يوسف الخطيب والبحث عن العدل أو معاويــــة والكوفي
تاريخ النشر: 18/09/14 | 8:20سألني صديق: قرأت بيتين للشاعر يوسف الخطيب في صحيفة ” الحياة الجديدة “– عدد 23/8/1999، وقد اختلفت أنا ولفيف من الأساتذة حول شرحهما، فهل لك أن توافينا بالشرح مشفوعًا بنبذة تعرّف بالشاعر!
البيتان هما:
لابن هند في العدل سالفُ ســبْقِ
ما عليٌّ بمستطيعٍ لحاقــــهْ
مذ بعيــــر الكوفيِّ بين يديـــه
للدمشقي قد تحـول ناقـــــه
* * *
لنتعرف أولاً إلى يوسف الخطيب الذي نشر هذين البيتين وسواهما في صحيفة: الحياة الجديدة “، وهي تصدر في رام الله. ومن الطريف أن الشاعر يعلق تعليقًا ساخرًا بعد كل مقطوعة وكأنه لازمة: ” عمل شعري مفتوح على سوانح الزمن العربي البهيج “.
ولد الشاعر في دورا (الخليل) سنة 1931، وحاز على إجازة الحقوق من دمشق سنة 1955، وعمل مذيعًا في أكثر من محطة إذاعية عربية. حصل ديوانه
” العيون الظمأى للنور ” على الجائزة الأولى التي قدمتها مجلة ” الآداب ” سنة 1954. رأس تحرير مجلة ” الطليعة ” السورية الشهرية، وانتخب نائبًا لرئيس اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين. يعيش اليوم في دمشق. من مؤلفاته: العيون الظمأى للنور- 1955، عائدون – 1959، مجنون فلسطين – 1984، ديوان الوطن المحتل – 1968، وهو دراسة أدبية للحركة الشعرية في فلسطين، ومذبحة كفر قاسم – 1972. توفي الشاعر في دمشق في حزيران سنة 2011.
خلفيـــة البيتين:
لا يستطيع القارئ أن يشرح البيتين دون أن يكون قد اطلع على قصة معاوية مع الكوفي، وإليك القصة (1):
قيل إن رجلاً دخل الشق على بعير في منصرف جيش معاوية عن واقعة صفّــين، فتعلق به رجل من أهل دمشق، فقال: ” هذه ناقتي أخذت مني في صفين “، فأنكر الرجل أيما إنكار، ولكن هيهات! وظل الخلاف بينهما قائمًا.
بلغ أمرهما معاوية، فاستدعاهما ليحكم بينهما.
أقام الدمشقي خمسين رجلاً بيّّــنة يشهدون على أنها ناقتــــه.
حكم معاوية على الكوفي، وأمره أن يسلم البعير للدمشقي.
فقال الكوفي وهو يكظم غيظًا:
– ” أصلحك الله يا أمير المؤمنين! إنه جمل وليس ناقة.”
فقال معاوية: ” هذا حكم قد قضي ”
بعد أن تفرق القوم، طلب معاوية من الكوفي أن يعود إليه، وسأله عن ثمن بعيره، ثم إنه دفع له ضعفي ثمنه. وقد برَّه، وأحسن إليه، وقال له:
” أبلغ عليًا أنني أقابله بمائة ألف ما فيهم من يفرّق بين الناقة والبعير “.
فـ “ابن هند ” في البيت الأول كناية عن معاوية بن أبي سفيان (أمه هند بنت عتبة)، فهذه القصة تبين مدى ” عدلـــه؟ “، فلا يستطيع علي – كرم الله وجهه – بنزاهته أن يباريه أو يجاريه، فأين البراءة من الدهاء؟
إن الأمور تَجري مع القوي، وتُــجري ميزانـــه، حتى أن البعير الذكر أصبح بشهادات خمسين شاهدًا – ناقة (يحضرني هنا المثل: استنوق الجمل، ولكن له معنى آخر(2))، دون أن يُعمل ابن هند ولو للحظة الفكر والمنطق، فيسكت على باطل من المؤكد أنه يعرف أنه باطل – بدليل الجملة التي طلب من الكوفي أن يوصلها إلى علي.
