انتخابات مصر وثقافة الترهيب
تاريخ النشر: 29/05/12 | 20:31قد تكون الديمقراطية حلا لمشاكل كثيرة في بلدان عديدة، لكنها ربما تتحول الى مأزق كبير في مصر البلد العربي الاكبر التي خاض شعبها ثورة عظيمة للوصول اليها، مأزق يفرّخ العديد من المشاكل اذا اختلت طريقة التعامل مع هذا الاستحقاق غير المسبوق.
نشرح اكثر ونقول ان الشعب المصري الذي يميل في معظمه الى الوسطية والمعارضة السلمية، عليه ان يختار في الجولة الانتخابية الثانية والحاسمة بين مرشحين يمينيين، أحدهما اسلامي (محمد مرسي) يريد التأسيس لدولة دينية تطبق الشريعة، والثاني علماني يطرح شعار الدولة المدنية كواجهة لإعادة استنساخ النظام السابق عبر البوابة الديمقراطية.
كيفية تعاطي الشعب المصري مع هذا المأزق الانتخابي الذي لا يحسد عليه، هي التي ستحدد ليس فقط هوية مصر، وانما المنطقة العربية بأسرها، ولهذا نضع ايدينا على قلوبنا، ومعنا عشرات الملايين من المصريين اولا، والعرب ثانيا.
فرسا السباق في المرحلة النهائية حصلا على اقل من نصف اصوات الناخبين الذين اقترعوا في الجولة الاولى، ولكن هناك 12.4 مليون مصري صوتوا لمرشحين آخرين هم الذين سيقررون الرئيس القادم لمصر، شريطة ان تأتي الانتخابات نزيهة حرة وبعيدة عن تدخلات العسكر اولا، وقوى خارجية ثانيا.
الخوف هو عنوان الجولة المقبلة، والقلق من المستقبل هو القاسم المشترك لدى الغالبية العظمى من الناخبين. هناك قطاع عريض يخشى من الفريق شفيق وعهده اذا ما فاز بطريقة او بأخرى، وهناك قطاع عريض آخر لا يقل اهمية يتخوف من الاخوان وتطبيقهم للشريعة واقامة دولة دينية صرفة، ومن بين هؤلاء الاقباط وبعض القوى الليبرالية واليسارية.
كثير من المصريين كان يتمنى ان لا يجد نفسه في هذه الدوامة، وان يذهب الى صناديق الاقتراع دون اي خوف او قلق، ولكنها الديمقراطية التي تفرض احكامها ومعاييرها، وعلى رأسها الحق في الاختيار، حتى لو كان هذا الاختيار بين السيىء والاسوأ بالنسبة الى البعض.
‘ ‘ ‘
في جميع الاحوال سيكون النموذج الجزائري حاضرا بعد اقفال صناديق الاقتراع، واعلان النتائج رسميا، في حال سير الأمور دون مشاكل او اضطرابات، وهو امر غير مضمون بالنظر الى بعض الاحتكاكات والصدامات والاحتجاجات، التي نرى ارهاصاتها حاليا.
فإذا فاز الفريق شفيق آخر رئيس وزراء في عهد النظام السابق، فإنه سيكون رئيسا مدنيا يمثل المؤسسة العسكرية الحاكمة ويحظى بدعمها، تماما مثلما هو حال الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة. اما اذا فاز السيد محمد مرسي مرشح الاخوان فإنه قد يواجه بانقلاب عسكري يمنع وصوله الى سدة الرئاسة، تماما مثلما حدث بعد فوز جبهة الانقاذ الجزائرية في انتخابات عام 1991.
المؤسسة العسكرية لا تريد رئيسا اسلاميا مدعوما بسيطرة حزبه (الاخوان) وحلفائهم (السلفيين) على مجلسي النواب والشورى، والاخوان الكتلة الصلبة الوحيدة في البلاد (غير المؤسسة العسكرية) لن يفرّطوا بحقهم في رئاسة وصلوا اليها عبر صناديق الاقتراع، تماما مثلما فعلت جبهة الانقاذ الجزائرية بقيادة عباسي مدني، وما حدث بعد ذلك من صدامات وحرب اهلية معروف للجميع.
الاسبوعان القادمان هما الاخطر في تاريخ مصر، نقولها دون اي مبالغة، مع اعترافنا المسبق بكثرة استخدام هذا التعبير، وعلينا ان نتوقع الكثير من المفاجآت، ومعظمها قد لا يكون سارا.
