دراسة لديوان “حين يجن الحنين” للشاعرة حنان جريس خوري
تاريخ النشر: 14/09/14 | 9:01مقدِّمة: هذا أوَّلُ ديوان يصدرُ للشَّاعرةِ الشَّابَّةِ والمتألِّقةِ “حنان جريس خوري” – من مدينةِ “حيفا ” – إصدار منشورات “مواقف”، ويقعُ في 68 صفة من الحجم المتوسط الكبير، مطبوعٌ طباعة أنيقة وتحلِّيهِ صورة ٌ للبحر على الغلافِ من الوجهين وصورة ٌ صغيرة على وجهِ الغلاف للشَّاعرةِ.
إنَّ شاعرتنا الشَّابَّة إستطاعت في فترة ٍ زمنيَّةٍ قصيرةٍ جدًّا أن تُثبتَ حضورَهَا ومكانتها الأدبيَّة والشِّعريَّة على السَّاحةِ المحليَّةِ وتحققَ النجاحَ وَتُكوِّنَ لنفسِها إسمًا وشهرة ً وانتشارا واسعا لم يُحققهُ شعراءٌ آخرون لهم أكثر من ثلاثين وأربعين سنة في عالم الكتابةِ والأدب.
والجديرُ بالذكر انَّ شاعرتنا محظوظة ٌ جدًّا فبالإضافةِ إلى مستواها الرَّاقي والعالي في كتابةِ الشِّعر هنالك العديد من المؤسَّساتِ وألأطر والجهاتِ والتجمُّعاتِ الثقافيَّةِ والأدبيَّةِ اهتمَّت بها كثيرا وركزَّت عليها الأضواءَ وعملت على إبرازها وشهرتِها.. فدائما تُدعَى إلى الأمسياتِ والندواتِ الثقافيَّةِ في مدينةِ حيفا وغيرها لتشاركَ وتلقي أمامَ الجمهور والحضور شيئا من إنتاجها الشعري..
وإحدى المؤسسات الثقافيَّة “مواقف” قد تبنَّت ديوانهَا هذا وطبعتهُ على نفقتها… مع أنَّ هنالك شعراء وكتابا كبارا من ناحيةِ السِّنِّ والإبداع أرسلوا إنتاجَهم وقصائدهم إلى مؤسسةِ مواقف وللمجلةِ التي يصدرها أصحابُ المُؤَسَّسة ولم ينشر القيِّمُون على هذا المجلَّة والمؤسسة أيَّة َ مادَّةٍ لهم… وهؤلاء الشعراء والكتاب بغضِّ النظر عن ذكر أسمائِهم نُشِرَ إنتاجُهم وإبداعُهم في المئاتِ من وسائل الإعلام الراقية (صحف مجلات ومواقع – محليَّة وخارج البلاد – في العالم العربي) وفي أحسن وأرقى الصُّحف…وأما مجلة مواقف فمحدودة الإنتشار والكثيرون لا يسمعونَ بها.
ولنرجع إلى الديوان فهو على مستوى عال جدًّا ومن يقرأهُ لا يقول إنَّ صاحبتهُ الشَّاعرة في بدايةِ مشوارها، بل لها تجربة ٌ طويلة ٌ في الكتابةِ تمتدُّ إلى أكثر من من ثلاثين وأربعين سنة…
مدخلٌ: هذا الديوان “حيِنَ يُجَنُّ الحنين” يحوي مجموعة من القصائد الشعريَّةِ الحديثةِ البعض منها متحرِّر من الوزن والبعض الآخر موزون. وهنالك بعضُ القصائد تستعملُ الشَّاعرة ُ فيها عدَّة تفاعيل (في كل قصيدة) ولا تلتزمُ بوزن وبتفعيلةٍ مُوَحِّدةٍ.. وَتُترعُ هذه القصائد موسيقى داخليَّة أخاذة وهي قريبة جدًّا إلى نمطِ شعر التفعيلة.
وقصائد الديوان تتناولُ مواضيعَ عديدة: غزليَّة، إنسانيَّة، وجدانيَّة سياسيَّة ذاتيَّة وفلسفيَّة..إلخ.
وسأركزُ الأضواءَ في هذه المقالةِ على بعض القصائد من الديوان لكي يتسنَّى للقارىءِ أخذ فكرةٍ كاملةٍ عن هذا الديوان ومضامين قصائدهِ وابعادِها البلاغيَّةِ والفكريَّةِ والفنيَّة!!. وسأستهلُّ الدراسة بقصيدةِ: (“حبٌّ.. وطن.. وأعنية “- صفحة 6 -7 -).
