إبحار في الذاكرة
تاريخ النشر: 15/09/14 | 11:20تعلو الطائرة ويعلو معها نشيج القلب… إلى القاهرة ولو بعد ثلاثين سنة… غفا حلم تلك الزيارة في حنايا القلب بعد ان تاهت خطواتي في دروب بعيدة. وجاءت الفرصة من باريس. حيث حصلت وابنتي التي كانت تدرس هناك على تأشيرة لدخول مصر، رغم حملنا لوثيقة سفر لبنانية لا تخولنا لأكثر من التنقل داخل بيوتنا. لم تكن التأشيرة مزورة.. كانت حقيقية وتحمل تزكية وتوصية من السفير المصري تقول بأن حضرتي معروفة شخصيا من السفارة المصرية في باريس.
طوال الرحلة، أرهقت ابنتي بذكريات بدايات الوعي عندي، ولم أكن قد تجاوزت الثالثة عشرة من العمر. كانت بيروت آنذاك حاضنة الثقافة وحرية الرأي، وملقى طلاب اللجوء من المثقفين والسياسيين. كنا نتظاهر بعد كل خطاب يلقيه المارد العربي جمال عبد الناصر، ولكل شهيد يسقط في الجزائر… الزلزال الذي ضرب أغادير، زلزل شيئا دفينا في دواخلنا، فاندفعنا نجمع التبرعات… كنا لبنانيين و فلسطينيين ننشغل بهموم الوطن العربي الكبير وقد تجاوز شعور الإنتماء إليه كل الحدود والمعابر…
غنيت لابنتي أناشيد الثورة المصرية والتي استعادتها ذاكرتي بسرعة أدهشتني، غنيت حتى حفظت ابنتي الأناشيد عن ظهر قلب، شاركتني الغناء حتى بلغنا مرحلة النيرفانا…” وطني حبيبي الوطن الأكبر” و”دع سمائي فسمائي محرقة” و”أخي جاوز الظالمون المدى”.
مضى زمن طويل انشغلت به عن تلك الأغاني، التي ربما انقرضت الآن فهي من مخلفات الماضي الذي دسناه بالبساطير، فهذا زمن الواقعية التي تسمح بانتهاك كرامتك، أو الطالبانية التي تحولنا الى خيام سوداء متحركة، أو لحى تتدلى وتطول وجلابيب تقصر..
….
تحط الطائرة، وتتسارع نبضات القلب. ينتظرنا شابان حال دخولنا قاعة الوصول، لاستقبالنا وتسهيل أمورنا. أجلسونا في غرفة الإستقبال، وذهبا بوثائق سفرنا لختمها. أن تشعر للحظات بأنك شخصية مهمة أو لها اعتبارها، شعور جميل، لا بأس به. جلسنا نرقب المسافرين في الطوابير، بينما نحن جلوس في الصالون المخصص للناس” المحترمين”. لم يطل الوقت وعاد الشابان وقد اكفهر وجهيهما، وقال احدهما” انتما ممنوعتان من دخول القاهرة”.
لماذا؟ تساءلت!
– ربما هناك خطأ ما، قال احدهما.
.سوف نعود بسرعة. وانطلقا.
نصف ساعة مرت، ولم يعودا! تجددت طوابير المسافرين، ونحن “المحترمتان” ننتظر في الصالون. جاء عسكري ببدلة بيضاء وقال لنا بحدة أدهشنا صدورها عن مصري “بتعملوا إيه هنا؟” ولكن اين نذهب؟ انتظرا خارجا.
أوكي بس ما تزعل”..وقفنا حيث اشار لنا ربما نصف ساعة أو أكثر..
جاء عسكري آخر ونهرنا، بتعملوا إيه هنا؟
أعدنا عليه قص حكايتنا. قال ممنوع الوقوف هنا! حاضر، أين علينا أن نقف حتى لا نزعج أحدا؟ أشار لنا الى مكان بجانب الطوابير، قرأنا الاعلانات، طابور للأجانب، وآخر للعرب وآخر للمصريين. وقفنا في طابور العرب ظنا منّا اننا عرب، ولكن بدون وثائق سفرنا. سألنا المراقب عن جنسيتنا، أخبرناه قصتنا فقال “فلسطينية”! انتظرا هناك… انتظرنا وانتظرنا، تجددت طوابير المسافرين مرات ومرات.
