حكم المنتحر في الاسلام
تاريخ النشر: 25/09/14 | 15:58المنتحر عند الفقهاء هو الذي يقتل نفسه متعمدا. وقد تضافرت النصوص القطعية القاضية بحرمة الانتحار، من ذلك قوله تعالى:“وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا” النساء:29. وقوله تعالى:“وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ” البقرة:195.
واعتبر الفقهاء الانتحار من أعظم الكبائر بعد الشرك بالله استنادا إلى قوله صلى الله عليه وسلم:”اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ(أي المهلكات). وذكر منهن “قتل النفس”{متفق عليه}.
والمنتحر أعظم وزرا من الذي يقتل غيره؛ لأن المنتحر متعد وزيادة. ومهما عظُم السبب فإنه لا يبيح الانتحار، قال أبو هريرة رضي الله عنه: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا، فقال لرجل ممن يدعي بالإسلام:”هذا من أهل النار”. فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالا شديدا، فأصابته جراحة، فقيل: يا رسول الله الرجل الذي قلت له آنفا:إنه من أهل النار، فإنه قاتل اليوم شديدا و قد مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:”إلى النار”. فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينما هم على ذلك إذ قيل: إنه لم يمت، ولكن به جرحا شديدا، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال:”الله أكبر، أشهد أني عبد الله و رسوله”. ثم أمر بلالا فنادى في الناس:”إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، و إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر”{متفق عليه}.
وحتى لو كان المرء قد ارتكب جرما مبيحا لإزهاق نفسه كزنى المحصن، فإنه لا يجوز له أن يقتل نفسه، بل الذي يتولى ذلك هو الإمام بعد إقراره، والأولى أن يستر الجاني على نفسه، وهذا المأخوذ من نصوص الشرع وروحه.
وإذا أقدم المسلم على الانتحار وباشر العمل إلا أنه لم يمت فعليه عقوبة تعزيرية يراها القاضي. أما إذا مات فهو تحت المشيئة، إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه، والدليل على ذلك ما رواه مسلم من حديث جابر أنه قال:”فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَمَرِضَ فَجَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِى مَنَامِهِ فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِى بِهِجْرَتِى إِلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:مَا لِى أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَالَ: قِيلَ لِى لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ.
فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- “اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ”.
قال النووي في شرحه على مسلم عقب هذا الحديث(1/230):”أَمَّا أَحْكَام الْحَدِيث فَفِيهِ حُجَّة لِقَاعِدَةٍ عَظِيمَةٍ لِأَهْلِ السُّنَّة أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسه أَوْ اِرْتَكَبَ مَعْصِيَة غَيْرهَا وَمَاتَ مِنْ غَيْر تَوْبَةٍ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ، وَلَا يُقْطَع لَهُ بِالنَّارِ، بَلْ هُوَ فِي حُكْم الْمَشِيئَة. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَان الْقَاعِدَة وَتَقْرِيرهَا. وَهَذَا الْحَدِيث شَرْح لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي قَبْله الْمُوهِم ظَاهِرهَا تَخْلِيد قَاتِل النَّفْس وَغَيْره مِنْ أَصْحَاب الْكَبَائِر فِي النَّار”.
أما الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقاضية بتخليد صاحبها في النار مثل ما جاء عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا”{متفق عليه}. ومنها حديث جُنْدَب عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:”كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَقَالَ اللَّهُ: بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ”.{رواه البخاري}. فهي محمولة على الزجر وليس المراد منها المعنى الحقيقي أو أنها تحمل على من يستحل قتل نفسه؛ لأنه إذا استحل قتل نفسه يكون قد أنكر معلوما من الدين بالضرورة، وانكار المعلوم موجب للكفر، والكافر عقوبته الخلود في النار.
قال ابن حجر في الفتح الباري(3/227):”وأجاب أهل السنة عن ذلك –أي عن حديث:”فهو في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا” بأجوبة: منها توهيم هذه الزيادة، قال الترمذي بعد أن أخرجه: رواه محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة فلم يذكر “خالدا مخلدا” وكذا رواه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة يشير إلى رواية الباب قال: وهو أصح؛ لأن الروايات قد صحت أن أهل التوحيد يعذبون ثم يخرجون منها ولا يخلدون، وأجاب غيره بحمل ذلك على من استحله، فإنه يصير باستحلاله كافرا والكافر مخلد بلا ريب. وقيل: ورد مورد الزجر والتغليظ، وحقيقته غير مرادة. وقيل: المعنى أن هذا جزاؤه، لكن قد تكرم الله على الموحدين فأخرجهم من النار بتوحيدهم. وقيل: التقدير مخلدا فيها إلى أن يشاء الله. وقيل: المراد بالخلود طول المدة لا حقيقة الدوام كأنه يقول يخلد مدة معينة، وهذا أبعدها”.
ولا تنزع صفة الإيمان عن المنتحر لذلك فهو يعامل معاملة موتى المسلمين فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين عند أهل السنة والجماعة.
قال ابن عابدين في الحاشية (6/291):”من قتل نفسه ولو عمداً يغسل ويصلى عليه, به يفتى. لأنه فاسق غير ساع في الأرض بالفساد، وإن كان باغياً على نفسه كسائر فساق المسلمين وإن كان أعظم وزراً من قاتل غيره”.
وقال الرملي في نهاية المحتاج(2/432):”وغسله وتكفينه والصلاة عليه وحمله ودفنه فروض كفاية إجماعا للأمر به في الأخبار الصحيحة، سواء في ذلك قاتل نفسه وغيره”.