سُنّة الصراع بين الإصلاح والفساد
تاريخ النشر: 24/09/14 | 7:47علاقة الإصلاح بالفساد، علاقة مقابلة وتضاد، وصراع وإصطكاك، فالمُصلح يُريد إزالة الفساد، والمُفسد يتشبّث للبقاء والدفاع عن مصالحه ومكاسبه غير المشروعة.
والفساد ليس ظاهرة فرديّة محدودة، بل هو منظومة إجتماعية متجذِّرة، تبدأ من الحاكمين وتمتد إلى سائر مرافق المجتمع، وفيها الآلاف من المنتفعين، وهؤلاء بيدهم القوّة والسلطة وأدوات الكبت والفتك التي يستعملونها لإسكات الصوت الحُر الناقد وللقضاء على دعوات الإصلاح.
وإذا ما اشتدّت المواجهة وأحسّ الفاسدون بالخطر يُهدِّد عروشهم ومصالحهم، فإنّهم لا يتوانون في استعمال أبشع أنواع الظلم، من قتل وتشريد، وقمع وتهجير.. أليس القتل من أبرز عناوين الفساد؟ وأليس الظلم من أكثر صوره شيوعاً؟
وهكذا نجد عبر التاريخ: صراعاً أبدياً بين الظالمين والفاسدين والكافرين من جهة، وبين عباد الله الصالحين والمُصلحين من جهة أخرى، ومَن يقرأ سيرة الأنبياء يجد المعركة واحدة وإن تعدّدت ساحاتها واختلف رجالها، ولكنها هي هي، مع تغيُّر الزمان والمكان.
قال تعالى: (وَكَذلِكَ جَعَلنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواً مِنَ المُجرِمِينَ وكَفَى بِرَبِّكَ هادِياً ونَصِيراً) (الفرقان/ 31).
وهكذا نقرأ في القرآن، من قصص النبيِّين ومعاناتهم مع طغاة عصرهم والفاسدين في زمانهم، نقرأ ألواناً من العذاب والتنكيل والعدوان والبغي الذي صبّ على الأنبياء والمؤمنين، لأنّهم أرادوا إصلاح أوضاع أُممهم ونجاتهم من الكفر والظلم والفساد الذي كانوا فيه.
نقرأ في قصّة أوائل المُرسلين: نوح كيف كان يدعو قومه إلى الإيمان والتقوى ويُذكِّرهم بآيات الله.. ولكنّهم لم يكتفوا بتكذيبه، والإستهزاء بمن تبعه من الناس الطيِّبين والبسطاء.. لم يكتفوا بذلك، بل انتقلوا إلى مرحلة التهديد والوعيد، حالهم حال الكافرين ممّن لا حجّة لهم ولا منطق إلاّ لغة الحديد.. يقول تعالى: (قالُوا لَئِنْ لَم تَنتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ المَرجُومِين * قالَ رَبِّ إنّ قَومِي كَذَّبُون * فَافتَحْ بَينِي وبَينَهُم فَتحاً ونَجِّنِي وَمَن مَعِيَ مِنَ المُؤمِنِين) (الشُّعراء/ 117-119).
نقرأ عن بني إسرائيل وقتلهم الأنبياء والإعتداء على المؤمنين وما أصبحوا فيه من غضب الله.. يقول تعالى: (… وَضُرِبَتْ عَلَيهِمُ الذِّلَّةُ والمَسكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلكَ بِأنّهُم كانُوا يَكفُرُونَ بِآياتِ اللهِ ويَقتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيرِ الحَقِّ ذلكَ بِما عَصَوا وكانُوا يَعتَدُون) (البقرة/ 61).
والعدوان اتّخذ أشكالاً أخرى، إضافة إلى القتل، التشريد والتهجير، كما يحدث في عصرنا، يقول تعالى: (ثُمّ أنتُم هؤُلاءِ تَقتُلُونَ أنفُسَكُم وتُخرِجُونَ فَرِيقاً مِنكُم مِن دِيارِهِم تَظَاهَرُونَ عَلَيهِم بِالإثمِ والعُدوَانِ وإنْ يَأتُوكُم أُسَارَى تُفادُوهُم وهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيكُم إخرَاجُهُم…) (البقرة/ 85).
