" لِكُـلّ صَبِيّةٍ رَكْــوَةٌ"
تاريخ النشر: 21/05/12 | 9:41تِلْكَ اللَيْلَةُ بَدَتْ والِدَتي (أطالَ اللهُ عُمْرَها) وَكَأنَهَا تَهَيَأتْ ،واسْتَعَدّتْ لأحْياءِ سَهْرةَ سَمَرٍ خاصةٍ ! لَبِسَتْ ثَوْبَها الشِعْرَاوِيّ المُرَدّنِ ،يُطَوِقُهُ زِنَارُهَا المُشَجّرُ الأحْمَر ،كألْوانِ زَمَّاتِها المُخْمَلِيّةِ الداكِنَةِ ، تَبْدو مِن تَحْتِ ثَوْبِها أطْرافُ سِرْوالِها الصُرَطْلِيّ الأخْضَر، يَتَدَلَيَانِ فَوْقَ خَاصِرَتَيْها قَرْمولانِ سَوْداوَانِ يَحْتَضِنَانِ بَقَايا شَعْرِها الأجْعَـدِ والمُخَضّبِ بالحِنَاءِ، تَطُلُ فَسْخَةُ غُرَّتِهِ مِنْ تَحْتِ نَشْطَةِ خِرْقَتِها اليَنَسِيّة البَيْضاء،وَكَأنَها عَرُوسٌ يانِعَةٌ حالِمَةٌ.
أيْقَنْتُ مِن صَفْنَتِها العَميقَةِ بأنَها سَتَتْلو أوْرَادَها خَارِجَ أسْرابِ والِدي (حَفِظَهُ اللهُ) ،وَسَتَطْلِقُ عَنَانَ أحلامِ ذِكْرَياتِها خَلْفَ أسْوارِ مَمْلَكَتِهِ مَحْدودَةِ الأرْجاءِ. فَصَفْنَةُ أمي قَرَأتُ تَقاسيمَ طَلاسِمِها في مَدْرَسَةِ حِضْنِها الدَافِئِ ، وَتَذَوّقْتُ أسْرارَ مَكْنُوناتِها مِنْ زَمْزَمَةِ صَدْرِها الحَاني. لَمْلَمَتْ أكْمَامَ ثَوْبِها ،وَأرْخَتْ زَمَّاتِها ،وَسُرْعانَ ما أزَاحَتْ سِتَارَ صَفْنَتِها لِتَبْدأَ لَيْلَةَ سَمَرِها..
” كانَتْ الصَبايَا تَرِدُ بِئْرَ القَرْيَةِ مَرَتَيْنِ يَومِياً ،في الصَبَاحِ البَاكِرِ وَقَبْلَ المَغِيبِ، وَكُنا نَسيرُ فُرادَى وَزَرافاتٍ ،تَحْمِلُ كُلُّ واحِدَةٍ مِنا جَرَتَهَا فَوْقَ رأسِها ،وَعَسْلِيَةٍ أخْرى في يَدِها . وَكانَتْ لِكُلِ واحِدَةٍ مِنا رَكْوَتُها الخَاصَةُ ،حيْثُ كُنا نَخْفيهَا بَعْدَ انْتِشالِ الماءِ في مَخْبَأٍ خاصٍ ، والبَعْضُ تَرْكُنُها بَيْنَ ألْواحِ الصَبْرِ المُحيطَةِ بِصَحْنِ البِئْرِ”.