هذه القصيدة غزليَّة ووطنيَّة وتذكرنا بشعراءِ المقاومةِ في فترةِ الخمسينيَّات إلى أواخر السَّبعينيَّات من القرن الماضي حيث كانوا يُشبِّهُونَ الوطنَ والأرضَ بالمرأةِ والفتاةِ الجميلة.
تقولُ الشَّاعرة ُ في القصيدةِ:
(“بيني وبينكَ حُبٌّ// ووطنٌ…// وأغنيَّهْ//
واللَّيلُ بعينيكَ يُحِيكُ أحجيَهْ//
بيني وبينكَ نغمٌ// طوتهُ سطورٌ منسيَّهْ//
نغمٌ عذبٌ…// خضَّبَ شمسَ الحُرِّيَّهْ//
رسمَهُ الفجرُ حُبًّا// وردًا…// يلوِّنُ عُمقَ بندُقيَّة//
بيني وبينكَ حُلمٌ// ووَطنٌ…// وأغنيَّهْ//
والليلُ بعينيكَ.. ما زالَ…// يُحيكُ أحجيه ْ//
والليلُ بعينيكَ ما زالَ يُحيكُ أحجيَّهْ//”).
هذه القصيدة ُمن الناحيةِ اللفظيَّةِ والشكليَّةِ والذوقيَّةِ جميلة ٌجدًّا وعذبة تُترعُهَا موسيقى داخليَّة ٌ أخاذة ٌ تغني عن بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي التقليديَّة وهنالك بعض المقاطع جاءت موزونة ًعلى بحرالخَبَب أو المتدارك (الرومانسي الثوري كما يسمونهُ).
تخاطبُ الشَّاعرة ُ هنا فارسَ أحلامِها الذي يجمعُهَا معهُ الحُبُّ الكبير والوطنُ والأغنية التي ترمزُ إلى كلِّ شيىءٍ جميل: للحياةِ والإشراق ِ والسَّعادةِ والهناء والدِّفءِ.. ولكنَّ الليلَ بعينيِّ هذا الحبيب يحيكُ وينسجُ أحجية ً ولغزا…أي أنَّ هنالك غموض ٌ وحزنٌ وأسرارٌ في عينيِّ حبيبها (الليل يرمزُ للحزن واليأس والمرارةِ وللأسرار والغموض).
وتقولُ أيضا: إنَّه بينها وبين حبيبها النغم والموسيقى الجميلة التي طوتها سطورٌ منسيَّة.. والسُّطورُ قد تكونُ السنين الصّعبة أو العراقيل والمآزق وتجارب ومشاق الحياة.. وهذا النغمُ الذي يَجمعُهَا مع الحبيب خَضَّبَ شمسَ الحريَّة..أي أنها وحبيبها يسعيان نحوَ بناءِ مستقبل زاهر رائع، والشَّمسُ هي الحريَّة ُوالسَّعادة، فهما(هي والحبيب) كانا في تفائل يعيشان أحلامَهما الدَّافئة َ لدرجةٍ انهما خَضَّبا الشَّمسَ بغنائِهما وشدوهِمَا الرَّائع الذي يشعُّ منهُ كلُّ معاني وأبعاد الحريَّة.. والفجرُ انبثقَ من هذه الشَّمس التي خضَّباها بأنغام الحريِّة فرسمَ الفجرُ الحبَّ والوردَ الذي يُلوِّنُ عمقَ بندقيَّة..أي عمق النضال والكفاح، والفجرُ هو رمزٌ للإستقلال والتحرُّر أيضا.
وهذه القصيدة ُ في تضاريسِهَا وشكلها هي دائريَّة ٌ.. أي أن الشَّاعرة ُ تبدؤُهَا بجملةٍ وتنهيها بنفس الجملةِ أيضا كالتالي:
(“بيني وبينكَ حلمٌ ووطن// وأغنيَّه..//… وهنا وضعت الشاعرة كلمة حلم بدلا من كلمة (حب) وتتابع وتكرِّرُ نفسَ الجملة التي وضعتها في مقدِّمة القصيدة: والليلُ بعينيكَ..ما زالَ..يُحيكُ أحجيَّهْ//.