جاء عسكري وصاح بعالي الصوت ” بتوع الشجرة يوقفوا هناك” وحالا توجه بعض الشباب الى المكان المشار اليه! عجبت وقلت لابنتي التي انشغلت بلعبتها الالكترونية، هل يوجد في العالم العربي من يعامل مثلنا؟ وقد كانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع فيها تلك التسمية!
ذهبت للاستطلاع وكانت جوازات سفر لبنانية!
قلت لابنتي ” نحن أكلناها مرتين،” فلسطينيات وبتوع شجرة”.
في وقفة الانتظار، بدأنا نراقب الناس، ونخمن جنسياتهم، تقدم رجل ضخم الجثة، يرتدي رداء اسلاميًا ويحمل حقيبة يد سامسونيات، وينتعل صندلا..
سمعنا صوتا يسأل، مين فلسطيني؟ أجاب الرجل الضخم، نعم أنا فلسطيني!
فصاح الصوت ثانية انتظر هناك! يعني الى جانبنا.
تجادلا بدون فائدة، الى ان شهر الرجل الضخم جواز سفره الأمريكي، وصاح باللغة الانكليزية” أريد ان اتصل بسفارتي!”!
ارتبك الموظفون والعسكريون المنتشرون في القاعة، ولم يكن بينهم من يتكلم الإنكليزية..يرجوه أن يتكلم باللغة العربية وهو ينكر أنه يتكلمها..”.
– يا بيه الله يخليك ما أنت كنت بتتكلم عربي دلوقت!” قال عسكري..
والرجل الضخم يصر على طلب الاتصال بسفارته..
تدخلت وقمت بدور المترجمة إلى أن انفضّ الإشكال باعتذار. كان الاعتذار في الواقع لجواز السفر الذي أهين وليس لحامله. وبفضل جواز سفر محترم مضى الرجل في حال سبيله و كلمات الاعتذار تنهال عليه من أكثر من لسان….
اقتادنا عسكريان الى غرفة التحقيق الذي استمر حوالي الساعة، انتقلنا بعدها أو نقلنا ونحن نجرجر حقائبنا، إلى غرفة أخرى، وانتظرنا حتى كان التحقيق الثاني ثم الثالث والرابع…..وبلغنا بقرار منع دخولنا إلى القاهرة، وتسفيرنا بأول طائرة عائدة الى باريس…..نفد صبري وغادرني الهدوء فصرخت من حرقة، لماذا؟ لماذا؟؟
كان الجواب.. فلسطينية! لقد قتلني مرتين، ربما كانت هي من المرات النادرة التي أخرج فيها عن طوري وهدوئي… التفتت اليّ، ابنتي التي لاذت بلعبتها الالكترونية، وقالت بهدوء دون ان تلتفت لأي منا ” مامي، لماذا كل هذه العصبية؟ أليس هذا هو وطنك حبيبك الوطن الأكبر؟ الله يبارك لك بهالوطن أما انا فعائدة الى باريس!!
اقتادنا الحرس هذه المرة إلى غرفة في طابق سفلي أي في القبو… سرنا في دهاليز، أدركنا من الروائح المنبعثة من بعيد، وخمنّا كيفية حال المكان الذي سوف نكون فيه.
فتح الحارس بابًا حديديًا قذرًا، وأشبه بأبواب السجون، وأشار إلينا بالدخول..
دخلنا وأغلق الباب خلفنا بسرعة.
صرخت للعسكري وقلت له: ” أنا عندي فوبيا الأماكن المغلقة، اترك الباب مفتوحا، نحن لسنا سجناء!!”
لكن ليس من مجيب.