تَنَهَدَتْ وَالِدَتي تَنْهيدَةً طَويلَةٍ لَمْ أعْهَدْها مِن قَبْلِ ! حَسِبْتُ في نَفْسِي بِأنَهُ قَد حَانَ الآن مَشْهَدٌ يُدَغْدِغُ مَشَاعِرَها،وَيُرَاقِصُ اضْطِرَابَ أحَاسيسَها . بَيْدَ أنَها تَابَعَتْ سَرْدَها ،وَقَد عَلَتْ ثَغْرَها ابْتِسامَةٌ رَقِيقَةٌ : ” كُلُ شَابٍ كانَ يَعْرِفُ جَيِداً رَكْوَةَ مَحْبُوبَتِهِ مِنْ زينَتِها المُمَيّزَةِ ، هذِهِ تُزَيّنُها بالخُيُوطِ المُلَوّنَةِ ،وأخْرى عَلَقَتْ فَوْقَ حَبْلِ رَكْوَتِها حَباتَ اللولو (الِمْويعِم) ، أما رَكْوَتي فَقَد عَلَقْتُ عَلى حَبْلِها (المَصِيصِ) أشْرِطَةً مِنْ قِماشِ الجُورْجِيه المُلَوّنَةِ ،والمنادِيلِ المُزَرْكَشَةِ . كانَ الشَبَابُ يَرقُبُونَ قُدُومَنا قُبَيْلَ المَغِيبِ خَلْفَ أشْجَارِ الحُقُولِ وَبَعْضِ الصُخُورِ ، ينتَظِرُونَنا حتى نَفْرغَ مِنْ انْتِشالِ المِياهِ وَعَوْدَتِنا إلى بيُوتِنا”.
أبْدَيْتُ دَهْشَتِي مِنْ تَوَاجُدِ الشَبَابِ خَلْفَ الأشْجَارِ والصُخُورِ ،أيْقَنَتْ والِدَتي مَا يَدُورُ في ذِهْني فَتَابَعَتْ حِكَايَتَها : ” كُنا حَالَما تَرْكِنُ كُلُ صَبِيّةٍ رَكْوَتَها في مَخْبَأها ،يَهْرَعُ الشَبابُ كُلٌّ الى رَكْوَةِ مَحْبُوبَتِهِ ،هذا يُودِعُ حَباتَ الراحَةِ ،وآخَرٌ يَدْلي بِبَعْضٍ مِنَ الحَلْوى(بابُونِس) أو المُلَبَس (بَيْضُ الحَمَامِ ) ،وَذاكَ يَضَعُ عِلْكَةً “. سَكَتَتْ قَليلاً.. ثُم قَالَتْ : “لَمْ تَكُن أيٌّ مِنا تَعْرِفُ مَنْ يَرْقُبُها ،وَمَنْ يَهْوى رَكْوَتَها ! فَنَنامُ لَيَالينا مَع أحلامِ رَكَواتِنا،تَنْتَظِرُ كُلُ صَبِيّةٍ اشْراقَةَ شَمْسِها مُشْتَاقََةٌ ما بِرَكْوَتِها من “حَلْوى الغَرَامِ”.
عَادَتْ وَالِدَتي إلى صَفْنَتِها المَعْهُودَةِ ،،فانْتَظَرْتُ على أحَرِّ مِنَ الجَمْرِ مَشْهَدَ قُدومِ فارِسِ لَيْلَةِ سَمَرِها.. حَرّكَتْ زِنَارِها قَليلاً ثُم أوْثَقَت رَبْطَتَهُ وَتَابَعَتْ حَديثَها : ” في أحَدِ الإصْبَاحِ وَجَدْتُ بِدَاخِلِ رَكْوَتي رِسَالَةً وَخُصْلَةَ رَيْحانَةٍ ،فالتَقَطُها بَيْنَ يَدَيّ أخْفَيْتُها عَن الصَبايا عَلّي أعْرِفُ مَن يُلاحِقُني وَيَضَعُ لِي الهَدَايا في رَكْوَتي ! خِلْتُ أنَ الصَبايا تَرْقُبُني ،فانْتابَتني رَعْشَةٌ شَديدَةٌ وانتابني معها الخَوْفُ والفَزَعُ ،فأنا لا أعْرِفُ القِراءَةَ ولا الكِتابَةَ .. وأخشى أن أُطْلِعَ إحْدَى الصبايَا على رِسالَتي ! فَيُباحُ أمْري ،، لكِنني تَمَالَكْتُ نَفْسي ،فأومأتُ لأحدى صبايَا الكُتّابِ أن تلحَقَني خَلْفَ الصَبْرِ بِمَنأىً عنْهُنَّ , فتعاهَدْنا أن يبقى الأمْرُ بَيْنَنا ، فناوَلْتُها الرسالِةِ تَنْظُرُ ما جاءَ فيها ، نَظَرَت بها وأنا اراقِبُ عَيْنَيها تارَةً وشَفَتيها تارَةً أخرى ..
