رئيس مصر الذي ننتظره
تاريخ النشر: 05/06/12 | 5:07بقلم عبد الباري عطوان
مليونية ميدان التحرير التي ستنطلق اليوم تجسد تجديدا للثورة المصرية، وتحصينا لها من مؤامرات الغرف السوداء المعتمة، التي تريد اجهاضها وحرفها عن مسارها واعادة استنساخ النظام الديكتاتوري الفاسد المخلوع.
ثورة ثانية! لم لا.. المشكلة لن تكون ابدا في التسميات والأوصاف، فما يهم انصار هذه الثورة ومفجريها، وهم الأغلبية الساحقة من ابناء مصر هو تحقيق اهدافها التي انطلقت من اجلها، من حيث اعادة الكرامة والسيادة لمصر وشعبها ووضعها من جديد على طريق النهضة الشاملة في جميع الميادين.
ومن الطبيعي ان يجد الشعب المصري الاحكام التي صدرت فيما عرفت بـ’محاكمة القرن’ مستفزة، خاصة انها فشلت في تحديد هوية قاتلي شهداء الثورة، ناهيك عن معاقبتهم.
وحسب القاضي، فقد خلت القضية من اي أدلة تدين قيادات الشرطة (التي قامت بإتلافها حتى لا تدين نفسها) ما جعله يحكم ببراءتهم. وهو حكم في غاية الخطورة، اذ انه يبعث برسالة طمأنة لكافة قيادات الشرطة الحاليين مفادها انه يمكنهم ان يقتلوا كما يشاؤون طالما انهم سيتلفون اي دليل قد يستخدم لإدانتهم.
اما مبارك والعادلي فأدينا بالامتناع عن حماية المواطنين، وليس قتل الشهداء، وهذه إدانة قد تسقط في محكمة النقض لأسباب قانونية، وهذا ما يؤكده بعض زوار مبارك في ‘قصره الجديد’ بسجن طرة.
ولا تنتهي المأساة عند هذا الحد، بل تمتد الى تبرئة مبارك وحسين سالم وجمال وعلاء من تهم الفساد الخاصة بتصدير الغاز لاسرائيل وغيرها.
فهل يعقل ان يكوّن نجلا الرئيس ثروة بمليارات الدولارات، ومعهم صاحب اكبر صفقة فساد وتطبيع في التاريخ (صفقة الغاز) ولا يوجد دليل واحد امام القاضي يدينهم بنهب المال العام وتبديد الثروات، وسرقة عرق اكثر من ثمانين مليون مصري كادح لا يجدون رغيف الخبز لاطعام اطفالهم؟
من اين جمع نجلا الرئيس ومافيات رجال الاعمال كل هذه المليارات اذن؟ من مصروف الجيب؟ ام من معاشاتهم الشهرية؟ ام من عائدات اطيان والدهم؟ ثم ما هي وظيفة ‘ولي العهد المخلوع’ الرسمية في السلم الوظيفي المصري؟
لجنة السياسات التي كان يتزعمها السيد جمال مبارك لم تكن لجنة حكومية رسمية، تأسست بقرار من مؤسسة الخدمة العامة، كما انها ليست شركة حكومية عامة او محدودة المسؤولية تتاجر في البورصة، حتى يقال للشعب المصري ان هذه الاموال من ارباحها، وليست من استغلال النفوذ والتربح من سلطة الوالد، وهدايا حيتان ‘البزنس’ الملتفين حول كرسي عرشه على مدى الثلاثين عاما الماضية.
كنا نتمنى لو ان هذا التنسيق الثلاثي الذي رأيناه يتشكل امس بين مرشحي الرئاسة الداعمين للثورة قد حدث قبل الجولة الاولى من الانتخابات، فقد كان كفيلا بحسم الامور مبكرا، وايصال رئيس الى سدة الحكم يحظى بتأييد الغالبية الساحقة من ابناء الشعب المصري، ولكنه للأسف اتى متأخرا، والسبب ان كلا منهما كان يصر على ان يكون هو الرئيس.
وهكذا فشلت النخبة المصرية في الارتقاء الى مستوى شعبها وثورته في هذا المفترق الحرج في تاريخ مصر.واذا حدث ونجح الفلول في استعادة النظام القديم فإن الشعب سيثور ضد هذه النخبة كما ثار ضد النظام البائد.
ميدان التحرير الذي يستعيد زخمه، ويعزز دوره في دائرة اتخاذ القرارات المصيرية هو الذي أملى ارادته على النخبة السياسية المصرية، التي لم تكن مطلقا على مستوى طموحاته واندفاعاته الثورية العفوية الوطنية الصادقة، احساسا منه بالخطر المحدق بالثورة ومصر في آن.
اما ان ترى أسر الشهداء الرئيس المصري المخلوع بملابس السجن الزرقاء، اسوة بكل المجرمين المحكومين، فهو امر جيد وغير مسبوق، ولكن هذا لا يكفي، وبات مطلوبا وبعد صدمة اعلان هذه الاحكام التي لم تحقق العدالة لنقص الأدلة، اعادة التحقيق في جميع الاتهامات الموجهة لرموز النظام السابق، ومن خلال اجهزة امنية نزيهة تنبثق من رحم الثورة، لرد الاعتبار للقضاء المصري الذي تعرّض لاتهامات بالفساد وعدم النزاهة، وهو بريء منها، اذ ان القاضي يحكم بالأدلة وليس بعلمه او بهواه.
الرئيس المخلوع يجب ان يسجد لله شاكرا لان الشعب المصري الذي اضطهده على مدى ثلاثين عاما، وسحق كرامته عامله بطريقة حضارية، وحاكمه جنائيا ولم يحاكمه سياسيا، والا لواجه الشنق وهو على سرير مرضه، هذا اذا لم يسحل في الشوارع على غرار ما حدث لصديقه العقيد معمر القذافي، بعد زحف شعبي الى ملاذه الآمن في شرم الشيخ حيث إمارته المستقلة.
لا نقارن محاكمة الرئيس مبارك بمحاكمة الرئيس الراحل صدام حسين، فالأول حاكمه شعبه بعد ان اطاح به بثورة سلمية، بينما الثاني اطاح به غزو امريكي، وحاكمته محكمة تأسست تحت حراب الاحتلال ومشنقة نصبها اعوانه.
الشعب المصري الذي ينزل اليوم بالملايين في ميادين المدن والقرى المصرية
هو الذي سيحدد هوية الرئيس القادم، وهو يستحق ان يكون واحدا من ابنائه الشرفاء الذين لم يتلوثوا قط بالفساد والقمع والديكتاتورية، رئيس يحفظ كرامة مصر ويعيد لها دورها، وينحاز الى فقرائها، ويحمي ثورتها وأمنها القومي ويعيد إحياء المشروع النهضوي العربي والاسلامي.
ومهما كان اسم الرئيس المصري المقبل، فلن يستطيع احياء النظام القديم. لقد تغير الشعب المصري وتغير الزمن وتغيرت المعطيات السياسية والاجتماعية والثقافية في مصر، ولن يقبل هذا الشعب الأبي الذي لا يكف عن ادهاش العالم بثورته المتجددة ومفاجآتها وانجازاتها ان يعود الى زمن الذل والهوان.
لقد عادت مصر الى شعبها وامتها العربية والاسلامية ولن يستطيع احد ايا كان ان يعيد عجلة الزمن للوراء.