البشائر الغزية من الآيات القرآنية
تاريخ النشر: 10/09/14 | 11:00أشرنا في الحلقة السابقة الى انتصار الفئة القليلة المؤمنة على الكثرة، حيث بارك الله بالقليل ومدحه (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) وقال تعالى: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ..) وقال تعالى (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) وقوله: (وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ)، وقال بعض العلماء: ان الكثرة ليست ممدوحة في كتاب الله، وانما الممدوح الاقلون، لانا سمعنا الله يثني على اهل القلة ويمدحهم، ويذم اهل الكثرة، ويوبخهم في قوله: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ) وقوله: (فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ) وقوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا…).…ومن هنا ندرك ان القلة تعبير صادق عن رفض الاكثرية (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) وما ضر الامام احمد بن حنبل يوم كان معه الحق في فتنة خلق القران وهو واحد بنفسه كثير باخوانه، وقول علي بن ابي طالب: لا تزيديني كثرة الناس حولي عزة ولا تفرقهم عني وحشة ”
وقد جاء في وصف الفئة القليلة المؤمنة من اصحاب رسول الله؛ فعن أبي إسحاق قال: “كان أصحاب رسول الله؛ لا يثبت لهم العدو فواق ناقة” أي: مدة حلبها عند اللقاء، فقال هرقل لما قدمت منهزمة الروم: “ويلكم أخبروني من هؤلاء الذين يقاتلونكم؟! أليسوا بشرًا مثلكم؟!” قالوا: بلى، قال: “فأنتم أكثر أم هم؟” قالوا: “بل نحن أكثر أضعافًا في كل موطن”، قال “فما بالكم تنهزمون؟!” فقال شيخ من عظمائهم: “من أجل أنهم يقومون الليل ويصومون النهار، ويوفون بالعهود ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويتناصفون فيما بينهم ويتناصحون، ومن أجل كوننا نشرب الخمر ونزني ونرتكب الحرام وننقض العهود ونغصب ونظلم ونأمر بما يسخط الله -عز وجل- وننهى عما يرضي الله ونفسد في الأرض”. فقال: “أنت صدقتني”.
وقال ابن قيم الجوزية في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد: “ولما رأى المنافقون ومن في قلبه مرض قلة حزب الله وكثرة أعدائه ظنوا أن الغلبة إنما هي بالكثرة وقالوا: {غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُم} فأخبر سبحانه أن النصر بالتوكل عليه لا بالكثرة ولا بالعدد والله عزيز لا يغالب حكيم ينصر من يستحق النصر وإن كان ضعيفا فعزته وحكمته أوجبت نصر الفئة المتوكلة عليه..”
وقال الشاطبي في الاعتصام: ” وهذه سنة الله في الخلق، أن أهل الحق في جنب أهل الباطل قليل، لقوله تعالى (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) وما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: طوبى للغرباء. قيل: ومن الغرباء يا رسول الله ؟. قال: أناس صالحون قليل في ناس سوء كثير
وانقل كلاما جميلا لسيد قطب في الظلال عن ادب انتصار الفئة المؤمنة على الكثرة الكافرة وما يتطلب من انضباط اخلاقي وايماني فقال في تفسير سورة النصر (…ان المدلول الثابت والتوجيه الدائم الذي جاءت به سورة النصر.. عن حقيقة ما يجري في هذا الكون من أحداث، وما يقع في هذه الحياة من حوادث. وعن دور الرسول ودور المؤمنين في هذه الدعوة، وحدهم الذي ينتهون إليه في هذا الامر.. هذا الإيحاء يتمثل في قوله تعالى: (إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ…).. فهو نصر الله يجيء به الله: في الوقت الذي يقدره. في الصورة التي يريدها. للغاية التي يرسمها. وليس للنبي ولا لأصحابه من أمره شيء، وليس لهم في هذا النصر يد. وليس لأشخاصهم فيه كسب. وليس لذواتهم منه نصيب. وليس لنفوسهم منه حظ ! إنما هو أمر الله يحققه بهم أو بدونهم. وحسبهم منه أن يجريه الله على أيديهم، وأن يقيمهم عليه حراسا، ويجعلهم عليه أمناء.. هذا هو كل حظهم من النصر ومن الفتح ومن دخول الناس في دين الله أفواجا..
وبناء على هذا الإيحاء وما ينشئه من تصور خاص لحقيقة الأمر يتحدد شأن الرسول ومن معه بإزاء تكريم الله لهم، وإكرامهم بتحقيق نصره على أيديهم. إن شأنه – ومن معه – هو الإتجاه إلى الله بالتسبيح وبالحمد والاستغفار في لحظة الانتصار.
