المصلحون بين المهمة والتهمة… تأملات قرآنية وواقعية
تاريخ النشر: 29/09/14 | 16:23* الإصلاح مهمة الأنبياء والرسل والعلماء الربانيين وبعض المتقين.
هي مهمة يتعبد بها هؤلاء ربهم، ويرحمون بها الخلق، ويشفقون عليهم، مما يكون به إصلاح الأرض التي تعمر بالطاعة.
ومن وِجهةٍ أخرى هي تهمة يتلظى بها المصلحون من أيٍ من كان، وقد تتجاوز هذه التهمة حدود التلفظ، إلى الأذى بكل صوره، والتاريخ والواقع شاهد حاضر.
ورغم عظيم الشدة، وشراسة المكيدة، وبراعة الخديعة، الموجّهة للإيقاع بالمصلحين، ورد الحق وإطفاء نوره، إلا أن المصلحين صامدون.
ولو تفكر الظالمون قليلًا، وتأملوا القرآن الكريم، والسنة النبوية، والتاريخ، لعلموا أن الحق ظاهر، والمصلحون ما هم إلا في خير وإلى خير بإذن الله، والنصر بيد الله وبأمره، ويقدره بمشيئته وبحكمته، ولكن لا يفقه من لاعقل له.
[] تأملات قرآنية يسيرة حول هذا الموضوع:۱= قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف:35].
الإصلاح رسالة تعبدية تلزم الأمم، ومن تركها قصّر وتخاذل، وفرق ما بين الصالح والمصلح.
وفي هذا يقول الشيخ ابن باز رحمه الله: المصلح هو الذي يتولى إصلاح الناس، ويتولى توجيههم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، والأخذ على يد السفيه.. ونحو ذلك، فهو صالح مصلح.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: فالإصلاح وصف زائد على الصلاح، فليس كل صالح مصلحاً، فإن من الصالحين من همه هم نفسه ولا يهتم بغيره، وتمام الصلاح بالإصلاح.
۲= الإصلاح ضرورة لصلاح الأرض: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} [الأعراف 56]، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ*أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة:11-12].
قال ابن كثير رحمه الله: ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض وما أضره بعد الإصلاح، فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد، ثم وقع الإفساد بعد ذلك كان أضر ما يكون على العباد.
والتاريخ فيما مضى وواقعنا اليوم سُطّرت فيه صور من الإفساد ما لو نطقت الجبال والبحار والأحجار لقالت حسبكم إفساداً!؟
وقال السعدي رحمه الله: أي: إذا نهي المنافقون عن الإفساد في الأرض قالوا: إنما نحن مصلحون، فجمعوا بين العمل بالفساد في الأرض وإظهار أنه ليس بإفساد، بل هو إصلاح.
وما أقبح هذه وأشنعها، وما زالت أفواه المنافقين وأعناقهم تتعالى بهذه الفرية، وما زالت هناك نفوس تُحب أن تتشَرّب الباطل، لهوى في بواطنها، تصفق وتتراقص على أنغام هذا الإفساد، ودماء أولئك المصلحين.
وتأمل فرعون ذلك الظالم، كيف قلب الأمر على موسى عليه السلام، وادعى أنه يريد قتله لحفظ الدين، وهو القائل كما أخبر الله عنه: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24]، {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].
وعندما تقرأ هذه الآية، تتضح لك كثير من صور الإجرام في مثل هذا الشأن، وفي قلب الحقائق.
۳= الطريق الآخر الذي يرتضيه بعض الخانعين المتخاذلين، لأي سببٍ كان: شهوة، أو ضعفاً، أو ذلة، هو إتباع سبيل المفسدين، وفي هذا يوصي موسى أخاه عليهما السلام فيقول: {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142].
وهنا ذكرٌ لطريقين: إما الإصلاح، أو اتباع سبيل المفسدين.
وقال تعالى: {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164].
قال ابن كثير رحمه اللهد: يخبر تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق:
فرقة إرتكبت المحذور، وإحتالوا على إصطياد السمك يوم السبت، كما تقدم بيانه في سورة البقرة.
وفرقة نهت عن ذلك وإعتزلتهم.
وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه، ولكنها قالت للمنكرة: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} أي: لم تنهون هؤلاء وقد علمتم أنهم قد هلكوا وإستحقوا العقوبة من الله، فلا فائدة في نهيكم إياهم؟ قالت لهم المنكرة: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} قرأ بعضهم بالرفع، كأنه على تقدير: هذا معذرة، وقرأ آخرون بالنصب، أي: نفعل ذلك معذرة إلى ربكم، أي: فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} يقولون: ولعل لهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه، ويرجعون إلى الله تائبين، فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهمإ.
فقد يتخاذل بعض الصالحين والعلماء والدعاة عن نصرة إخوانهم المصلحين، ويؤثرون الصمت والسكوت، تقديماً لسلامتهم، وحفاظاً على مصلحتهم، ليس عن سوء طوية، ولكنه العجز وظن السلامة، وهذا مخالفٌ لنصرة الحق وأهله، وهو ضعف وقتل للهمة، وفيه موافقة لسبيل الإفساد وأهله، وهو في أقل أحواله مخالفة للولاء والحق المطلوب للأخ على أخيه.
٤= المصلحون هم مشفقون، ناصحون، رحماء بالخلق، ليسوا جبارين.
وتأمل رسالة الأنبياء، وتكرار كلمة النصح فيها، في القرآن الكريم، وكذا تأمل شفقة الأنبياء والمصلحين، وعظيم مصابرتهم لأقوامهم، وقِفْ ملياً على شفقة الحبيب صلى الله عليه وسلم بأمته، لتعرف حقيقة حال المصلحين، ولا تغتر يوماً بخديعة المغرضين الذين يريدون الإفساد.
وتأمل هذا الذي قال لموسى عليه السلام: {إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص:19]، فليس المصلحون جبارين.
٥= ثبات وصبر، وعزيمة وصمود، لأنهم يطمحون في عظيم الموعود: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:170].
فهم لا يخشون إلا الله، ولا يبتغون ثواباً إلا من الله، وليست الدنيا لهم غاية، وإنما يرجون الآخرة، ويحملون هم الأمة.
ومن كان هذا حاله لا يُشترى ضميره، ولا ترده عن الحق الشدة، ولا يخيفه لون الدم، فما أجمل الشهادة، لن يبيع دينه، ولن يرضى بإفساد أرضه، وهو أول من يصمُد لحفظ وطنه.
والواقع شاهدٌ بذلك، فعندما يخذل الدين والوطن بعضهم، لأجل عرضٍ من الدنيا، يُدافع المصلحون بأرواحهم، لكن يغفل عن ذلك ويتجاهله المغررون والمغرضون.
٦= هم موقنون بالحكمة، يعملون على بينة، والرزق بيد الله، وهم سائرون في طريق الإصلاح ما إستطاعوا، ولن يحيدوا عنه، ولن يخالفوا إلى ما نُهُوا عنه بإذن الله، وهم متوكلون منيبون إليه، والتوفيق إنما هو من الله، وليس إيلامهم لما يقع عليهم بأشد من إيلامهم على دينهم والافتراء على الله.
وتأمل في كل هذه المعاني قول الله في قصة شعيب عليه السلام: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]، {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [هود:92].
٧= محاربة الصلاح والإصلاح والمصلحين سنة، منذ أن خلق الله الخليقة، وباقٍ إلى قيام الساعة، وفي هذا كان حديث القرآن الكريم عن الأنبياء والمصلحين، والله نسأل النصرة والبصيرة.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين وآله وصحبه أجمعين.