اللص الشيطان

تاريخ النشر: 10/09/14 | 22:06

وقعت أحداث هذه القصة الغريبة في اليمامة التي تقع وسط الجزيرة العربية وتتبع المملكة العربية السعودية. أما زمان الأحداث فهو آخر القرن الأول الهجري فيعهد أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك ” الحجاج الثقفي ” والي العراق والمشرق .في ذلك الزمان عاشت اليمامة شهوراً حزينة تمتلئ بالقلق والخوف والرعب … الناس ينامون خائفين ، ويمشون فيالشوارع غير آمنين ، وكل منهم يتوقع أن يكون هو الضحية القادمة .. فالكل مهددونفي أية ساعة من الليل والنهار … فاللص الغامض ينهب الأغنام والأموال
دون أن يرده أحد . وذات يوم حاول بعض الفتيان الأشداء أن يتعرضوا طريقه ويمنعوه من السرقة ويستردوا منه بعض ما نهب .. كان الوقت ظهراً ، واللص الغامض يتحرك في الشوارع واثقاً من نفسه ، وعندما تصدى له الفتيان قاتلهم في مهارة وشراسة وسرعة ، ففروا ومن يومها خاف الناس أن يتصدوا له وقالوا : إنه ليس لصاً عادياً … إنه شيطان في ثوب لص أو لص من الشياطين ، وحكى الناس عنه حكايات كثيرة غريبة بعضها حدث والبعض الآخر لم يحدث ، وأصبحت حكاية هذا اللص الشيطان على كل لسان . وانتشر خبر هذا اللص من حي إلى حي ، ومن مكان إلى مكان ، وعم الفزع البلاد ، حتى الحراس والخفراء أصابهم الفزع … ووصل الخبر إلى والي البلاد وحاكمها الحجاج والي العراق والمشرق ـ ومن بينها تهامة ـ فغضب أشد الغضب ، وكتب إلى حاكم إقليم تهامة يؤنبه لعجزه عن القبض على ذلك اللص الشيطان ، وأمره أن يقتله أو يرسله إليه أسيراً ، وهدد الحجاج حاكم إقليم تهامة بأنه إذا عجز عن القبض على اللص الشيطان فسوف يبدله بحاكم آخر أقوى منه . وفي الحقيقة أن حاكم اليمامة كان يعرف من هو اللص ، وكان يعرف اسمه .. فهو ” جَحْدَرْ ” أخطر لصوص البلاد على الإطلاق .. وكان حاكم اليمامة في حيرة وضيق لأن رجاله عجزوا عن القبض على ” جحدر ” .. لكن لما وصل الأمر إلى الحجاج وأحس بأنه قد يعزله ويولي غيره .. بدأ يفكر في حل حاسم لمواجهة هذه المشكلة .. إن المواجهة مع جحدر تنتهي دائماً لصالحه ، إذن .. لا مفر من اللجوء إلى الحيلة والمكر والخديعة . اختار الحاكم فتيان أشداء شجعاناً أذكياء ، واتفق معهم على مكافآت ضخمة إن هم أحضروا له جحدر مقيداً أو مقتولاً ، ودبر معهم خطة الخديعة ، وترك لهم مهمة تنفيذها أرسل الفتيان إلى جحدر أنهم ضاقوا بالحياة فيقومهم ، وأن قومهم ضاقوا بهم لأنهم اعتادوا السرقة والنهب ، وأنهم سمعوا بجرأة جحدر وأعجبوا به ومن الخير لهم وله أن يجعلوه زعيماً عليهم يعملون تحت أمره ، وينفذون خطط السرقة التي يحددها لهم ، ثم يعطيهم نصيبهم الذي يرضاه لهم مما سرقوا على ألا يزيد ما يأخذه عن الربع من كل حصيلة ، وعرضوا عليه أن يجربهم بعض الوقت فإن أرضته شجاعتهم استمروا معه ، وإلا سرقوا لحسابهم هم فقط . كان جحدر شديد الثقة بنفسه ولا يتصور أن أحد يمكن أن يخدعه أو يغلبه ، فوافق على عرض الفتيان ، وجربهم مراراً وأعجبته حيلتهم وشجاعتهم ، وراح جحدر يحلم بأنه في أقرب وقت سيصبح أغنى أغنياء اليمامة بفضل جهود وإخلاص هؤلاء الفتيان . ولما تأكد الفتيان أنه أنس إليهم