خطورة الشائعات في الدين
تاريخ النشر: 28/03/15 | 10:10إن الشرع الحنيف أراد أن يحيا المجتمع المسلم حياة الأمن والتعاطف والمودة والرحمة حتى كأنهم جسد واحد، كما اخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم: ” مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد. إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى “.
من أجل ذلك عمَّق الشرع في نفوس أتباعه أنهم إخوة ” المسلم أخو المسلم”. ومنع الشرع كل من تسول له نفسه من كل فعل أو قول يقوض هذه الأخوة الإيمانية أو يحدث شرخا في العلاقات الاجتماعية أو فجوة بين أبناء هذا المجتمع.
ومن أخطر الأمور فتكا بالمجتمعات وأشدها ضررا تلك الشائعات التي يطلقها ويروج لها وينشرها مَن لا دين عنده ولا عهد ولا ميثاق، هؤلاء الهمج الرعاع أتباع كل ناعق الذين لم يستضيئوا بنور العلم.
وإذا أردت أن تتعرف على الأثر المدمر لهذه الشائعات فيكفي أن تعرف أن الدول اليوم تهتم بهذه الشائعات اهتماما عظيما حتى أن بعض أجهزة المخابرات بها شعب متخصصة في الشائعات اختراعا ورصدا وتحليلا، فربما تسببت شائعة في تغيير نظام حكم أو إحداث توترات داخل بعض الدول.
وإذا رجعت إلى الوراء فلك أن تتساءل: هل كان مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان ـ ذي النورين ـ رضي الله عنه إلا بناء على شائعات أطلقها بعض المغرضين وتلقفتها آذان وردتها ألسنة أناس لا يتدبرون ما يسمعون؟ وهل كان ما حدث بعد ذلك من فتن كبرى ومعارك بين المؤمنين إلا على أثر الشائعات؟
بل انظر إلى المؤمنين الأوائل من أصحاب النبي الذين فروا بدينهم مهاجرين إلى الحبشة تاركين الأهل والأوطان والأموال فعاشوا في ظل عدل ملكها النجاشي، فلما بلغهم أن أهل مكة قد أسلموا رجعوا إلى مكة ولم يكن نبأ إسلام أهل مكة إلا شائعة فلما تأكدوا من كذبها هاجر بعضهم مرة ثانية إلى الحبشة لكن آخرين لم يتمكنوا من الهجرة فسامهم أهل مكة العذاب، وهل كان كل ذلك إلا بناء على شائعة؟.
حادثة الإفك وأثر الشائعات
هذه الحادثة التي بنيت على شائعة رددها المنافقون وتلقفها نفر من المسلمين فأرقت بيت النبوة شهرا كاملا وادت الفتن تثور بين المسلمين بسببها،
ولندع أم المؤمنين المبرأة من فوق سبع سماوات الصديقة بنت الصديق تذكر لنا ما جرى كما رواه عنها الإمام البخاري رحمه الله فتقول رضي الله عنها: ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه. قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي،
فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما نزل الحجاب فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه. فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع، فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه.
وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فأممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي،
فبينا أنا جالسة في منزل غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة، فهلك من هلك،
وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول، فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول:
كيف تيكم، ثم ينصرف، فذاك الذي يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعد ما نقهت، فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع، وهو متبرزنا (مكان قضاء الحاجة)وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط، فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا.
فانطلقت أنا وأم مسطح – وهي ابنة أبي رهم بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة – فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي وقد فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح. فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلا شهد بدرا ؟ قالت أي هنتاه أولم تسمعي ما قال ؟ قالت: قلت:
وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضا على مرضي. فلما رجعت إلى بيتي ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم تعني سلم ثم قال: كيف تيكم ؟ فقلت: أتأذن لي أن آتي أبوي قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما قالت: فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت أبوي، فقلت لأمي: يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها.
قالت: فقلت: سبحان الله، أو لقد تحدث الناس بهذا ؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي الله عنهما حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله.
قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود فقال: يا رسول الله، أهلك، وما نعلم إلا خيرا. وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك. قالت فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك ؟ قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق، إن رأيت عليها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبي بن سلول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر:
“يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي ؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي “فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله وأنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.
قالت: فقام سعد بن عبادة – وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية – فقال لسعد: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله. فقام أسيد بن حضير – وهو ابن عم سعد بن معاذ – فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فتساور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت.
قالت: فمكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. قالت فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم لا يرقأ لي دمع يظنان أن البكاء فالق كبدي. قالت: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي، قالت: فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس، قالت ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني قالت:
فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال: “أما بعد، يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرؤك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه”.
قالت: فلما قضى رسول الله مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال. قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت فقلت – وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن -:
إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة – والله يعلم أني بريئة – لا تصدقونني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر – والله يعلم أني منه بريئة – لتصدقني. والله ما أجد لكم مثلا إلا قول أبي يوسف، قال {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} قالت:
ثم تحولت فاضجعت على فراشي قالت وأنا حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرؤني الله بها. قالت:
فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء (من أثر الوحي)، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق وهو في يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه. قالت: فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سري عنه وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها:” يا عائشة، أما الله عز وجل فقد برأك”.
فقالت أمي: قومي إليه قالت فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عز وجل. وأنزل الله {إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم…} العشر الآيات كلها. فلما أنزل الله في براءتي قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره:
والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم} قال أبو بكر: بلى والله، إني أحب أن يغفر الله لي.
فرجع إلى النفقة التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبدا. قالت عائشة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب ابنة جحش عن أمري فقال: يا زينب، ماذا علمت أو رأيت ؟ فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، ما علمت إلا خيرا. قالت – وهي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك “.
والقصة لا تحتاج إلى تعليق لكننا نُذَكِّر هؤلاء الذين يروجون الشائعات أنهم على خطر عظيم ومتوعدون بالعذاب الأليم الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإسراء والمعراج، فقد أتى في تلك الليلة على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل المرة الأولى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قلت:
سبحان الله ما هذان ؟ فأجابه الملك: وأما الرجل الذي أتيت عليه، يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته، فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق.
أما الذين يستمعون إلى الشائعات ثم يرددونها ويحدثون بها فهم أولى الناس بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع “.
والنجاة أن يمسك العبد لسانه، وأن يمتنع عن الخوض فيما لا يعنيه، جعلنا الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون احسنه، والحمد لله رب العالمين.