وإذا بِها تَشْرَعُ في الضَحِكِ، ثُمً َتَقول : لقَدْ كُتِبَ فيها ” لِكُلِ صَبِيَةٍ رَكْوَةٌ ،أما رِكْوَتُكِ يا خَديجَةَ أجْمَلُ الرَكَواتِ “. – مَنْ كَتَبَ لي ذلك ؟ – لَمْ يَذْكُر اسْمَهُ !! ” .
في هذه الأثناءِ سَمِعْتُ حَشْرَجَةَ ضُحكَةٍ مِن صَوْبِ فِناءِ بَيْتِنا.. فَتَسَللْتُ اسْتَطْلِعُ الأمْرَ، فإذا بِهِ والِدي يَنْظُرُ بِحُنُوٍ الى الرَكْوَةِ المُعَلَقَةِ فَوْقَ قَنْطَرَةِ البابِ ، فأشارَ الَيّ بالسُكوتِ، فأدْرَكْتُ حينَها لِماذا يُصِرّ أبي على ابقَاءِ الرَكْوَةِ في مَكَانِها ، وأدْرَكْتُ كذلِكَ بأنَ والِدَتي لا تَزالُ تُغَرِدُ حَكَاياها فَوْقَ رُبوعِ مَمْلَكَتِهِ مَحْدودَةِ الأسْوار ،عَذْبَة الأسرار.
————-
الرَكْوةُ : وِعاءٌ مِنَ المَعْدنِ أو الجِلْدِ المُقَوى موصولٌ بِحَبْل لانتِشال الماء.
الصُرَطْلي ،الجُرْجيه ،اليَنَسي :أنواعٌ من الاقمِشَةِ عُرِفَت بهذه الاسماءِ
اللباس الشعراويّ المُرَدَنْ :ثوبٌ ابيضٌ فضفاض
الزِنّار : الإزار
الخِرْقَه : المنديل
القََرَاميِل : حبال اقمشة حريرية تُجَدّلُ مع خُصُلات الشَعْرِ ،تنتهي بعناقيدٍ تشبِهُ حبات العِنَب
الزَمّات : ما يكسو ساعد المرأة
تحيّاتي الورديّة عمي عوني
لقد تَفتَحت الأزاهير ورفّتْ طيور الفرح فوق بساتين المحبّة والوئام ..
عماه! يا لجَمالِ بَوُحِكَ وعُذوبَةِ حِسّكَ ويا لنَبْضِ قَلبك..
إنّ كلماتكَ مُزركَشةٌ وجَميلة تُحيطها كلّ هَالات السَّناء والرقي, دُمتَ ودامَ شَدْو أحاسيسك وهَمَساتُ مِدادكَ.. وحَفظ الله والِديك من أي سوء
جميل ما كتبت من ذكريات جميله امتازت بالبساطه والخجل الذي ميزنا عن سسائر الشعوب وتاريخنا له طعم ولون كثوب والدتك المردن وزماتها المخمليه والرقعه المطرزه بكل دقه والشال الذي لف خصرها ثلاث لفات وتشكيلتها المختلفه عن كل نساء العالم كل هذا واكثر ما يجعلنا قمه في الجمال والرقي
عماه صفاء الغالية !
بك أفخر ..وبحروفك أكابِر ..عانق الاريج مداد ريشتك ليكتسي عطراً فوق عطره
الطيبة ام السعيد ..يا لرقة فواصلك التي تقطر امجاد التراث العريق حفظك الباري
عوني وتد ما من حسد انت في الادب الملك الاسد
الاخ الماجد ابا سامح !
انت السيّد الاسد ،حفظك الباري الصمد ،دمت للخير مدد
.
عندما يكون الحب في أبسط تعابيره فهو يفوق كلّ القصائد …رجفة والدتك وهي تحمل حروف والدك وكأنّها تملك الدّنيا دليل قدر هذا الحبّ في عيون الصّبايا.دامت ركوة أمّك مصونة في زاوية بيتكم تحمل صدى حبّ السّنين…..كنت رائعًا.
الاستاذ الكبير شريف شرقيّة ، كلماتك عبقٌ رائع تز]ن السطور بشموخها ورقتها