه بالإيماء. وحكى عن بعض أصحاب الشافعي أن مذهبهم جواز التنفل على الدابة في الحضر والسفر.
ومحصل القول هنا: إن شرط استقبال القبلة يسقط عن المتنفل حال السفر؛ دفعاً للمشقة، ورفعاً للحرج. والعمدة في هذا قوله تعالى: {فأينما تولوا فثم وجه} (البقرة:115)، وفعله صلى الله عليه وسلم. قال الرازي : معنى الآية: {فأينما تولوا} وجوهكم لنوافلكم في أسفاركم {فثم وجه الله}، أي: فقد صادفتم المطلوب.
الصلاة حال الخوف
من الحالات التي يسقط فيه شرط استقبال القبلة حال الالتحام مع العدو، أو حال الخوف من سَبُع ونحوه من السباع البشرية، فيصلي إيماء وإشارة بالرأس حيثما توجه، والعمدة في هذا قوله تعالى: {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا} (البقرة:239)، و(الراجل) هو السائر على قدميه. فكل أمر يخاف منه المصلي على روحه فهو مبيح ترك استقبال القبلة، والصلاة حيثما تيسر له. قال أهل العلم: “الحال التي يجوز منها للخائف أن يصلي راجلاً أو راكباً، مستقبل القبلة، أو غير مستقبلها، هي حال شدة الخوف”.
وهنا خلاف يُذْكَر، وهو أن بعض الفقهاء قصر قوله تعالى: {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا} على خوف العدو المهاجم فحسب، فأسقط شرط الاستقبال في هذه الحالة دون غيرها، وألحق بعضهم بحالة الخوف من العدو ما كان في معناه، كخوف سَبُعٍ ونحوه. قال الرازي: “هذا القول أصح؛ لأن هذا الحكم ثابت عند حصول الخوف، سواء كان الخوف من العدو، أو من غيره”. وثمة قول ثالث، وهو أن المعنى: فإن خفتم فوات الوقت إن أخرتم الصلاة إلى أن تفرغوا من حربكم، فصلوا رجالاً، أو ركباناً، وعلى هذا التقدير تدل الآية على تأكيد فرض الوقت، حتى يُترخص لأجل المحافظة عليه بترك القيام والركوع والسجود.
ومن الخلاف الذي يُذْكَر هنا أيضاً: أن مالكاً والشافعي وعامة العلماء، ذهبوا إلى أن المصلي صلاة الخوف عند التحام الحرب وشدة القتال، يصلي كيفما أمكن؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهما: فإن كان خوف أكثر من ذلك، فيصلي راكباً أو قائماً، يومىء إيماء. قال في “الموطأ”: مستقبل القبلة، وغير مستقبلها. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنهم لا يصلون -والحالة هذه- بل يؤخرون الصلاة، وإن قاتلوا في الصلاة، فسدت الصلاة.
ولكل وجهة هو موليها
في شأن القبلة أيضاً جاء قوله تعالى: {ولكل وجهة هو موليها} (البقرة:148)، في الآية قولان:
الأول: أن لكل ملة من أهل الملل وجهة قد اختارتها، إما بشريعة، وإما بهوى.
الثاني: أن لكل قوم من المسلمين وجهة من أهل سائر الآفاق إلى جهات الكعبة.
شطر المسجد الحرام
اختلف أهل العلم في المراد من المسجد الحرام، أي شيء هو؟ فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: (البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب). وهذا قول مالك.
وقال آخرون: القبلة هي الكعبة، والدليل عليه ما في “الصحيحين” عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها، ولم يصلِّ حتى خرج منه، فلما خرج صلى ركعتين في قِبَل الكعبة، وقال: هذه القبلة. قال القفال: وقد وردت الأخبار الكثيرة في صرف القبلة إلى الكعبة.
وقال بعضهم: المراد المسجد الحرام كله، قالوا: لأن الكلام يجب إجراؤه على ظاهر لفظه، إلا إذا منع منه مانع.