وقد يأخذ الظلم شكلاً إقتصادياً بأكلِ أموال الناس بالباطل، بوسائل مختلفة، منها: الرِّبا.. يقول تعالى: (فَبِظُلمٍ مِنَ الذينَ هَادُوا حَرَّمنَا عَلَيهِم طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُم وبِصَدِّهِم عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً * وأخْذِهِم الرِّبَا وقَد نُهُوا عَنهُ وأكلِهِم أموَالَ النّاسِ بِالبَاطِلِ وأعْتَدْنا لِلكافِرِينَ مِنهُم عَذاباً أليماً) (النِّساء/ 160-161).
ومن خطط المُفسدين أيضاً: إثارة الفتنة والتآمر لغرض الإيقاع بالمؤمنين والنيل منهم، كما عمل اليهود مع رسول الله(ص) فتآمروا على قتله وإخراج المؤمنين من المدينة وحرّكوا المشركين من قريش للفتك بهم.. يقول تعالى: (وقالَتِ اليَهُودُ والنَّصَارَى نَحنُ أبنَاءُ اللهِ وأحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَل أنتُم بَشَرٌ مِمَّن خَلَقَ يَغفِرُ لِمَن يَشَاءُ ويُعَذِّبُ مَن يَشاءُ وللهِ مُلكُ السَّموَاتِ والأرضِ وما بَينَهُما وإلَيهِ المَصِير) (المائدة/ 18).
إضافة إلى محاولات التشويه الإعلامي للرسالة وإظهارها بغير مظهرها الحق، كما قال تعالى: (… وإذْ كَفَفْتُ بَنِي إسرَائِيلَ عَنكَ إذْ جِئتَهُم بِالبَيِّناتِ فَقالَ الذينَ كَفَرُوا مِنهُم إنْ هذا إلاّ سِحرٌ مُبِين) (المائدة/ 110).
وهم يعملون على تحريف الأقوال وتغيير الألفاظ ونشر الأكاذيب لغرض صرف الناس عن اتباع المؤمنين واستماع أقوالهم (… ومِنَ الذينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَومٍ آخَرِينَ لَم يَأتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِن بَعدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إنْ أُوتِيتُم هذا فَخُذُوهُ وإنْ لَم تُؤتَوهُ فَاحذَرُوا ومَنْ يُرِدِ اللهُ فِتنَتَهُ فَلَن تَملِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيئاً أولئِكَ الذينَ لَم يُرِدِ اللهُ أنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُم لَهُم في الدُّنيا خِزيٌ ولَهُم في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيم) (المائدة/ 41).
وتشتد صور الصِّراع وتزداد ضراوة وعنفاً كلّما كان المفسدون أكثر قوّة وأعلى سلطاناً، فهذا فرعون يتوعّد المؤمنين (لأُقَطِّعَنَّ أيدِيَكُم وأرجُلَكُم مِن خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُم أجمَعِين) (الأعراف/ 124).
ولم يتوقّف بظلمه وعدوانه على الناس المؤمنين، بل تجاوز كلّ القيم والحدود ليعتدي على أهاليهم، من النِّساء والأبناء: (وقالَ المَلأُ مِن قَومِ فِرعَونَ أتَذَرُ مُوسَى وقَومَهُ لِيُفسِدُوا في الأرضِ ويَذَرَكّ وآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أبنَاءَهُم ونَستَحِي نِساءَهُم وإنّا فَوقَهُم قاهِرُون) (الأعراف/ 127).
فكان بذلك مصداقاً بارزاً وتجسيداً كاملاً للفساد والظلم والطغيان، كما يقول تعالى: (إنّ فِرعَونَ عَلا في الأرضِ وجَعَلَ أهلَها شِيَعاً يَستَضعِفُ طائِفَةً مِنهُم يُذَبِّحُ أبناءَهُم ويَستَحيِي نِساءَهُم إنّهُ كانَ مِنَ المُفسِدِين) (القصص/ 4).
ونجد مشهداً آخر من مشاهد الصِّراع بين المُصلحين والمُفسدين في قصة النبي شعيب، وهو يواجه أكثر ما يواجه الفساد المالي والإقتصادي الذي كان سائداً في زمانه – ولا زال –، إذ يدعو قومه إلى رعاية حقوق الناس والإلتزام بالموازين القسط.. بالضوابط والقواعد التي تعطي كل ذي حق حقّه وليس فيها ظلم لأحد، ولكنهم يزدادون عناداً وعتوّاً وظلماً وبغياً فيُهدِّدون أمن الناس ويُهدِّدون المؤمنين كي يتراجعوا عن طريقهم ويتفرّق شملهم، فلمّا لم ينفع ذلك واستمرّ شعيب ومَن معه في دعوته وسبيله، لجأوا إلى سلاح الظالم الضعيف، وهو إستخدام القوّة والإرعاب والإرهاب (قال المَلأُ الذينَ استَكبَروا من قَومِهِ لَنُخرجَنّكَ يا شُعَيبُ والذين آمنوا معكَ من قَريَتِنا أو لَتَعودُنَّ في مِلّتِنا قال أوَلَو كُنّا كارهين) (الأعراف/ 88).