وقد وضعَت نقاطا بين كلِّ عبارةٍ أو نصفِ جملةٍ للدلالةِ على الحيرةِ وكأنَّ هذه الأشياء والأمور لم تكن تتوقعها، بل كان من المتوقع أن يكون شيىءٌ آخر غير الأحجية والطلاسم التي يُحيكها الليلُ بعينيِّ حبيبها.
بالنسبةِ لمستوى القصيدةِ من الناحيةِ الفنيَّةِ ومن ناحيةِ السَّبكِ والبناء واللغةِ الشِّعريَّةِ والصور الحِسِّيَّةِ والإستعارات فهي على مستوى عال جدًّا وتعتبرُ قصيدة ً حديثة فيها التجديدُ والإبتكارُ والإبداعُ والتألُّقُ.. ويتجلَّى فيها البُعدُ العاطفي والوطني وفلسفة ُ حُبِّ البقاء والكفاح والمقاومة ( يُلوِّنُ عمقَ بندقيَّة).. والحبيبُ هو الوطنُ والوطنُ هو الحبيبُ بالنسبةِ لها فكلاهما سَيَّان، وهي الأغنية ُ الجميلة ُ والفجرُ المنشودُ والمستقبل المشرق لهما.
ولننتقل إلى قصيدةٍ أخرى بعنوان: (“رقص فينيق والنار” – صفحة 11 – 12) – وهذه القصيدةُ وطنيَّة ٌ بحتة يشوبُهَا الطابعُ الذاتي والوجداني وفيها لغة ونبرة ُ التحَدِّي والتصدِّي والنضال.. تتحدَّثُ فيها عن الشَّعبِ الفلسطيني أو بالأحرى تتحدَّثُ على لسان كلِّ فلسطيني شُرِّدُ وعانى كثيرًا من حصار وجوع.. إلخ.. في المنافي.. فتقولُ قي مقدِّمةِ القصيدةِ:
(“هنا سنغنِّي// هُنا سنحلُمُ// ونحلمُ..// بالنجمِ.. بأنداءِ النهار ِ//
هُنا…// وعلى قمَّةِ التاريخ المنهار ِ
سنكبرُ ونكبرُ// رغم بردِ المَرافِق ِ//
رغمَ ليل الصَّواعق ِ//
… سنكبرُ…// حتى يموجَ الفرحُ ويترقرقْ//
ونكبرُ.. رغمَ غاباتِ التيه ِ// رغمَ هوَّةِ الإعصار ِ
نغنِّي للشَّمس ِ//
نطوي الجراحَ في خُصُلاتِ الأمس//
لتدفقَ كالحُبِّ أنهارُ المُنى//
وهُنا.. وهُنا..// وعلى قمَّةِ التاريخ المنهار
سنغنِّي// سنحلمُ// برقص فينيقَ والنار..
ونمتدُّ… خطواتِ رحيق//
في حقول من غار..//
ونحلمُ… بروعةِ الرَّقص ِ وفينيقَ//
فوقَ قمَّةِ التاريخ المُنهار//”).
هذه القصيدة ُ معانيها وأهدافها مفهومة ٌ وواضحة ٌ لكلِّ قارىء مثقفٍ رغم عُمقها وأبعادها الفكريَّة..
تتحدَّثُ الشَّاعرة ُ كما ذكرَ أعلاه على لسان الفلسطينيِّين الذين لاقوا وذاقوا وكابدوا الأهوالَ والرزايا والمآسي وشُرِّدُوا من أوطانِهم وبرغم الحصار ورغم الضيق ما زالوا يغنون ويحلمون بالنجم وبأنداءِ النهار.. أي بالضوءِ (الحرِّيَّةِ) وبالخصبِ والعطاءِ… وعلى قمَّةِ التاريخ المنهار (وربما تكونُ الشَّاعرةُ أوَّلَ من استعملَ هذا المصطلح (التاريخ المنهار) والمقصودُ هنا أنَّ للعرب تاريخ عريق وحافل بالمجدِ والسؤددِ ويشعُّ بالحضارةِ والإنجازاتِ والإبداع ولكنَّ هذا التاريخ بعد قرون طويلةٍ من النكساتِ والهزائم والتأخُّر والتخاذل العربي ومن مؤمراتِ المستعمرين والمحتلين أصبحَ (هذا التاريخ) منهارًا ومنكسا…فعلى قمَّةِ هذا التاريخ المنهار.. إذ تتحدَّثُ الشَّاعرة بلسان الآلاف بل الملايين من الفلسطينيِّين الشرفاء والمناضلين أنهم سيُعِيدُونَ التاريخَ العظيم والعريقَ والمشرِّفَ من جديد.. فعلى قمَّةِ هذا التاريخ المنهار (وهنا يوجدُ تناقض في التعبير- قمَّة التاريخ وانهياره – رمز للسؤدد والمجد القديم التليد ورمز للوضع الحالي المزري للأمَةِ العربيَّةِ – من نكسات ونكبات ومن مصائب وحكام دكتاتوريين وعملاء بليت الأمَّة ُ العربيَّة بهم. ورغم كلِّ هذا سيكبرون ويزدادون أكثرَ صمودًا وصلابة ً وتحدِّيًا وعنفوانا وإقداما وتضحية ً،رغم برد المرافق وليل الصواعق (إستعارت هنا عناصر من الطبيعة).. وإنهُ سيموجُ الفرحُ ويترقرقُ ويصبحُ كالماءِ الرَّقراق.. ورغم غاباتِ التيهِ والتشرُّدِ والضياع والجوع ورغم هوَّةِ الإعصار (أي قوَّة الأعداء وغطرستهم وبطشهم وترسانات حربهم ) سيغنون للشَّمس (للحريَّة).. وسيطوي هذا الشَّعب العظيم (الشَّعب الفلسطيني) الجراحَ.. وأنهارُ الحنين ستتدفقُ… وتستعيرُ وتوظفُ الشَّاعرة ُ هنا كلمة َ(فينيق) – وهو طائر خرافي في الأساطير الإغريقيَّةِ فبعد أن يموتَ و يحترقَ هذا الطائر ينبعثُ من جديد من بين الرَّماد.. وكلمة فينيق تعني أيضا الشَّعب الفينيقي – وهم عرب سكنوا لبنان واشتهروا بالملاحةِ والسَّفر وهم أولُ من صنعَ البلور- الزجاج وأقاموا لهم المدنَ الكثير منها قرطاجنَّة… ولكن شاعرتنا تعني هنا بالفينيق الطائر الخرافي الذي لا يموتُ ويُبْعَثُ من رمادِهِ بعد الإحتراق وشبَّهَت الشعبَ الفلسطيني المناضل به… فالفلسطينيُّون بعد عام النكبة والتشرُّد وإلى الآن قد تعرضوا للكثير من المآسي والرزايا والمجازر التي أرتكبت ضدَّهم ومن محاولات التصفية ولكنهم كانوا يخرجون من كلِّ حربٍ ومن كلِّ مأساةٍ ومجزرةٍ رافعي الرؤوس وبمعنويَّات عالية فيضمِّدون جراحَهم ويعودون من جديد للنضال والكفاح لأجل الحريةِ والكرامةِ وإسترجاع الوطن المسلوب. وقد استوطنَ وسكنَ الكثيرُ من الفلسطينيين الذين شُرِّدُوا بعد عام 48 وبعضٌ من الذين بقوا في وطنهم ثمَّ سافروا فيما بعد للعلم وللعمل وتحقيق الذات في الكثير من البلدان والدول.. وفي كلِّ مكان قطنوهُ إشتغلوا وتعلَّموا وأبدعُوا ثقافيًّا وعلميًّا وفي جميع المجالات. وتقولُ الشَّاعرة:
(“سنغني ونحلمُ// برقص فينيق والنار//
ونمتدُّ خطوات رحيق// في حقول من غار//
ونحلمُ بروعة الرَّقص// وفينيق// فوق قمَّةِ التاريخ المُنهار//”).
هي بلسان شعبها تتحدَّثُ: إنهم سيحلمون برقص الفينيق والنار في حقول من غار.. والغار هو رمزٌ للنصر والعزِّ والمجدِ…وأنَّ هذا الشَّعب سيبقى مشرئبًّا نحو الغد الجميل والمستقبل المشرق ومن رقص إلى رقص فوق الجراح والألم كالطائر المجروح ومن فينيق إلى فينيق (من احتراق وبعث إلى احتراق وأنبعاثٍ وَتجَدُّدٍ) ومن حربٍ إباديَّةٍ ومجزرةٍ ضدَّهُ إلى حربٍ أخرى وسيكبرُ رغم كلِّ الجراح وسيخرجُ منتصرًا في النهايةِ ومكللا وَمُتوَّجًا بأكاليل الغار. فهو مثل العنقاء والفينيق الذي يُبعَث ُ من جديدٍ من بين الرَّماد والأنقاض.
والقصيدة ُ بشكل عام جميلة ٌ ورائعة وعريضة ٌ وواسعة ٌ في معانيها وأهدافِها وأبعادِها.
