انحسرت الثقة في العولمة
تاريخ النشر: 06/09/14 | 1:24في العام 2005 نشر توماس فريدمان الصحافي الكبير بجريدة نيويورك تايمز كتابه بعنوان: «العالم مسطح». ذاع صيت الكتاب، واعتبره النقاد تتويجا لعملية تبشير طويلة بالعولمة اشترك في قيادتها فريدمان. تجاسر فريدمان في الكتاب وخارجه فوضع نظرية أطلق عليها نظرية «الأقواس الذهبية».
من خلال هذه النظرية ومستندا إليها تنبأ فريدمان بقرب حلول مستقبل يعيش العالم فيه بفضل العولمة في وضع لا يسمح بنشوب نزاعات بين الدول. فالأقواس الذهبية التي ترمز الى سلسلة مطاعم «ماكدونالدز» انتشرت في كل القارات، تزدان بها عشرات بل مئات المدن في الهند والصين وروسيا وأوروبا وأفريقيا. هذه السلسلة التي تقدم الوجبات السريعة واستطاعت خلال سنوات أن تحتل مكانة الصدارة في سجلات الثقافة الشعبية الأميركية، سوف تحقق، حسب رأيه، مالم تحققه الديبلوماسية والمؤتمرات الدولية والمفاوضات في سالف العصر والزمان، ستحقق السلام وتمنع التوترات التي تتسبب في نشوب النزاعات بين الدول. جرأة في الكتابة والتحليل لم تتوفر لغير توماس فريدمان وحواريين من مدرسته.
[[[
في شهر آب 2014، أي قبل أسابيع قليلة، أغلق مفتشو الصحة التابعون للحكومة الروسية مطعم «ماكدونالد» الكائن في 29 شارع بولشايا برونايا. الجدير بالذكر أن هذا المطعم أفتتح يوم 31 كانون الثاني العام 1990، وكان بشهادة الكثيرين يوما مشهودا في تاريخ موسكو المعاصر. إذ دخل المطعم في ذلك اليوم أكثر من 30,000 زائر. وما زلت أذكر جيدا كيف راوغت وقتها حكومة روسيا لتتفادى التوقيع على عقد يكون فيه الطرف الآخر شركة «ماكدونالد» الأميركية، وأصرت على أن يوقع على العقد الفرع الكندي التابع لهذه الشركة. كانت الأعصاب ما زالت مشدودة. فالحرب الباردة انتهت أو بدت كما لو كانت انتهت، ومع ذلك خافت الحكومة أن يثير التعاقد مع «ماكدونالد»، رمز العولمة والإمبريالية الأميركية، غضب «فلول» الشيوعيين وطلائع القوميين ورواد الكنيسة.
كثيرون، وبينهم فريدمان على ما أذكر، اعتبروا هذا التاريخ، تاريخ افتتاح أول فرع لـ«ماكدونالدز» في موسكو، اليوم الذي حققت فيه مسيرة العولمة أعظم انتصاراتها وأثبتت وجودها. فالمطعم افتتح في موسكو رمز الشيوعية وعاصمة العدو اللدود السابق لأميركا، مما يدل على قدرة ماكدونالدز الجبارة على التغلب على التوترات الدولية والانتقال بالعلاقات بين الدول من حال خصام إلى حال الوئام والسلام.
كثيرون ليسوا أقل عددا، ولا أظن فريدمان بينهم، يعتبرون العام 2014، تاريخ إغلاق هذا الفرع الشهير من سلسلة مطاعم «ماكدونالد»، العام الذى سقطت فيه مسيرة العولمة.