التسبيح والحمد على ما أولاهم من منة بأن جعلهم أمناء على دعوته حراسا لدينه، وفتحه على رسوله ودخول الناس أفواجا في هذا الخير الفائض العميم، بعد العمى والضلال والخسران.
والاستغفار لملابسات نفسية كثيرة دقيقة لطيفة المدخل: الاستغفار من الزهو الذي قد يساور القلب أو يتدسس إليه من سكرة النصر بعد طول الكفاح، وفرحة الظفر بعد طول العناء… فمن هذا يكون الاستغفار.
والاستغفار مما قد يكون ساور القلب أو تدسس إليه في فترة الكفاح الطويل والعناء القاسي، والشدة الطاغية والكرب الغامر.. من ضيق بالشدة، واستبطاء لوعد الله بالنصر، فمن هذا يكون الاستغفار.
والاستغفار من التقصير في حمد الله وشكره. فجهد الإنسان، مهما كان، ضعيف محدود… فمن هذا التقصير يكون الاستغفار..
وهناك لطيفة أخرى للاستغفار لحظة الانتصار.. ففيه إيحاء للنفس واشعار في لحظة الزهو والفخر بأنها في موقف التقصير والعجز. فأولى أن تطامن من كبريائها. وتطلب العفو من ربها. وهذا يصد قوى الشعور بالزهو والغرور
ثم إن ذلك الشعور بالنقص والعجز والتقصير والإتجاه إلى الله طلبا للعفو والسماحة والمغفرة يضمن كذلك عدم الطغيان على المقهورين المغلوبين. ليرقب المنتصر الله فيهم، فهو الذي سلطه عليهم، وهو العاجز القاصر المقصر. وإنها سلطة الله عليهم تحقيقا لأمر يريده هو. والنصر نصره، والفتح فتحه، والدين دينه، وإلى الله تصير الأمور…. وهذا هو الأدب الذي اتسمت به النبوة دائما، يريد الله أن ترتفع البشرية إلى آفاقه، أو تتطلع إلى هذه الآفاق دائما..
كان هذا هو أدب يوسف – عليه السلام – في اللحظة التي تم له فيها كل شيء، وتحققت رؤياه:(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا …) وفي هذه اللحظة نزع يوسف – عليه السلام – نفسه من الصفاء والعناق والفرحة والابتهاج ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر. كل دعوته وهو في أبهة السلطان وفي فرحة تحقيق الأحلام:
(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة توَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ…).. وهنا يتوارى الجاه والسلطان، وتتوارى فرحة اللقاء وتجمع الأهل ولمة الإخوان.
وكان هذا هو أدب سليمان عليه السلام وقد رأى عرش ملكة سبأ حاضرا بين يديه قبل أن يرتد إليه طرفه: (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَٰذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ..)
وهذا كان أدب محمد في حياته كلها، وفي موقف النصر والفتح الذي جعله ربه علامة له.. انحنى لله شاكرا على ظهر دابته ودخل مكة في هذه الصورة. مكة التي آذته وأخرجته وحاربته ووقفت في طريق الدعوة تلك الوقفة العنيدة.. فلما أن جاءه نصر الله والفتح، نسي فرحة النصر وانحنى انحناءة الشكر، وسبح وحمد واستغفر كما لقنه ربه، وجعل يكثر
من التسبيح والحمد والاستغفار كما وردت بذلك الآثار.
فمن الادب بعد النصر: التواضع بدل الإحساس بالغرور والخيلاء والتكبر، وشكر الله على النعمة، الذكر والتسبيح، الاستغفار وتجديد التوبة، والتمييز والتمحيص بعد النصر حيث يتميز فيه من يريد الدنيا (مغانم ومناصب) ممن يريد الآخرة، الاتحاد ومنع التنازع، والإقبال على بناء مصالح الدين والدنيا، وتوثيق الصلة الروحية بالله عز وجل – الذي هو صاحب النصر الحقيقي – وامتلاك النفس الطويل، فإذا ضيّع المرء سنن النصر، ضاع وأضاع. فلا الهزيمة تدوم، ولا النصر يدوم، وكل بأسبابه.
بذلك، فقد شاءت إرادة الله -سبحانه وتعالى- أن يُعلِّمَ الفئةَ المؤمنةَ، في كل زمانٍ ومكان، أنّ الحق منتصر وان قل انصاره، وان الباطل مندحر وان كثر خبثاؤه.
الشيخ محمود اغبارية
رئيس لجنة نشر الدعوة القطرية