وقالت طائفة: المراد الحرم كله، والدليل عليه قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام} (الإسراء:1)، وهو عليه الصلاة والسلام إنما أسري به خارج المسجد، فدل هذا على أن الحرم كله مسمى بالمسجد الحرام.
الصلاة في المسجد الحرام
قال صاحب “التهذيب” من الشافعية: “الجماعة إذا صلوا في المسجد الحرام، يُستحب أن يقف الإمام خلف المقام، والقوم يقفون مستديرين بالبيت، فإن كان بعضهم أقرب إلى البيت من الإمام جاز، فلو امتد الصف في المسجد، فإنه لا تصح صلاة من خرج عن محاذاة الكعبة، وعند أبي حنيفة تصح، لأن عنده الجهة كافية، وهذا اختيار الشيخ الغزالي”.
معرفة دلائل القبلة
بحث العلماء مسألة معرفة دلائل القبلة، هل هي فرض على العين، أم فرض على الكفاية؟ ولهم في هذا مذهبان: أصحهما أن معرفتها فرض على العين؛ لأن كل مكلف مأمور بالاستقبال، ولا يمكنه الاستقبال إلا بواسطة معرفة دلائل القبلة، وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب.
والمصلي إما أن يكون معايناً للقبلة، أو غائباً عنها، أما المعاين فقد أجمعوا على أنه يجب عليه الاستقبال، وأما الغائب فإما أن يكون قادراً على معرفة القبلة بيقين، أو ظن، أو لا يقدر على معرفتها لا بيقين ولا بظن، فهذه أقسام ثلاثة:
الأول: القادر على معرفتها بيقين: فالغائب عن القبلة لا سبيل له إلى تحصيل اليقين بجهة القبلة إلا بالدلائل، وما لا سبيل إلى أداء الواجب إلا به فهو واجب، فيلزم من هذا أن يكون تعلم الدلائل فرض عين على كل أحد.
الثاني: القادر على معرفتها بظن: تحصيل هذا الظن يكون: إما بالاجتهاد، وإما بالرجوع إلى قول الغير، بشرط أن يكون هذا الغير مسلماً عاقلاً، وإما بمشاهدة ما يدل على اتجاه القبلة، كالمحراب ونحوه.
الثالث: العاجز عن معرفتها بيقين أو بظن: وهو الكائن في الظلمة التي خفيت الأمارات بأسرها عليه، أو الأعمى الذي لا يجد من يخبره، أو تعارضت الأمارات لديه، وعجز عن الترجيح. فهذا يأتي بالصلاة إلى أي جهة شاء، ويسقط عنه شرط الاستقبال، وله أن يصلي إلى الجهة التي يميل إليها قلبه، فإن (المؤمن ينظر بنور الله)، رواه الطبراني. قال الهيثمي: إسناده حسن. قال الرازي: “إذا أدى هذه الصلاة، فالظاهر يقتضي أنه لا يجب القضاء، لأنه أدى وظيفة الوقت، وقد صحت منه، فوجب أن لا تجب عليه الإعادة، وظاهر قول الشافعي أنه تجب الإعادة سواء بأن صوابه أو خطؤه”. والحاصل هنا أن العاجز عن تحديد جهة القبلة يقيناً أو ظناً، يسقط عنه شرط الاستقبال، ولا يجب عليه القضاء، وكذا المجتهد إذا بان له خطؤه في تعيين القبلة.
مسألتان
– لا تجب نية استقبال القبلة؛ لأن الآية دلت على وجوب الاستقبال، والآتي به آت بما دلت الآية عليه، فوجب أن لا يجب عليه نية أخرى، كما في ستر العورة وطهارة المكان والثوب.
– إذا توجه المصلي إلى جهة، ثم تغير اجتهاده -وهو في الصلاة- فعليه أن ينحرف ويتحول إلى الجهة التي استجد له فيها الاجتهاد، ويتابع صلاته ولا يقطعها؛ لأن عارض الاجتهاد لا يبطل السابق. والمسألة بحالها، إذا صدَّق مخبراً في تعيين القبلة، ثم جاء آخر، اطمأن إلى خبره أكثر، فأخبره بخلافه.