إنّه منطق العاجزين الفاشلين الذين لا يجدون جواباً في مقابل دعوات الإصلاح ولا حُجّة تُبرِّر فسادهم فيلجأون إلى القوّة لإسكات المؤمنين وإخماد صوت الحق.. ولكن هذا المنطق لا يؤدِّي إلى نتيجة لأن مسيرة الإيمان مستمرة ورسالة المُصلحين منتصرة، يقول تعالى: (الذينَ كَذَّبُوا شُعَيباً كَأنْ لَم يَغنَوا فِيها الذينَ كَذَّبُوا شُعَيباً كانُوا هُمُ الخاسِرِين * فَتَوَلّى عَنهُم وقالَ يا قَومِ لَقَد أبلَغتُكُم رِسالاتِ رَبِّي ونَصَحتُ لَكُم فَكَيفَ آسَى على قَومٍ كافِرِين) (الأعراف/ 92-93).
وهكذا كانت سيرة سائر الأنبياء والمُرسلين، الذين أتوا لهداية المجتمع وإصلاحه.. إنّهم كُذِّبوا وأُوذوا بأنواع الأذى من قِبَلِ الكافرين والظالمين والمفسدين.. ولكن كانت العاقبة دوماً: أنّ الله ينصر عباده المؤمنين وتبقى الرسالة حيّة وتنتهي حكومات الظلم ومنظومات الفساد ولا تبقى إلاّ آثارها الغابرة وذكرها السيِّئ عبرة للمُعتبرين.
يقول تعالى: (قَدْ نَعلَمُ إنّهُ لَيَحزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فإنّهُم لا يُكَذِّبُونَكَ ولكِنَّ الظالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجحَدُون * ولَقَد كُذِّبَت رُسُلٌ مِن قَبلِكَ فَصَبُروا على ما كُذِّبُوا وأُوذُوا حتّى أتاهُم نَصرُنا ولا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ ولَقَد جاءَكَ مِن نَبَأ المُرسَلِين) (الأنعام/ 33-34).
ويقول تعالى: (ولَقَد سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنا المُرسَلِين * إنّهُم لَهُمُ المَنصُورُون * وإنّ جُندَنا لَهُمُ الغالِبُون * فَتَوَلَّ عَنهُم حَتّى حِينٍ * وأبصِرهُم فَسَوفَ يُبصِرُون) (الصافّات/ 171-176).
وتلك سنّة الله في الأرض، باقية ما بقي، من صراع الحقّ والباطل، ومواجهة المفسدين مع المُصلحين.. وإنّ مسيرة الإصلاح هي المستمرّة، مهما بلغت قوّة الفاسدين وطالت المسيرة، لأنّ إرادة الله تعالى تتدخّل وتدفع باتِّجاه الإصلاح والتغيير، حفاظاً على إستمرار الحياة ونهج الحق: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) (البقرة/ 2).
والنصرُ بعد الصبر، سيكون حليفَ المؤمنين وعاقبة المصلحين، يقول تعالى: (قالَ مُوسَى لِقَومِهِ استَعِينُوا بِاللهِ واصبِرُوا إنّ الأرضَ للهِ يُورِثُها مَن يَشَاءُ مِن عِبادِهِ والعاقِبَةُ لِلمُتَّقِين) (الأعراف/ 128).
وليس هذا وعد للمؤمنين بموسى فحسب، بل هو لسائر المؤمنين الصالحين، يقول تعالى: (ولَقَد كَتَبنا في الزَّبُورِ مِن بَعدِ الذِّكرِ أنّ الأرضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُون * إنّ في هذا لَبَلاغاً لِقَومٍ عابِدِين * وما أرسَلناكَ إلاّ رَحمَةً لِلعَالَمِين) (الأنبياء/ 105-107).
وهكذا يعمل الصالحون ويجد المُصلحون وهم يحدوهم الأمل وتشرق وجوههم بنور الله وهم يتطلّعون إلى تطهير الأرض من براثن الفساد وإصلاح المجتمع.. بتأييد الله ونصره (…ولَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إنّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز) (الحج/ 40).