وسأنتقلُ إلى قصيدةٍ أخرى بعنوان: (“الف قايين” – صفحة 21 – 22).
في هذه القصيدةِ توظفُ الشَّاعرة ُ شخصيَّة َ “قايين بن آدم” الذي قتلَ أخاهُ هابيل غيرة ً وحسدًا.. وكانت أول جريمة قتل ٍعلى وجه الأرض منذ عهد آدم إلى الآن (حسب العهد القديم )… وما زالت الجرائمُ والحروبُ منتشرة ً بين البشر والشعوب وما زالَ الإنسانُ يقتلُ أخاهُ الإنسان ولأسبابٍ تافهةٍ أحيانا، فالطمعُ والجشعُ وغريزة ُ حبِّ السيطرة والتسلُّط كانت وما زالت موجودة ومنتشرة في معظم أبناءِ البشر(أبناء وأحفاد أحفاد آدم منذ بدء الخليقةِ إلى الآن).
وقد نجدُ هذه القصيدة َ ترمزُ وتوحي لمواضيع وأهدافٍ أخرى أيضا غير مواضيع الحروب والنزاعات والخلافات بين البشر وحبّ التسلط.. ففيها بعدٌ ذاتي ووجداني وشخصي… فتتحدَّثُ الشَّاعرة ُ عن نفسِها وفي نفس الوقت قد تفسَّرُ للإنسان الإنسان بشكل عام في كلِّ بيئةٍ ومكان وزمان… وإنها (الشَّاعرة حسب تجاربها ورؤيتها) قد صادفت ورأت ألفَ قايين وقايين وليسَ قايينا واحدا أي الإنسان أو الصَّديق العدو) حيث مَرُّوا في دربها وحملوا معهم حلما كان في قلبها يحيا (أي اختطفوا حلمها).. وألف قايين مرُّوا بدون خطواتٍ (بهدوءٍ وصمت ولم يعلنوا عن حقيقتهم الشريرة).. مرُّوا فوق الصوتِ وفوق الموتِ وحملوا كتابا وسفرا جديدا لإلهٍ آخر غير إلهِ المحبَّةِ والسَّلام… وحملوا شعرا وعيدا ومرُّوا فوق صدرها وفوق عمرها وفوق سفرها وفوق شعرها.. وتتساءَلُ الشَّاعرة ُ:
(وأينَ.. أينَ المحرابُ؟ وأينَ الشُّموعُ والخشوعُ وأينَ..).. وتقول:
((“ألفُ قايين// بدون شمس ِ// مَرُّوا.. كرعشاتِ هَمْس ِ//
مَرُّوا في الدَّربِ//
حملوا معهم حلما// كانَ…// في القلب//”)
أي هنالكَ الكثيرون مثل قايين (يحملون صفاته العدوانيَّة كشهوةِ القتل والحسد والحقد وليس لهم شمس)..وتعني بالشَّمس (الحريَّة والنور والهداية والإيمان والمبادىء) قد مرُّوا في دربها وفي طريقِها وحملوا واختطفوا حلمًا جميلا كان في قلبها. والمجرمُ القاتلُ في مفهومِهَا ليس الذي يقتلُ الجسدَ فقط بل الذي يقتلُ الروحَ ويقتلُ الأحلامَ والذي يحاولُ أن يقضي على طموح ومشاريع إنسان ما تقدِّمية ونيِّرة لصالح المجتمع والبشريَّةِ.. فهذا يُعَدُّ مجرما وقاتلا أيضا.. وما.. ما أكثرهم هؤلاء في مجتمعنا.
وبإختصار هذه القصيدة تُفسَّرُ وَتُحَللُ على أنها ذاتيَّة محضة وأهدافها ومعانيها تخصُّ الشاعرة َ وحدها بأحلامِهَا وطموحاتِها ومشاعرها الجياشة ولواعجها الذاتيَّة، وقايين رمزٌ لكلِّ شخص قريب حاولَ أن يسرقَ ويخطفَ أحلامَها الورديَّة ويعرقلَ برامجَها وطموحاتها الرائدة. وقد تكونُ القصيدة ُ جامعة شاملة وليست على الصَّعيدِ الشَّخصي والذاتي..
تتحدَّثُ عن الصِّراع بين الإنسان وأخيهِ الإنسان والصراعات بين الشعوب والأمم والحروب التي تنشبُ لأسبابٍ صغيرة أحيانا وتافهة وتكون نتائجُهَا وثمارُهَا الدمارَ والفناء.