ما حدث في الأسابيع الأخيرة معروف، ولعل بعض جوانبه توقعها متخصصون في شؤون العلاقات الدولية، خاصة من كان منهم غير مولع، ولع فريدمان، بنظريات الأقواس الذهبية والعولمة. بإيجاز شديد، وقع سباق بين كتلتين في أوروبا للحصول على أوكرانيا عضوا في واحدة منها. حاول الاتحاد الأوروبي مستخدما الضغوط الديبلوماسية والإغراءات وأسلوب تحريك قوى المجتمع المدني الأوكراني لتنشب في أوكرانيا تظاهرات تسقط حكومة منتخبة تميل إلى الانضمام إلى التكتل الأوراسي.
من ناحيتها استخدمت روسيا وسائل ضغط مقابلة، كان بينها التهديد بقطع أنابيب الغاز الذي يشغل مصانع أوكرانيا ويدفئ مساكنها. بينها أيضا إثارة النزعات القومية لدى سكان القطاع الشرقي من أوكرانيا، حيث تعيش أعداد كبيرة من أصول روسية، أو عاشت حياتها معتمدة على السوق الروسية. وعندما كسبت بروكسل الجولة الأولى من السباق أقدمت روسيا على الاستيلاء على شبه جزيرة القرم، وإثارة شعب شرق أوكرانيا، وتسليح جماعات فيه للمطالبة بالانفصال عن أوكرانيا.
وفي استعادة لروح الحرب الباردة وأساليبها، أقدم الطرفان على اتخاذ إجراءات تصعيدية. فرض الغرب عقوبات اقتصادية على روسيا، محطِّما بكل بساطة قواعد حرية التجارة، وغير عابئ بأسس مسيرة العولمة، مركزا مقاطعته على النظام المصرفي والقطاع النفطي والصناعة العسكرية. وجاء الرد من روسيا في شكل الدفع بدعم عسكري لقوى الانفصال، وفى شكل لعله جسد بوضوح المغزى الأهم، وهو إغلاق فرع «ماكدونالدز» رمز حرية التجارة وعصر العولمة.
رفض الخبير «الجيواستراتيجي» إدوارد لوتواك « مقولات فريدمان، بل راح وقتها في نقده بعيدا حين تنبأ بأن العولمة ستكون هي نفسها مصدرا أساسيا للتوترات الدولية على عكس ما بشر به فريدمان. قال إدوارد إن قوى العولمة ذاتها هي التي ستعمل على إشعال نيران حروب باردة وساخنة جديدة، و إنها سوف تتسبب في توترات بين الشعوب كما بين الحكومات وشعوبها. ولعله كان على حق، إذ إنه منذ بدايات المرحلة التي أعقبت سقوط الشيوعية، وفي وقت تخيلنا جميعا أن الوئام سيحل بين الغرب والشرق، رأينا ما يلي:
أولا: هوليوود إحدى أهم قوى العولمة ورموزها ترفض القبول بواقع انتهاء الحرب الباردة، وتصر على مواصلة إنتاج أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية بمضمون شديد العداء لروسيا برغم تخليها عن الشيوعية. صحيح أن هوليوود لم تكن تعمل من فراغ، إذ كان هناك بين المحافظين الجدد، والمتخصصين في دراسات الكرملين والشيوعية، من استمروا في نشر العداء ضد روسيا، حتى وهي تحت حكم أصدقاء لأميركا مثل غورباتشوف ويلتسين، ولكنه صحيح أيضا أن هوليوود لفتت النظر بإصرارها العنيد على تعميق العداء. فمن أعمالها المثيرة للكراهية للروس Legends ,The Last Ship, The November man وفيلم انجلينا جولي باسم Salt، بل ويذكر الكثيرون منا حملة انتخابات الرئاسة الأخيرة حين وقف ميت رومني معلنا روسيا العدو «الجيوبوليتيكي» رقم 1 للولايات المتحدة.