من هنا يتم قلب الحقائق.
الشهود الكثيرون يشهدون بهتانًا وعدوانًا، ومعاوية ينفذ الحكم بلا أدنى تحر أو تدقيق لأنه ليس بحاجة إلى ذلك، فالقرار جاهز أصلاً، فهو يجري مع الباطل رئاء الناس وإرضاء لأنصاره، الذين هم عدته وعتاده، ورجاله في المهمات الملمات.
كان معاوية يعرف الحقيقة، ولذا ارتأى أن يستدعي الكوفي ليرضيه أي رضا.
من ورائيات هذه الحكاية ظل الشاعر الخطيب يسخر من مثل هذا العدل الذي ظهر بين الناس في حكم جائر، وبالطبع فهو يسخر من أمثال هؤلاء الحكام الذين ابتعدوا الحق، وتجانفوا إلى الباطل. فكيف لعلي وأمثال علي أن يلحقوا بمن سبقهم في مثل هذا ” العدل “؟ العجيب!
وهنا تحضرنــي رسالة الفاروق عمر إلى أبي موسى الأشعري حين ولاه القضاء:
” ولا يمنعنك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهُديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل “.
ولا أظن أن معاوية راجع نفسه حسب الوصية، فهو من الفطنة بدءًا بحيث عرف أنه حكم عن سابق قصد، وأن حكمه نابع عن سياسة ليس إلا.
وخلاصة المعنى:
هناك غبن يتمثل في الواقع (والسياسي كذلك)، وهناك من يقلب الحقائق، ومن يزوّر الأمور، ولا يستطيع الأبرياء إلا أن يدفعوا الثمن باهظًا بسبب مكر أو تماكر.(3)
1- القصة واردة في كتاب العصامي – سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي، ص 559 – موقع الوراق، والعصامي يرى في القصة أنها ” من حسن سياسات معاوية”.
2- استنوق الجمل: مثل يُضرب لمن ليس على حقيقته، وأصله أن طرفة بن العبد كان عند بعض الملوك وكان المسيب بن علس (وفي رواية أخرى خال طرفة – المتلمس) ينشد:
وقد أتناسى الهم عند احتضاره بناج عليه الصيعريّة مُكْدمِ
والصيعرية هي سمة لا يوسم بها إلا النوق، والناجي هو الجمل، فهو يصف جملاً صلبًا ويجعل له ما للناقة، فكان تعليق طرفة يضرب للذي يخلط في الأمر.
3- من الطريف أن أضيف هنا حكاية شعبية في هذا السياق:
كان رجل فقير قد “عضه” كلب أحد المسؤولين الكبار في بلد ما، ومن قهر الرجل قرر أن يشتكي إلى القاضي مظلمته، ولم يسمع للأصوات المخلصة التي همست في أذنه أن يتغاضى عن ذلك خشية العواقب، ولكنه أصر وقال ” ” الجريمة واضحة وكذا أثرها، ولا بد أنني سأُنصف هذه المرة خاصة أن خصمي مجرد كلب!!! “. وبالفعل تقدم الرجل وهو يمنّي نفسه بالإنصاف أمام “الكلب” ليفاجَأ بعد حين بالحكم الصادر.
إذ أن القاضي بعد ” التحري والتحقيق ” قرر إدانة الرجل الفقير في جريمة عض الكلب.
وهناك لافتة لأحمد مطر تتحدث عن قصة شبيهة لعضة الكلب – وهي كلب والينا المعظم:
كلب الوالي:
كلب والينا المعظم
عضني اليوم ومات
فدعاني حارس الأمن لأعدم
عندما اثبت تقرير الوفاة
أن كلب السيد الوالي تسمم
أ. د. فاروق مواسي