الخطاب الديموقراطي العربي في عنق الزجاجة
تاريخ النشر: 15/09/14 | 6:14حصيلة التحركات الراهنة من اجل الديموقراطية في البلدان العربية حتى الآن، لم تنتج في احسن الاحوال سوى «ديموقراطية متعثرة» في قلة من البلدان التي تغيرت فيها السلطة الحاكمة. اما الدول التي لم تتغير فيها السلطة الحاكمة، فان الامل في انتقالها الى نظم حكم ديموقرطية، ضئيل ان لم يكن مفقوداً، فبعد انقضاء ثلاث سنوات على الحراك الديموقراطي العربي، لم يتحقق بعد انتقال مستقر للديموقراطية في اي قطر عربي، فيما نذر الاقتتال الاهلي بادية في غير قطر عربي، لا سيما تلك التي اسقطت فيها الانتفاضات السلطات الحاكمة.
هذه هي الخلاصة الاساسية التي انتهى اليها علي خليفة الكواري في «الديموقراطية المتعثرة، مسار التحركات العربية الراهنة من اجل الديموقراطية» مجموعة باحثين، مركز دراسات الوحدة العربية 2014. والكتاب في الاصل هو موضوع اللقاء السنوي الحادي والعشرين لمشروع دراسات الديموقراطية في البلدان العربية وقد عقد في جامعة اكسفورد في 31 آب 2013. في استنتاج مشابه ذهب عماد الدين شاهين الى ان ما حدث في مصر في 25 كانون الثاني يناير 2011 هو اقرب الى «الحالة الثورية» القابلة للتطور والانتكاس، منه الى الثورة الكبرى التي تفكك مؤسسات الدولة القديمة، كالثورة الفرنسية او الروسية او الصينية او الايرانية. واذا كان عميرة عليّة الصغيّر قد خلص الى ان الانتفاضة التونسية قد حررت الشعب من كابوس الخوف، كما «استعاد التونسيون حقهم في تملك الفضاء السياسي، فافرغت السجون من المحكومين السياسيين وعاد المهجرون من منفاهم، وتكرست حرية التعبير وتوافرت مساحات للحرية عبر وسائل الاعلام»، إلا أنه اعتبر أن ثمة اخطاراً تهدد الثورة، من اهمها العنف السياسي واستهداف المعارضين.
وفيما رأى يوسف الصواني انه ما زال هناك الكثير من العقبات والتحديات التي تهدد الوحدة الوطنية الليبية، اذ ان الليبيين لم يتوصلوا بعد الى تبني رؤية مشتركة لمجتمع ديموقراطي ممثل للجميع، اكد محمد باسك منار في رؤيته للحراك المغربي من اجل الديموقراطية، ان هذا الحراك رسّخ ثقافة الاحتجاج وارتقى به من احتجاج اجتماعي فئوي الى احتجاج سياسي عام، فأزاح الخطوط الحمراء، لتصبح المؤسسة الملكية وما يرتبط بها من سلطة ونفوذ وثروة ومستشارين في مركز النقاش العام. الا انه، وبعد ثلاث سنوات من انبثاقه، يعرف الحراك السياسي المغربي نوعاً من الارتداد والنكوص بفعل استمرار ممارسات تقليدية.
مقابل هذه الاستنتاجات المريبة التي توصل اليها اكثر الباحثين، ارجع تعثر الديموقراطية بعد الانتفاضات الشعبية الناجحة التي باغتت الداخل والخارج الى عوامل ثلاثة:
أ ـ تشبث نظم حكم الاستبداد والفساد بامتيازاتها، وغياب البديل الثوري للنظم الساقطة وعدم توافق الجماهير والتئامها في كتلة تاريخية على قاعدة الديموقراطية.
ب ـ القوى الدولية الكبرى الحامية لانظمة الحكم السابقة والمتضررة من فقدانها.
ج ـ عدم التوافق على نظام ديموقراطي بديل، وعجز القوى التي شاركت في الانتفاضات عن التوصل الى اهداف وطنية جامعة.
انها اذاً استنتاجات مستعادة ازاء ازمة جذرية مستعصية ضاربة في عمق التاريخ العربي المعاصر. فقد طرح المفكر الراحل محمد عابد الجابري في تصور متفائل العام 1982 امكانية قيام كتلة مشابهة تجمع فئات عريضة من المجتمع حول اهداف واضحة تتعلق اولاً بالتحرر من هيمنة الامبريالية السياسية والاقتصادية والفكرية، وثانياً باقامة علاقات اجتماعية متوازنة يحكمها التوزيع العادل للثروة. واستعيدت هذه المقولة مطلع القرن الراهن فنادى خير الدين حسيب العام 2007 باقامة هذه الكتلة على قاعدة التسوية التاريخية بين التيارات الرئيسية في الامة.
