تنمية الشعور بالمسؤولية هو الحل لكل أزماتنا …
تاريخ النشر: 26/05/12 | 1:40بقلم الشيخ إبراهيم صرصور – رئيس حزب الوحدة العربية / الحركة الإسلامية
تحدثت في مقالتي الأسبوع الماضي والتي حملت عنوان ( عود على بدء : العنف إلى أين؟ )، عن الخطوط العريضة لمسألة العنف المتفشي في مجتمعنا، ورسمت صورة نظرية لرؤيتي لحل هذه الأزمة دون الدخول في التفاصيل العملية … ولما كان الجانب العملي هو الحاسم في القضية والذي لا غنى عنه للعبور بمجتمعنا إلى بر الأمان تحت الأنوار الكاشفة لشريعة ربنا وهدي نبينا صلى الله عليه وسلم ، شعرت بأن إهمال هذا الجانب سيعتبر وبكل المعايير تقصيرا في حق مجتمعنا الذي يستحق منا كل الاحترام، ويحتاج منا إلى كل دعم وإسناد حتى يتخطى حقول الألغام التي زرعتها عناصر ذاتية وخارجية بالأفخاخ والكمائن ، فحالت بينه وبين الانطلاق نحن بناء حاضر آمن ومستقبل واعد …
أضع تجربتي في هذا الجانب تحت تصرف مجتمعنا ، آملا في أن أكون بهذا قد أديت ولو قسطا بسيطا ومتواضعا من الذي عَلَيَّ تجاهه وتجاه شعبي وأمتي … أبدأ القصة من البداية لأهميتها ولارتباطها برؤية البناء من الأساس إن أردنا فعلا الوصول إلى الغايات السامية والأهداف النبيلة ..
أرَّقَني منذ وَعَيْتُ ما يصيب مجتمعنا من أزمات في كل مجال من مجالات الحياة … زاد اهتمامي بما يجري من حولي ، والحرص على أن تكون لي بصمتي على مجمل جهود التغيير المجتمعي مهما كان حجمها ، أنني نشأت كما المئات والآلاف من أمثالي منذ الصغر تحت ظلال الحركة الإسلامية الوارفة التي جعلت من الاهتمام بأوضاع المجتمع جزءا من العقيدة ومؤشر من مؤشرات الإيمان الصادق …
كَبُرَ هذا الاهتمام مع كل مرحلة مرت من مراحل حياتنا … ازداد فيها الوعي ، وعظمت بالضرورة الهِمَّةُ من اجل المساهمة ولو بشكل متواضع في إصلاح الأوضاع بما يتناسب مع عظيم شأن هذه الأمة ، وجليل دورها ، وَكِبَرِ مهمتها وثقل الأمانة الملقاة على عاتقها ، وهي التي قال الله فيها ( كنتم خير أمة أخْرِجَتْ للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله … ) … فهمنا منذ نعومة أظفارنا أن ( الخيرية ) المُشار إليها في الآية ليست ( خيرية عنصرية ) متعلقة بالقومية أو اللون أو العرق أو الجغرافيا ، كما هي عند حملة الفكر العنصري الذي يعتبرون أنفسهم ( الأمة المختارة ) لذاتها فقط ، فهم ( المختارون ) مهما ارتكبوا من الجرائم وانتهكوا من المحرمات وخانوا من الأمانات . أنها ليست ( خيرية مطلقة ) ، بل هي خيرية مقيدة بنص الآية الكريمة … معنى ذلك أن المدخل لحيازة شرف ( الخيرية ) مرتبط بشروط ، وعلى رأسها : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذي يعني ( مشروع إصلاح شامل ) يستغرق كل جوانب الحياة . زاوية مضيئة أخرى نلتقطها من الآية الكريمة وهي أن المخاطبين بها هم عامة المسلمين وليس خاصتهم ، وبذلك تصبح عمليه الإصلاح مسؤولية كل فرد في المجتمع ، وإن كانت هذه المسؤولية عقلا ومنطقا متفاوتة من حيث قدرات الناس ومواقعهم على امتداد الهرم التنظيمي للمجتمع من قمته إلى قاعدته … هكذا فهمنا المسألة ، فكرسا حياتنا من أجلها وفي سبيلها ، لعل الله سبحانه يكتب لنا ولمجتمعنا النجاة في العاجل والآجل ، وفي المعاش والمعاد …
شاءت الأقدار أن أخوض تجربة إصلاحية أحسبها ناضجة ومفيدة ، وذلك أثناء فترتي رئاستي لمجلس كفر قاسم لفترة عشر سنوات كاملة ، ما زالت حية تعطي أكلها ، بشكل أو بآخر ، كل حين بإذن ربها حتى أيامنا هذه . شارك في إنجاح هذه التجربة المئات من الإخوة والأخوات في البلدة ، مدعومين بالآلاف من الأهل الأعزاء الذين أعلنوا احتضانهم لها وإسنادهم لجهودها بالغالي والرخيص ، لما رأوا من نتائجها المباركة على مشهد الحياة في المدينة . هدفها التصدي بحزم لظواهر الانحراف والفوضى ، والتعامل الفاعل مع كل أعراض وإفرازات حالة الخلل التي جرّأتْ عددا قليلا من الخارجين على كل شيء جميل في المجتمع ، فعاثوا في الأرض فسادا ، وحسبوا أن أحدا لن يقف في وجههم ، ويرد كيدهم إلى نحورهم ، كجزء من عملية البناء الرصين للمجتمع … فليست العبرة في مواجهة الشر فقط ، ولكن بزراعة الخير مكانه … فتوجهت الجهود على الهدم ، هدم الباطل بكل صوره وأشكاله وتجفيف مستنقعاته من جهة ، والبناء الشامل للإنسان والأرض من الجهة الأخرى …
لم تكن الخطة التي اعتمدناها موضعية فقط ، وإنما جاءت شاملة وبعيدة المدى وعميقة الأثر ، مبنية على رؤية محددة ورسالة واضحة تستمد قوة دفعها من خلال عملية ( تثوير ) للطاقات الكامنة والمعطلة وغير الإيجابية في المجتمع ، ومن خلال عملية ( تحرير ) للوعي من عقدة الخوف والتردد واللامبالاة وعدم الاكتراث وضعف الانتماء ، ونهايةً من خلال عملية ( تنظيم وتعبئة ) لكل الكفاءات المجتمعية بلا استثناء على قاعدة ( وتعاونوا على البر والتقوى ) ، و ( ومن تطوع خيرا فهو خير له ) ، و( المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) ، وغيرها من الآثار الجليلة.