تأملنا الغرفة الصغيرة، مكتب حديدي قديم صدىء يحتل معظم حيز الغرفة وتعلوه تلة أو قبة، من البطانيات السوداء برائحة العفن.. البرغش المتطاير بأعداد كبيرة كان كبير الحجم، يشي بوفرة الغذاء من دم نزلاء هذه الغرفة. انفجرنا في نوبة ضحك هستيري، غير مصدقتين ما يحدث معنا! ربما هو كابوس أفلت من هلوسات فلسطيني أدمن مواجهة الأبواب المغلقة!
جلسنا على حقائب سفرنا لعدم وجود أي كرسي في الغرفة.
تبادلنا الصمت والنظرات الحائرة، وجعلنا نغزل خيوط التكهنات والاحتمالات لما يمكن ان يحدث.
حين تحركت كتلة البطانيات السوداء، جمد الدم في عروقنا وحملقنا نفرك أعيننا، لم نستطع حتى الصراخ، أطل من تحت الكومة وجه أسمر طويل ونحيل بلحية طويلة، ثم ظهر الرأس كله، كان الشعر طويلا يتدلى على الكتفين، أدركنا أنه رجل، لكنا لم نستطع تخيل دفن نفسه تحت تلك الكومة من البطانيات!..
سألته ” أأنت إنسي أم جني؟_كما في حكايا جدتي_ قال باللغة الانكليزية إنه لا يتكلم العربية.
كان الرجل من جنوب افريقية. جاء الى مصر واحتجز في هذا المكان.. منذ سبعة أشهر لم ير ضوء الشمس أو الهواء النقي. كان طويلا ونحيلا، دائم كش البرغش، والحك برأسه وجسده،
وقد سارت طوابير القمل على ملابسه.
في ذروة الارتباك والحيرة، أعلنت القرقعة فتح الباب، وبسرعة دخل شاب، ربما كان في أواخر العشرينيات من العمر، وأغلق الباب خلفه بسرعة.
لم ينطق الشاب بكلمة أو تحية، توجه الى حصيرة من القش كانت ملفوفة في إحدى الزوايا، تناولها بسرعة، مدّها على الأرض، اتخذ من حقيبة اليد وسادة ونام بأمان وكأنه في بيته.
للحظات كنا غير قادرتين على الكلام أو التفكير، وربما تعطلت بعض حواسنا.
بسرعة علا شخير الشاب المتعب.
أما الرجل الآخر فقد أخذ يسير في المسافة القصيرة المتبقية متأرجحا كبندول الساعة، مكررًا لنا حكايته.
قلت لابنتي: ” أكيد هذا الشاب فلسطيني”
أجابتني باستهزاء: تشرفنا!
كان جوابها لئيما، لكنه ينبىء عن عمق الصدمة والإحباط.
اقتربت من الشاب وقلت له.. هالو هالو.. لكنه استمر في الشخير، نكزته قليلا بكتفه، فتح عينًا
وأغمض أخرى، وكان بادي الإعياء، أجاب: نعم؟ أنت فلسطيني؟ نعم! لماذا انت هنا؟ نفخ متذمرًا، وأغمض عينيه ثانية، وعاد إلى الشخير.
قلت بصرامة وجدية..أجبني عن بعض الاسئلة، حتى أدعك تنام.
استغرب لهجتي وإصراري، فاستسلم بغير رغبة.
احكي لي، لماذا انت هنا؟ دخلت بطريقة وكأنك معتاد لهذا المكان أو تعرفه!!
كان الشاب يعمل في السعودية، وجاء لزيارة أهله في غزة، وبما أن للمعبر أوقاتًا محددة يفتح فيها لمرور الباص الذي ينقل القادمين من السفر لزيارة أهلهم، فقد كان لزامًا، على الواصلين أن ينتظروا حتى يمتلىء الباص بالركاب، وقد ينتظر المسافر يومين او ثلاثة، أو حتى اسبوعًا كاملا ليأخذ الباص ويجتاز معبر رفح الى غزة! ما يعني قضاء جزء من الإجازة في حجز لا مبرر له، الاّ الإهانة والإذلال…
قطع الحديث بيننا، فتح الباب ودخول عسكري، يأمرنا بأن نتبعه، واكتفى بالإشارة لنا.