حرق المقر الانتخابي للفريق شفيق ربما يكون بداية هذا المسلسل، ولا نستبعد ان يكون احدى الثمار المرّة للآلة الجهنمية التي تريد منع المرشح الاخواني من الوصول الى الرئاسة. فهناك غرفة سوداء تعمل في الخفاء لإرهاب الشعب المصري، وتخويفه من حالة عدم الاستقرار الحالية وتفاقمها في البلاد، وهو عدم استقرار يغذيه ويفاقمه انصار النظام السابق في المؤسستين الامنية والعسكرية.
الفريق شفيق قدم نفسه على انه عنوان الاستقرار، وطرح شعارا يروّج لإعادة الثورة الى اصحابها، ملمحا الى خطف الاسلاميين لها، وترسيخ اسس الدولة المدنية في مواجهة الدولة الدينية.
دولة الفريق شفيق ليست مدنية وانما هي دولة عسكرية بلباس مدني ديمقراطي مخادع، لإعادة نظام التبعية والفساد السابق، وبما يؤدي الى وأد الثورة مبكرا، وليس اعادتها الى اصحابها في ميدان التحرير. فالفريق شفيق كان من اكثر المعادين لهذا الميدان وثواره، والمدافعين عن النظام السابق، وكونه حقق بعض الانجازات الادارية عندما كان وزيرا للطيران المدني، وفي ظل نظام ديكتاتوري قمعي، لا يعني انه يصلح لقيادة مصر الى الصدارة، والنهوض بها بما يعيد لها دورها الريادي والقيادي المفقود.
نعم.. المصريون يخافون الفوضى، وهناك من يخطط في غرفه السوداء لتغذية جرعة الخوف هذه وتضخيمها، بتحريض من قوى خارجية، اسرائيلية ـ امريكية ـ عربية على وجه الخصوص، مدعومة بامبراطورية تضليل ليس لها مثيل في التاريخ، او تاريخ المنطقة على الاقل.
‘ ‘ ‘
لسنا في موقع يعطينا الحق لإملاء تمنياتنا او قناعاتنا، وان كنا نتمنى ذلك، لان ما سيحدث في مصر سينعكس على المنطقة بأسرها، وسيؤثر على مستقبل اجيالنا القادمة، ولكن من حقنا ان ندلي بدلونا، وللأسباب السابقة، ونقول ان مصر لا يجب ان تعود الى الوراء مطلقا، بعد ان نجحت ثورتها في اطاحة دولة الفساد، ودفعت ثمنا غاليا لذلك من دماء شهدائها. مصر جربت نظام حكم كان شفيق احد اركانه لأكثر من اربعين عاما، فماذا كانت النتيجة غير التخلف ووجود اربعين مليونا من ابنائها الشرفاء تحت خط الفقر؟
وصول السيد مرسي الى الرئاسة لن يكون سهلا، واذا وصل فعلا فإن بقاءه في كرسي الحكم غير مضمون، ولكن اذا سارت الامور على ما يرام فإن التحديات التي ستواجهه من الضخامة بحيث تحتاج الى دعم وتعاون مختلف القطاعات والنخب السياسية والشعبية، لان هناك قوى عديدة ستحاول افشال رئاسته.
كنت اتمنى لو ان حركة الاخوان اعتمدت النموذج التونسي واختارت رئيسا للدولة، وآخر للبرلمان المؤقت من غير كوادرها، حتى يكون الحكم ائتلافيا حقيقيا، ولكنها اختارت النموذج التركي دون ان تملك خبرته وحنكته وانجازاته الاقتصادية الضخمة على الارض، ولكن لا بد من ترك كلمة ‘لو’ جانبا الآن والتعاطي بما هو مطروح على طاولة الانتخابات بطريقة مسؤولة، حفاظا على مصر وأمنها واستقرارها، فالشعب المصري فجّر الثورة من اجل بدء صفحة جديدة، بوجوه جديدة، وعلينا ان نحترم خياره هذا اذا تكرّس وتعزز من خلال صناديق اقتراع في انتخابات حرة ونزيهة.
حديث السيد مرسي عن ترحيبه بالشراكة مع القوى الاخرى بمختلف مشاربها، وتلميحه الى استعداده لاختيار حكومة ائتلافية برئيس غير اخواني، خطوة مشجعة ومطمئنة، تعكس استيعابا اخوانيا لتضاريس الخريطة السياسية الجديدة، نأمل ان تتطور اكثر في الاسابيع المقبلة.
ختاما نجد لزاما علينا التذكير بأنها الخطوة الاولى والدرس الاول في اكاديمية الديمقراطية، ولا بدّ من التريث قبل اصدار الاحكام بالفشل والنجاح. فالاخطاء متوقعة، والمهم هو كيفية تقليصها والاستفادة من دروسها.
بقلم عبد الباري عطوان