ثانيا: حقق الاعتماد المتبادل عن طريق التجارة نتائج متناقضة، في الوقت الذي تعلقت نظريا بإيجابياته أقطار العالم بأسره، فتغافلت عن السلبيات، حقق شبكة قوية للتجارة العالمية وشبكات مصارف قوية، ولكنه ساعد على إقامة تكتلات اقتصادية هي في الحقيقة «تكتلات إقصائية». فقد اهتم الاتحاد الأوروبي بمنع غير الأوروبيين من الحصول على عضوية الاتحاد وجعل من هذا المنع سلاحا مصوبا الى روسيا وغيرها. قامت أيضا مجموعة «البريكس» بغرض إقصاء «الغرب» عن مستقبل العالم النامي، وأقام الأميركيون تكتلا عابرا للباسيفيكي يستبعد الصين وروسيا. بمعنى آخر لعبت العولمة دورا خطيرا في إثارة التوتر في العالم وتفتيت التجارة الدولية واستخدامها لتحقيق أغراض سياسية.
ثالثا: كانت العولمة تعني، لدى الغرب خاصة، ولكن أيضا لدى شعوب متطلعة في العالم النامي، قيام حكومات رشيدة تعتمد الديموقراطية وتخدم الحريات والحقوق باعتبارها «قيم عولمة» أو «قيم عالمية»، وقد حاول الغرب الربط بين حرية التجارة والحرية السياسية، كما فعل بالنسبة لـ«ماكدونالد» وغيره من رموز العولمة وبين القيم الديموقراطية. قالها فريدمان في أكثر من مكان. قال إن دولتين تحظيان بوجود «ماكدونالدز» فيهما لا يمكن أن ينشب بينهما نزاع سياسي.
رابعا: كان التصور غير القابل للجدل وقتها، أن شبكة «الإنترنت» ولدت وعاشت وستظل الجهة الراعية للعولمة بامتياز، وكذلك للاعتماد المتبادل بين الأمم. لذلك لا يجوز التهوين من فداحة الضرر الذي أصاب العولمة بالتمرد الذي قام به إدوارد سنودن، وما أعقب هذا التمرد من نزاعات ليست هينة بين ألمانيا وأميركا، وبين البرازيل وأميركا. ولكن الأهم والأخطر هو التوتر الناشب فعلا في المجتمعات بين الحكومات وشعوبها، حول عمليات التنصت والتجسس، وحول هدم قيم الخصوصية والكرامة الإنسانية.
[[[
شتان ما بين الآمال التي عقدها البسطاء من المفكرين والسياسيين في نهاية القرن الماضي على العولمة وثمارها، وبين خيبتهم التي لا تخفيها الآن كل الاطراف المتضررة من العولمة. الشواهد عديدة على انحسار العولمة، ولا أقول سقوطها. نتطلع ناحية الصين فنراها تعمل منذ شهور بكل طاقتها على توسيع سوقها الداخلية، ودعم قدرات المواطنين على الاستهلاك استعدادا لمواجهة قصور العولمة وتراجعها، ونتطلع ناحية روسيا، فنجدها مصرة أكثر من أي وقت مضى على حماية اقتصادها وشعوبها من شرور «العولمة» التي أجبرت روسيا على الاندماج فيها فور تخلصها من استبداد الشيوعية. تحاول روسيا إقامة كيان «أوراسي» يحمي اقتصادها ويوسع دائرة نفوذها. نتطلع ناحية غرب أوروبا، لنرى ألمانيا عاقدة العزم على «ضبط « أوروبا الغربية، وعدم السماح لقوى العولمة المتطرفة بإثارة فوضى جديدة في أسواق المال والتجارة. ومن غير المستبعد أن تفاجئنا ألمانيا في القريب العاجل باقتراح إدخال تعديلات على اتفاقيات التجارة الدولية، وحول انتقال رؤوس الأموال والأفراد، وهي الاتفاقات التي تشبعت، مع غيرها، بروح العولمة. ولن تكون منفردة في هذا العزم فقد سبقتها المملكة المتحدة حين هدد رئيس حكومتها بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، إن لم يتخل عن بعض أهم مبادئ العولمة.
جميل مطر