للحقيقة والتاريخ ، هذا النوع من العمل لم يتوقف يوما في تاريخ مجتمعاتنا وإن بتفاوت ، وهذه الروح لم تنطفئ بالكلية وإن بتفاوت أيضا ، إلا أننا يجب أن نعترف أن انتكاسة خطيرة وتراجعا اخطر أصاب هذا المشروع الذي حمى مجتمعاتنا عبر العصور في أكثر مراحل حياتها صعوبة ، حتى لنكاد نرى جماهيرنا تغوص في مستنقعات العنف والفوضى بفعل مجموعات صغيرة متمردة وخارجة عن الأخلاق والقانون والقيم والأعراف والتقاليد الحميدة والجميلة ، أمام ذهول وشلل الأغلبية الساحقة من المسالمين والصالحين ، ولكن الصامتين … فتمت بذلك سيطرة القلة الضالة من الممارسين للإجرام بكل أنواعه وأشكاله ، وهم الأجبن والأضعف لو وجدوا من يتصدى لهم ، ويخلص المجتمع من شرهم ، دون الحاجة ربما لاستعمال أي نوع من العنف المضاد حتى وإن كان من النوع ( المنضبط ) و( المقنن ) ، وذلك من خلال موقف مجتمعي موحد ورافض لهذه الظواهر الكارثية والمدمرة عملا وقولا …
جوهر هذه الخطة الناجحة والتجربة الرائدة يكمن في استثمار الاستعداد لدى قطاعات المجتمع المختلفة لخدمة نفسها من خلال ما يمكن أن نسميه ( بإنموذج مركز الحي ) كرافعة للنهوض بمشروع الإصلاح الشامل بما فيه مواجهة ظواهر العنف والجريمة ، على اعتبار أن العنصر البشري حاسم في هذه العملية ، فكلما زاد استثمارنا في إعداد وتأهيل وتعبئة الفرد والمجموعة ، كلما نجحنا في إطلاق عمل تطوعي حقيقي … العامل الأساسي للنجاح في هذا المشروع يتوقف على الروح الطلائعية التي يجب أن يتمتع بها القائمون عليه ، فمهما كانت الخطط والبرامج رائعة وإلى أبعد حد ، لن تجد طريقها إلى واقع الناس ما لم يحملها من يؤمن بها ، ويتفانى في سبيلها ، ويكرس حياته من أجلها … هذا صحيح في القضايا الصغيرة كما هو في الكبيرة …
تنادي مجموعات من الرواد والطلائعيين في كل مدينة وقرية ومجمع سكني ، وهم عادة قلة في كل مجتمع ، إلى التبشير بهذا المشروع والتعاهد على المضي به رغم كل العوائق ، وتحقيق الانتصار على كل العقبات ، من خلال رؤية ليس في قاموسها مكان لليأس والإحباط ، أو التراجع والهزيمة ، أو المستحيل والجمود ، كفيلة ببداية لا بد أن تحقق الأهداف ، ولنا في تاريخ الأمم وخاصة أمتنا أصدق شاهد على هذه الحقيقة … مشروع تحمله تشكيلات بشرية يمكن أن تحمل اسم ( إدارة الحي ) تنطلق من المساجد في كل حارة ، وهي قواعد الإصلاح عبر العصور ، تكون مهمتها الاضطلاع بعدد من المهام المتعلقة بالحي ابتداء من أمن سكانه وانتهاء بحماية البيئة وجمالها ، وما بينهما من مهام تتسع لتشمل كل نواحي الحياة ….. تتشكل من مجموع هذه الإدارات في كل حي ، إدارة عليا يشكل ممثلو اللجان في كل حي أعضاءها ، تدير وتنسق وتشبك وتنسق مع كل الجهات وعلى رأسها البلدية أو المجلس ، تحقيقا لأهداف لا خلاف عليها … بهذا ، وبهذا فقط نبدأ مشوار الإصلاح الحقيقي ، وإلا فلننتظر الأسوأ ، ولا يلومن احدنا إلا نفسه .