سرنا خلفه الى تحقيق جديد، حيث أبلغنا بقرار التسفير صباح اليوم التالي إلى باريس.
لكني قررت شراء تذكرة جديدة والعودة الى بيروت، فقد كنت خجلة من ابنتي التي كنت أتلو عليها آيات العروبة ومزامير القومية والأمة الواحدة، فقد شعرت بحاجة للانعزال.
وأين سنقضي الليلة؟ سألت العسكري.
في ذات الغرفة التي جئتما منها!!
عضضت على جرحي وقلت بهدوء” لدينا غرفة محجوزة في الشيراتون وسنقضي الليلة هناك”. – ممنوع عليكما مغادرة المطار!
أوكي سوف ندفع أجرة حارسكم على باب الغرفة في الفندق حتى صباح الغد، أيضا ممنوع.
وافترقنا…..أخذت ابنتي إلى مطار آخر، لأن طائرتها سوف تقلع بعد منتصف الليل بقليل، أما أنا فكان عليّ، الانتظار حتى الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي….
كان المحقق سمحًا ومتسامحًا، وسمح لي بالبقاء في قاعة المطار، وليس في تلك الغرفة/ الكابوس. قضيت الليل أتجول حينًا وأجلس حينا آخر، وأنا أجرجر حقيبتي.
لفت نظري أثناء تجوالي، جلوس رجل وامرأة على بنك خشبي. المرأة الحامل انتفخت قدماها حتى أصبحتا مثل عمودين إغريقيين ضخمين، وطفلان غفوا على ذات المقعد.
تحدثت إلى المرأة.. هي أيضا فلسطينية /مصرية، ومن حملة الوثائق المصرية، وتعيش مع زوجها الذي يعمل في السعودية، وفي كل مرة تأتي لزيارة الأهل في مصر كان عليها الانتظار في المطار حتى تستكمل مباحث أمن الدولة إجراءاتها، ويوم التقيتها كان قد مضى على وجود العائلة في المطار ثلاثة أيام!!!
حان وقت الرحيل، ولكن من مطار آخر.
رافقني عسكريان مع سائق الباص الصغير.
حمدت الله أني لم أنقل بسيارة السجن الذي يسمونه “البوكس”.
سألت عن وثيقة سفري الملعونة، فأخبرت بأني سوف أتسلّمها.
إلى الطائرة رافقني ثلاثة من العسكر حتى درج الطائرة، حيث كانت مجموعة من العسكر منتشرة في المكان… ما خلت نفسي يومًا أنني شخص مرهوب الجانب الى هذه الدرجة!
نظرت إلى أقرب عسكري لي، وقلت له:
“هل تعتقدون أنكم قبضتم على كارلوس؟” ولم يكن قد قبض عليه آنذاك.
انتظر عسكريان على مقربة من سلم الطائرة، وصعد معي عسكري آخر.
كنت آخر راكب يدخل الطائرة، سرنا في الممر حتى وصلت إلى المقعد الذي بقي شاغرا ينتظرني، ترافقني عيون المسافرين بفضول.
سرت بكبرياء متجاهلة النظرات والهمس، لكن روحي كانت تتمزق.
جلست في مقعدي وثبت حزام الأمان.
أخرج العسكري وثيقة سفري من جيبه، سلمني إياها، وانصرف بدون أن يتمنى لي رحلة سعيدة. أو حتى إعتذار…
اشرأبت الأعناق، وامتدت الرؤوس، وحاصرتني العيون علها تعثر على ما يشفي غليلها.
أخرجت كتابًا من حقيبة يدي لأهرب اليه من تلك العيون التي تحاصرني….
أردت أن أقف، وأصرخ بهم بأني ما اقترفت إثمًا، لكن خطيئتي هي أن أرضي قد اغتصبت، وجريمتي أن هويتي مختلف عليها.. وأن انتمائي غير محدد بعد..
لم يسمع أحد من الركاب صراخي، لأنه ظل حبيسًا في حلقي الذي جف مثل أرض نسيها المطر!
أعتذر من شعبي المصري، لكن الأحداث الجارية تفتح ألف جرح وجرح في الروح.