اما الامر اللافت في استعادة مقولة «الكتلة التاريخية» فهو مقدار الخلل الذي لا يزال يعتور الخطاب الديموقراطي العربي، ومدى ضبابيته والتباس مقولاته واختلاطها بعد عقود على اكتساحه ساحة الخطاب العربي المعاصر، وبعد اكثر من قرن على طرح افكار الحرية الدستورية والعلمانية والمساواة المواطنية وحقوق الانسان والمرأة، حتى لا يسع المرء الا ان يتساءل: ما هي تلك الديموقراطية التي يتحدث عنها الكتاب، ما جوهرها وأسسها ومراميها، وكيف يمكن ان تجمع تحت لوائها كل تلك المتناقضات الايديولوجية والطائفية والسياسية وكل تلك التوجهات المتنافرة في الاهداف والغايات والمصالح؟ هل يكفي ان يؤمن الجميع بالانتقال السلمي الى نظام ديموقراطي ولو غير محدد الاهداف والاسس؟ وهل سيلبي هذا النظام حاجات وتطلعات هؤلاء دون الاخلال بالامن السياسي او الاجتماعي او بمصالح كل فريق من الفرقاء؟ كيف ستتأمن في نظام جامع مصالح الاغنياء والفقراء والطوائف والمؤمنين بحقوق الانسان والمرأة واولئك الذين لا يعترفون بكل هذه الحقوق؟
ان الديموقراطية الجامعة لا يمكن ان تتأمن من دون قاعدتها الليبرالية الحاضنة، المتمثلة في المساواة المواطنية والحق في الاختلاف ومركزية الانسان في المجتمع والسياسة، الامر الذي لا يعيره الكتاب كبير اهتمام، ما يحيل الديموقراطية التي ينادي بها إلى آلية جوفاء لا تشكل تحدياً لأحد، وقد تحمل الى السلطة أشد القادة عداء للحرية وحقوق الانسان، فهتلر على سبيل المثال، وصل الى قيادة المانيا النازية بآلية ديموقراطية.
انه لمن المؤسف القول ان الكتاب الذي استنزف جهوداً بحثية كبيرة قد انتهى الى تصورات وأفكار مغرقة في الطوباوية. فهل من المأمول ان تتنازل انظمة الاستبداد عن امتيازاتها طوعاً ومن دون مقاومة او ان تلتئم الجماهير وهي المتنافرة في الرؤى والاعتقادات والمصالح في كتلة واحدة متراصة ضد الانظمة؟ وهل من اليسير التوافق على انظمة بديلة لانظمة الاستبداد، بينما يعمل كل فريق من هؤلاء وفقاً لاجندة خاصة قد تتناقض في الجوهر والتوجه مع اجندات الآخرين؟ وهل من المعقول ان تتخلى القوى الدولية عن انظمة تخدم مصالحها واستراتيجياتها؟
الإشكال الاساسي ان الباحثين افترضوا أن ثمة اجماعاً على المبادئ المؤسسة للديموقراطية، واولها قبول الآخر المختلف، في حين ان ما يجري على الارض ارتداد الى اصوليات ظلامية نافية لابسط المبادئ الليبرالية ومسلماتها.
ان تصور اندراج كل دعاة التغيير في «كتلة تاريخية» ليس الا وهماً ورؤية الى المجتمع من منظور شمولي يلغي التناقض والاختلاف، وقد انساقت اليها في ازمان مختلفة التيارات الاشتراكية والقومية كما هو جارٍ الآن مع التيارات الديموقراطية.
ولقد آن الاوان، في رأينا، كي يدرك الديموقراطيون العرب ان الديموقراطية في العالم العربي لم تعد تجدي معها توفيقية باتت مستهلكة مستنفدة، وانها لن تتبلور الا عبر الصراع والتناقض وليس عبر توافق طوباوي مفترض، وهي باتت في حاجة الى اجتراح تصور جديد وخارج عن المألوف يكسر البنى العربية التاريخية المتكلسة ويمهد لفكر عربي جديد وانسان عربي جديد.
بقلم كرم الحلو – السفير