وإلى قصيدةٍ أخرى من الديوان بعنوان: (“حبيبي – صفحة 24 – 25 ) وهي قصيدة ٌ غزليَّة محظة جميلة ورقيقة ٌ ورومانسيَّة، خفيفة ُ الدَّم والظلِّ وفيها بعض المقاطع الموزونة على أكثر من بحر، والشَّاعرة ُ تتفننُ في اختيار وانتقاءِ الكلماتِ الجميلةِ وفي اختيار القوافي وفي تسكير وقفل كلِّ جملةٍ شعريَّةِ وفي كيفيَّةِ توزيع المقاطع اللفظيَّةِ (وهذا الجانب كان من أولويَّات الشعراء الكبار المبدعين والرَّائدين في مسيرة الشعر العربي الحديث المعاصر وأوَّل من كتب شعر التفعيلة، أمثال: السياب، البياتي، نازك الملائكة، نزار قبَّاني خليل حاوي… وغيرهم.. إلخ).. والشاعرة ُ تعطينا هنا صورة ًجميلة ً ورائعة للحبِّ الحقيقي العذري البريىء والصادق المترع بالتفائل والجمال والدفء والحلام والإشراق والرُّؤيا الإنسانيَّة التقدميَّة.. فتقول في القصيدة:
(“حبيبي يراقص شمسي// يناديني// يلاقيني…//
عندَ حُدودِ أمسي//
حبيبي يلامسُ خُصُلاتِ شعري// يعانقني//
يحمِلني… يرسمُ لي أحلامَ سَفري//
حبيبي// يأخذني من دربي//
يُهامسُ أحلامي… وَوَردِي
حبيبي// يعرفُ أسرارَ ليلي وجنوني…//
حبيبي…// يُعانقُ الندَى المَنثورَ// في لون ِ عيوني…//
حبيبي يُراقصُ شمسي…// يُناجيني…// يُلاقيني…//
في خيالاتِ نفسي…// هو… حَبيبي…//”).
ولها قصيدة ٌ بعنوان: (“مثلُ قلبك يا قدس” – صفحة 26 – 28) مترعة ٌ ومشبوبة ٌ بالمشاعر والعواطف الوطنيَّةِ الجيَّاشةِ… ومدينة ُ القدس هي عاصمة فلسطين وترمزُ للوطن…إلى فلسطين ككل وإلى النكبةِ… والقصيدة رقيقة وجميلة ومشرقة بالمشاعر الصادقة وهي تصلحُ للتلحين والغناء، تقولُ فيها:
(“قلبي مثلُ قلبكِ.. يا قدسُ// مُورِقٌ… حائر… مَحرُوقْ//
وقلبي.. على قلبكِ يا قدسُ// على فرحِكِ// على جُرحِكِ//
مواسمُ دمع… وشروقْ//”).
وتقولُ في نهايةِ القصيدةِ:
(“وحُبِّي… مثلُ قدسكِ// يا قدْسُ…//
وصوتهُ يخفقُ في صوتي// ويهدر… في صَرَخاتِ صَمْتِي//
إلى أينَ يأخذني الصَّوْتُ؟؟// إلى أينَ يحملني…//
يَهمِسُ دمعي… وَيَسرقُني//
.. اسرقني// اسرقني كلَّ صباحْ//
وانثرني قصيدة ً… في حواكير أقاحْ//
فوقَ حُلميَ حُلمٌ// وسماء عذراء جديدة…//”).
ولها قصيدة غزليَّة في هذا الديوان بعنوان: (“رقَّة قلبي ” – صفحة 39 – 40) في منتهى الرِّقةِ والبراءةِ تُظهرُ فيها حُبَّهَا ولواعجَهَا وهيامَهَا الشديد بالحبيب المنشود الذي ليسَ لها حبيب آخر غيره وهو كلُّ شيىءٍ بالنسبةِ لها. فتخاطبُ قلبَها ورقَّة َهذا القلب (المقصود شغاف القلب وأعماقه) بأن تحملها رقة قلبها إلى حبيبها.. إلى عينيهِ وشفتيهِ وإلى راحتيهِ لينشرَها هناك… فتقولُ في القصيدةِ:
(“يا رقة َ قلبي إحملينِي// إلى عَينيهِ// إلى شَفتيهِ//
إلى راحتيهِ… وانثرني…//
يا رقة َ قلبي سامحيني// فأنا لا أعرفُ سِوَاه// ولن أعرفَ سواه//
وأنا…// لن أسافرَ في حقول الرياحينْ//
ولن أحملَ في صوتيَ حُبًّا… وحنينْ
لحُبٍّ سِواه..!!”).
ولننتقل إلى قصيدةٍ أخرى بعنوان: (فِيا دِيلا روسَّا الحزين” – صفحة 45 -47) تتحدَّثُ فيها عن الكفاح والتضحيةِ والفداءِ لأجل الحقِّ والحريَّةِ وبما يتمشَّى حسب إرادةِ ومشيئةِ الرَّبِّ، ويظهرُ في القصيدةِ وبشكل مباشر عنصرُ الإيمان لدى الشَّاعرة الممزوج والمُضَمَّخ بالحزن والألم والمرارةِ ويظهرُ الخشوعُ والخضوعُ والتسليم الكلي للمشيئةِ الإلهيَّةِ، وفيها التعابيرُ والمعاني التقدُّميَّة والمبادىء والقيم والمُثل الرائعة النيِرة..ألا وهي السَّير في درب الآلام وحمل صليب المعاناة والعذاب لأجل الحقِّ وبزوغ الفجر المنشود… وان الإنسان َ المبدئي والمؤمنَ هو الذي يكافحُ ويعيشُ لأجل قضيَّةٍ مثلى رائعة ولخدمةِ البشريَّة ويسيرعلى درب الآلام (فيا ديلا روسَّا) التي سارَ عليها يسوع المسيح وحمل نيرَ الصَّليب وبذلَ حياته قربانا لأجل البشريَّة)… هذا الذي أرادت أن تقولهُ الشاعرة من خلال سكبِ روحها ومشاعرها الجيَّاشة وزفراتها الملتهبة أمام درب الآلام والمقصود به المخلص والفادي الذي مشى على هذا الطريق قبل ألفيِّ عام لأجل خلاص البشر جميعا…وتستعملُ الشاعرة ُ في القصيدةِ بعضَ المصطلحاتِ والتوظيفاتِ اللاهوتيَّةِ، مثل: المعموديَّة وكلمة قدوس حيث تقولُ:
(“يا فيا دِيلا روسَّا الحزينْ…
تحملني إليكَ روحي// تعمِّدُني// تُقطِّرُنِي// ماءَ زهر ٍ..رياحينْ//
هل تلمحُ خيالاتِ حُبٍّ جديدْ؟/
هل تلمحُ عندَ غيهبِ العُمر ِ// عُمرًا آخرَ…//
ينثرُ شموسًا// يهمسُ: قدُّوسًا قدُّوسًا قدُّوسًا.. من بعيد؟..//
فيا ديلا روسا الحزين// هوَت نفسي في نفسِكَ
وامسي توارَى في أمسِكَ
فانتصَرتَ كالنُّورْ…// يا دؤبَ الآلالم ِ المُعطَّر ِ//
يا دربَ رعشاتٍ ملهوفةٍ// يا دربَ فرَح ٍ مهجورْ…//
هل تلمح؟؟؟// سحاباتٍ من دمع ٍ وبخورْ…//
هل تلمحني أعانقُ أوراقَ الوردِ؟
هل تلمحني حينَ اندثار ِ البردِ//
يا فيا دِيلا روسَّا الحزين
كلُّ خطواتي تحملني إليكَ// كلُّ دموعي تصيرُ عينيكَ//
كلُّ الدُّروبِ والطيُوبِ…// تسافرُ في راحتيكَ
حينَ يجنُّ الحنينْ// يا فِيا دِيلا روسَّا الحَزين//”).
هي تعيدُ بعضَ الكلماتِ للتأكيدِ على المعنى والهدفِ الذي تبتغيهِ وسوفَ نجد هذا في العديدِ من قصائدِهَا… وتوظفُ مصطلحَ دربِ الآلام ( الطريق الذي سارَ عليه يسوع المسيح وينتهي بصلبه لأجل فداء البشر فتقول: (“فانتصرتَ كالنور…// يا دربَ الآلام المعطَّر//”).
ولننتقل إلى قصيدة أخرى من الديوان بعنوان: (“رقص في ذاكرتي” – صفحة 57- 59) وربَّما تكونُ من أجمل القصائد في هذا الديوان من الناحيةِ الذوقيَّةِ واللفظيَّةِ والفنيَّةِ والشكل والبناءِ الخارجي وفي طريقةِ توزيع وتنويع المقاطع اللفظيَّة والتفنن في وضع وترتيب القوافي وقفل كل جملة شعريَّة… وفيها يظهرُ مقدرة ُ الشَّاعرةِ وبراعَتِهَا في التفنن اللفظي وسبكِ الجمل ورسم اللوحاِت الشعريَّة، فتقولُ في القصيدةِ:
(“قلبٌ… وحبَقْ// وقمرٌ منثورٌ على وَرَقْ//
وألفُ قصيدةٍ… تغسِلُ الليلَ… بروعةِ غسَقْ..//
هَمْسٌ وحنينْ// وَقُبَلُ قرنفل لعينيك//… للموج الحزينْ//
تمرُّ قوافِلُ صَدَى//
وترسمُ في الصَّفحاتِ… دمعا//… وندَى//
ومن حلم مقمر يولدُ عُمْرٌ//… ويصحُو مَدَى//
رقصٌ رقصٌ في ذاكرتي// ونهارٌ يدفقُ من نافذتي//
وآلهة ُ عِشْق ٍ// تهفُّ على عمقي//
: “ويكونُ قلبٌ… ويكونُ حَبَقْ//
ويكونُ قمرٌ منثورٌ على ورَقْ//
وألفُ قصيدةٍ…// تغسلُ الليلَ… بروعةِ غَسَقْ//
صلاة ٌ ودمُوعْ// ورجاءٌ مُحَرَّق ٌ… وَوُلوعْ//
أن تُورقَ سَماءٌ… فوقَ صليبٍ مَوجُوعْ//
وَرْدٌ… وسَفرْ// سفرٌ أبَدِيٌ كحلم نهَرْ//
وَخَطوٌ ملهوف…// على عَتباتِ صُوَرْ//
… ويكونُ عزفٌ ويكونْ//
عزفٌ دافىءٌ… حَنُونْ//
يملؤُني رقصا.. رقصا… رقصًا.. وَجُنونْ//
رقصٌ رقصٌ في ذاكرتي// ونهارٌ يَطلعُ من نافذتي//
وآلهة ُ عشق ٍ تهتفُ على عمقي//…
..”ويكون قلبٌ.. ويكونُ حَبَقْ// وقمرُ حُبٍّ منثورٌ على وَرَقْ//
وألفُ قصيدةٍ// تغسلُ الليلَ… بروعةِ غَسَقْ “..//).
هذه القصيدة ُ جميلة جدًّا ومعظمُ جملها موزونة ٌ على بحر المتدارك الجميل الإيقاع (الرومانسي الثوري كما يُسَمُّونهُ)..وهنالك خروجٌ بسيط عن الوزن في بعض المقاطع. وهنالك بعض الجمل تعيدُها وتكرِّرُهَا الشَّاعرة ُ مرَّتين لتؤَكِّدَ على المعنى ولتضيفَ للجملةِ وللوحةِ الشعريَّة جمالا لفظيًّا ومعنويًّا يشفُّ الآذان ويدخلُ إلى أعماق الرّوح وَيُحَرِّكُ اللواعجَ والمشاعرَ ويطربُ ويسكرُ القلبَ والوجدان. وهذه القصيدة ُ تعيدُ إلى أذهانِنا روائعَ نزار قبَّاني الغزليَّة، وخاصَّة ان الشَّاعرة َ تستعملُ بعضَ المصطلحاتِ والكلماتِ التي كان نزارٌ يستعملها كثيرًا في أشعارهِ، مثل: الحبق والورق والقرنفل.. إلخ. ولا أريدُ الإطالة َ أكثر من هذا لأنَّ تحليلَ وتفسيرَ هذه القصيدة وإظهار وإبراز جميع بواطنِهَا وتموُّجاتِها وأبعادِهَا الجماليَّة والفنيَّة قد يحتاجُ إلى عدَّةِ صفحات… وسأكتفي أيضا بهذا القدر من إستعراض وتحليل القصائد لهذا الديوان.
وأخيرًا وليسَ آخرًا: أهنىءُ الشَّاعرة َ الشَّابَّة َ القديرة والمبدعة َ والمتألِّقة الزميلة ” حنان جريس خوري “على هذا الإصدار – الديوان الرائع والقيِّم والمميَّز- وأتمنَّى لها العمرَ المديدَ وهي ما زالت في بدايةِ شبابها والمزيدَ من العطاء الإبداعي المتواصل – شعرا ونثرًا… مبروك وإلى الأمام دائما.
حاتم جوعيه