ووثق بهم تآمروا على انتهاز أول فرصة تتاح لهم للقبض عليه . وسرعان ما أقبلت الفرصة المناسبة ، ففي ليلة من الليالي نام جحدر بين الفتيان مطمئناً إلى حمايتهم له ، ولهذا ألقى سيفه بعيداً قبل نومه وخلع خنجره ، فهو لا يحتاج إلى سلاح ما دام ينام بين أصدقائه ، وكان النسيم منعشاً والأرض ساكنة ، فنام جحدر نوماً عميقاً ، والفتيان ينظرون إليه في حذر ، وينظرون إلى بعضهم البعض نظرات خاطفة كأنهم يخشون أن يراهم فيفهم ما يدور في عقولهم . وأطلق كبير الفتيان إشارة البدء التي اتفق عليها فتحركوا جميعاً في خفة وحذر وأحضروا الحبال المتينة التي جهزت من قبل وقيدوا يدي جحدر ورجليه بالحبال وشدوا ذراعيه إلى جسمه شداً يكاد يكسر أضلاعه . وأثناء ذلك صحا جحدر من نومه ونظر حوله في ذهول ، ووجد أن القيد محكم يستعصي على المقاومة فصمت في غيظ وكبرياء ، وأغمضوا عينيه بقطعة من قماش حتى لا يعرف ما يدور حوله أو الطريق الذي يمشون فيه .. ورغم شدة القيد أفزعهم سكونه الغامض واستسلامه لابد أنه سيفاجئهم بشيء لم يحسبوا حسابه ، ومضت الساعات ثقيلة وأعصابهم مرهقة متوترة إلى أن وصلوا إلى حاكم اليمامة فرحين فائزين بالمكافأة الكبيرة المنتظرة ، وسعداء لأنهم خلصوا أهلهم أخيراً من هذا اللص الشيطان . عندما رآهم حاكم اليمامة لأول وهلة صاح منتشياً : الحمد لله … الحمد لله … ما أشجعكم أيها الفتيان … بارك الله فيكم … أخيراً سيرضى عنه الوالي الحجاج … ولم يضيع وقتاً وأرسل إلى الحجاج في الكوفة بالعراق رسالة عاجلة مع بعض الفرسان ، يزف إليه النبأ السعيد . وسمع الناس بسقوط اللص الشيطان فازدحمت بهم الطرقات يترقبون رؤية اللص وهو مكبل بالقيود . كان الناس يتخيلون جحدراً عملاقاً ضخم الجسم ، قوي العضلات ، فلما رأوه نحيف الجسم متوسط القامة صغير الرأس لم يصدقوا عيونهم … كانوا يتصورون جحدر على هيئة شيطان ، وأرسل الحجاج في طلب جحدر .. فنقل إليه فاجتمع حوله جمع من القادة وكبراء القوم ليروا الجبار الذي صار ذليلاً . وقف جحدر بين يدي الحجاج … وسأله الحجاج وقد أدهشته ثباته : * أنت جحدر ؟. * نعم .. أنا جحدر بن ربيعة . * وما الذي دفعك إلى ارتكاب جرائمك ؟. * ظلم الزمان ، وجرأة القلب ، وإفلاس الجيب ، وجبن الناس . دهش الحجاج لجرأة هذا اللص وفصاحة لسانه وصراحته رغم اقترابه من الموت والهلاك ، واستمر الحجاج في سؤاله : * هل تعرف ما هو عاقبة أمرك ، ونتيجة أفعالك !! . * لو اخترتني أيها الأمير… وجعلتني من فرسانك لرأيت مني ما يعجبك . * أنت تكون من فرساني !!! هاهاها … إن اللصوص لا يحسنون غير السرقة والتلصص ، فلا تطمع في شيء غير الجزاء المحتوم . * لو جربت حكمتي في المآزق لوجدت مني ما يسرك . * سنجربك لنرى . * أعز الله الأمير… إنني أقبل بأي شروط للتجربة . * لكنها تجربة قاسية ، الموت أهون منها … * للأمير أن يأمر بما يريد . * إنها تجربة في غير ميدان الحرب المعروف والمألوف . * أنا مستعد للتجربة .. أية تجربة . * ليست التجربة مع واحد من البشر . * حتى لو كانت مع جني . * ولا مع جني . * أيها الأمير ، أنا في طاعتك منذ الساعة ، فجربني بما تريد . * سألقي بك أمام أسد شرس فتاك ، وليس معك سلاح إلا السيف ، فإن قتلك تكون نلت عقابك ، وإن قتلته عفونا عنك . * أصلح الله الأمير … لقد دنا الفرج ، وقرب العفو . * لا تفرح هكذا ، فهناك مفاجأة في انتظارك . * أمر الحجاج بحبس جحدر ، وكانت المفاجأة أن الحجاج أعد لجحدر أسداً شرساً لا أشرس منه ، أمر بمنع الطعام عن الاسد لتجويعه لمدة ثلاثة أيام حتى لا يفلت منه جحدر … وجاء يوم الصراع … وعرف الناس به ، وكان يوماً قائظاً شديد الحرارة ، لكن الناس حضروا ولم يبالوا بالحر في زحام كبير ، كما حضر الحجاج وقواده ووزراؤه هذا المشهد النادر … ورغم كراهية الناس لجحدر لكنهم أشفقوا عليه من مواجهة الأسد ، فلابد أن الاسد سيلتهمه بعد ثلاثة أيام من الجوع ، فياله من منظر مروع . أشار الحجاج إشارة فأخرجوا الأسد إلى مكان الصراع ومشى الأسد يبحث في غرور عن طعامه القادم ، كان الأسد ضخماً ، كبير الرأس ، حاد الأنياب ، محمر العينين ، معروف بضحاياه الكثيرة من الناس والحيوانات ، عندما رآه الناس ذعر أكثرهم وأيقنوا أن جحدر النحيل لن يقف أمام هذا الأسد لحظات معدودة يصير بعدها عظاماً وحطاماً . وأشار الحجاج إشارة ثانية ، فاحضروا جحدر قد تعرى معظم جسده ، وبيده سيف فانحنى جحدر أمام الحجاج في ثبات وقوة قائلاً : * أعز الله الأمير … هذه ساعة النهاية ، فهل أنال عفوك إذا انتصرت ؟. * إن انتصرت عفونا عنك . وأنزلوا جحدر إلى حفرة الأسد الواسعة فنزل ثابتاً بلا خوف ولا تردد .. كأنه ذاهب لصيد غزالاً ، فلما رآه الأسد مقبلاً عليه زأر زئيراً قوياً أرعب الحاضرين المتفرجين فدقت قلوبهم دقاً عنيفاً ، أما جحدر فكان يتقدم إلى الأسد لا يفر ولا يتقهقر ولا يستعطف ، إنه يعتبره مجرد عدو طارئ وسمعه المتفرجون ينشد بصوت قوياً جريء . ليث وليث . في مجال ضنك . كلاهما ذو قوة وسفك . وعلى غير ما كان يتوقع الجميع بدأ جحدر بالهجوم على الأسد بعد أن أطلق صيحة مدوية ، وحين رأى الأسد ذلك اتجه مسرعاً نحو جحدر وبخفة خاطفة انفلت جحدر من أمام الأسد ، وعندما استدار الأسد باتجاه جحدر كان سيف جحدر في استقبال هجمة الأسد فكانت ضربة مؤثرة لكنها غير قاتلة . قفز الأسد إلى الوراء ليعيد الانقضاض والهجوم على جحدر وقد آلمه الجرح ففتح فمه وظهرت أنيابه كالسهام ، وفي لحظات تقدم الأسد إلى جحدر فأسرع بضربة في رقبته ضربة قاتلة . حينئذ كبر الناس وانقلبوا من كره جحدر إلى الإعجاب به ، وتمنوا لو كانت هذه الشجاعة وذلك الذكاء يستفاد منه لخير الناس بدلاً من الاجرام ، أما جحدر فقد مسح عرقه بيده ومشى إلى الحجاج مشية لا كبر فيها ولا زهو ، فصافحه الحجاج وقال له : ما أشجعك يا جحدر .. إنني أخيرك بين أن تقيم عندي مكرماً وأن أعيدك إلى اليمامة على أن لا تؤذي أحداً ويستقيم سلوكك ، فقال جحدر وقد تأكد أن الحجاج سينفذ وعده : أيها الأمير… أفضل أن أكون معك ، وأعاهدك أن أكون سيفك على العصاة والمجرمين . وحقق له الحجاج رغبته وأصبح حامياً لأموال الناس وأرواحهم ليكفر عن ذنوبه وآثامه … وكان يقضي في العبادة والصلاة باكياً نادماً على ما فعل راجياً التوبة من الله التواب الرحيم .

5

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة