أوراق نقدية للدكتور محمد خليل

تاريخ النشر: 08/10/14 | 9:27

كلمة الأديب فتحي فوراني، رئيس اتحاد الأدباء الفلسطينيين التي ألقاها في حفل الاحتفاء بصدور كتاب “أوراق نقديّة” للدكتور محمد خليل الذي أقيم مؤخرًا في نادي حيفا الثقافي للروم الأرثوذكس.

جاء في تراث جدنا ابن منظور في “لسان العرب” ما يلي:
ألنقد: هو تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها.
وبعبارة أخرى..ألنقد هو الفصل بين القمح والزؤان.
وفي “المعجم الوسيط” الذي يواكب التغييرات والتجديدات والمستجدات في اللغة العربية، يقوم بعملية التحديث updating متكئًا على المجمع العلمي في القاهرة..في هذا “المعجم” جاء ما يلي:
ألنقد: فن تمييز الكلام جيده من رديئه..وصحيحه من فاسده.
وهو تعريف قاموسي أولي لا يتعدى مرحلة الطفولة المبكرة مقارنة مع تسونامي المفاهيم المختلفة للنقد الأدبي الحديث.
ومن هذه المادة الخام والتعريف الأولي لمعنى النقد تأسست القاعدة التي انطلقت منها عملية النقد الأدبي..وراحت هذه العملية تتطور وتنمو وتتشكل وتتكاثر..عابرة أربعة عشر قرنًا..منذ الجاهلية وحتى العصور الحديثة.
وبين البدايات والنهايات المؤقتة وغير النهائية..جرت مياه كثيرة في نهر الأردن..فنشأت مذاهب ومدارس نقدية كثرت أسماؤها وتعددت معانيها حتى وصلت إلى شواطئ النقد الحديث..وهي أيضًا شواطئ مرحلية متحولة وغير ثابتة وغير نهائية ومتجددة بتجدد الحياة.
ومن هذه المدارس على سبيل المثال لا الحصر:” النقد الانطباعي، النقد العلمي، النقد الجمالي، النقد البلاغي، النقد اللغوي، النقد البُنيوي وغيره من التقليعات النقدية التي أغدقها علينا النقاد والفلاسفة والمفكرون عبر قرون.
**
والعملية النقدية مَهمّة خطيرة ومسؤولية ذات مرتبة عليا..يحتاج من يضطلع بها إلى ثقافة واسعة تشمل الاطلاع على الأدب والشعر والمسرح والرسم والموسيقى والفلسفة والفن وعلم الاجتماع وعلم النفس وغيرها من العلوم الإنسانية وألوان المعرفة العديدة..كما يتوجب على الناقد الأدبي والمسؤول الاطلاع على النقد الأدبي العربي قديمه وحديثه..كما يتطلب الأمر ثقافة واطلاعًا على الآداب العالمية..فضلا عن الذائقة الأدبية التي تلعب دورها في تقييم العمل الأدبي. وفي العديد من المقالات والدراسات النقدية التي تحتل المشهد الأدبي..كان النقد الانطباعي التأثري والاستعراضي الذي يطغى عليه العامل الذاتي..هو الذي ميّز العديد من النصوص التي تسللت إلى خيمة النقد الأدبي الموضوعي..بدعوى الموضوعية..التي ينقصها الكثير الكثير من الموضوعية.
كان النقد تأثريًّا إلى أن أصبح نقدًا منهجيًّا متعدد المدارس والمذاهب التي أرسى قواعدها كبار النقاد.
لن أتحدث عن نشأة النقد الأدبي عند العرب بدءًا من العصر الجاهلي وحتى العصر الحديث..ولن أتحدث عن المذاهب النقدية التي تشكلت عبر العصور..ولن أخوض في التفصيلات الدقيقة..فهذا أمر يطول ويبقى خارجًا عن سياق هذه الأمسية.
**
إذا استعرضنا مسيرة النقد الأدبي منذ عام 1948 لأمكن الإشارة إلى أسماء شتى ساهمت في بناء الخطوط الأولى لخارطة النقد الأدبي في هذا الوطن. فقد كثرت المنابر الثقافية عبر أكثر من ستين عامًا وشهدت حراكًا نقديًا ثقافيًّا مباركًا..كان أبرز هذه المنابر الثقافية: المجلات والصحف الشهرية والأسبوعية واليومية..فكانت الجديد والغد والاتحاد والفجر واليوم وحقيقة الأمر والأنباء والمرصاد والمجتمع والرابطة والهدف والسلام والخير وغيرها..
بعض الأقلام الناقدة احترفت مهنة النقد..فتفرغت له ومارسته حتى تمرّست واصلبّ عودها..وتمترست في قلعة النقد الحصينة..
وهنالك أقلام أخرى لم تحترف كتابة النقد الأدبي بل تعاطت مع النقد على حياء..فكانت غيوم صيف عابرة..أطلت إطلالات خجولة وأنشأت مقالات موسمية متفرقة كانت أشبه بطفرات تهب وتزوبع الساحة الأدبية..فتثير الغبار الذي يملأ المشهد الأدبي..وما يلبث أن يهدأ ويلقي السلاح..ويلجأ إلى استراحة دائمة الخضرة لم ينهض بعدها أبدًا..ولو تابع المسيرة..لكان له شأن في عالم النقد.
**
وقد اكتسبت المسيرة النقدية زخمًا بأقلام كتاب ونقاد أكاديميين بارزين كثيرين..تعددت مراتبهم ومذاهبهم واختلفت رؤاهم الفكرية والعقائدية..ولا أريد أن أقع في الفخ فأسرد أسماء هؤلاء الإخوة.. حتى لا أنسى أحدًا..فأنا أخشى أن أقع في ورطة.. تؤدي إلى توتر العلاقات الشخصية..تكثر الشكوك والتفسيرات والتخمينات والتحليلات والاستنتاجات البعيدة عن الحقيقة والواقع..وتروح قطيعة لا مبرر لها!
يقتحم البعض المشهد..ويصرح محتجًا وبصدق: لماذا تجاهل الراوي اسمي؟ هذا أمر مقصود!..هذه مؤامرة!
وينرفز آخر قائلا: لماذا وضع الراوي اسم زيد قبل عمرو؟ أليس عمرو أولى من زيد بالأولوية!؟
ويبلغ الغضب البدائي مداه..وبدافع الغيرة والحسد وعقد النقص..يصبّ البعض الحمم البركانية على الناقد أو الكاتب..فيفجُر..ويفجّر جميع ألوان الاستفهام الإنكاري..يستشيط غضبًا..ويدبّ الصوت محتجًّا: وهل يفهم زيد شيئًا في أصول النقد؟؟ ألست أولى منه بالريادة!؟
فتستخلص النتائج..وتتخذ المواقف..ويشطب البعضُ البعضَ بأستاذية استعلائية مثيرة للسخرية..وتكثر الظنون..ويناصب البعضُ البعضَ العداء..فتكثر النميمة..ويكثر النفاق..وتكثر العقول الصغيرة..وتكون قلة العقل..سيدة المشهد!
وما أكثر سيدات المواقف والمشاهد وقلة العقل..في هذا الزمن الضحل!
**
يضيق المقام للإحاطة في أخبار غرناطة..فأنا أمام بحر نقدي رحب الشواطئ..يطول الحديث عن أمواجه وسبر أغواره واستخراج الدرّ الكامن في أحشائه. مثل هذا الأمر..يحتاج إلى دراسة متأنية مستفيضة ومسؤولة يضيق هذا المساء الثقافي الضيق عن الإحاطة بها.
فهل نستطيع أن نحشر العاصفة في فضاء زمني ضيق وبخيل؟ ذلك أمر يقف على حدود المستحيل.
ولكن..لا بدّ مما ليس منه بدّ..ولا بدّ من التعريف..
أمامنا مائدة نقدية تزينها لافتة كتب عليها “أوراق نقدية”. يقدمها لنا الدكتور محمد خليل ويكون دليلَنا السياحي في رحلة إلى ربوع الأدب والنقد..
نلتقي في المحطة الأولى بتراجم الأدباء الفلسطينيين..نلتقي إحسان عباس وأبا سلمى وإميل توما وتوفيق فياض..ومن ثَم ننتقل إلى الرواية والقصة القصيرة، فنحضر “عرس الزين” في الريف السوداني..ثم ننزل في أرض البرتقال الحزين..فنركع وننحني ونقبّل تراب يافا وعطر برتقالها الذي يملأ الدنيا..
ثم نتوقف عند غابة “الهذيان” تحاصرها غابات من علامات التعجب والسؤال..
نستريح قليلا تحت شجرة صنوبر..فنشرب جرعة ماء من نبع زمزمي..ثم نواصل المسيرة..ونحطّ عصا الترحال في الجامعة..فنرى أمامنا مشهدًا مثيرًا..وتكون المداهمة!
نداهم عميد الكلية الجامعية ويُضبط المنظر في حالة تلبّس! إنه يراقب الطالبة الجامعية ويضبطها وهي في حالة تلبّس!..إنها تدخن..وتستمتع!!
“تتوالى الأنفاس..وفي كل مرة تجذب النفس على مهلها وبتلذذ سعيد تنغلق له عيناها، وكأن شفتيها المضمومتين على فم السيجارة تبتهلان لشيء أو ترشفان شيئًا..رحيق السعادة أو إكسير الحياة..ويسترخي جسدها ويتدغدغ للنفس..ثم تبدأ عملية الإخراج”.
إنه لقاء مع كوكبة من المبدعين: الطيب صالح ونجيب محفوظ وغسان كنفاني ويوسف إدريس.
ثم ندخل إلى دائرة القصة القصيرة..فنلتقي مع محمد علي طه وزكي درويش وناجي ظاهر ومحمد حجيرات ونبيل عودة وفوزي أبو بكر..وفي هذه الدائرة نلتقي بما اصطلح على تسميته بـ”الأدب المحلي”..وهي تسمية إشكالية كثر حولها الجدل..وراجت في صحف البلاط بعد عام 1948 ونحن اليوم نتحفظ من هذه التسمية.
ثم ننتقل إلى المراجعات الأدبية فنلتقي أحمد سعد وياسين كتاني وعبد العزيز أبو إصبع وسعيد نبواني..
أما الفصل الرابع والأخير فيكرسه الناقد لقراءات شعرية، نلتقي فيها محمود درويش وفهد أبو خضرة ورشدي الماضي ومنير توما وعطاف مناع ونمر سعدي ووفاء بقاعي عياشي..
ويكون مسك الختام الفصل الخامس للمقالات الأدبية التي يقارب فيها الكاتب مواضيع أدبية عامة.
**
لماذا أرسم هذه اللوحة الفسيفسائية النقدية التي تتشكل منها “أوراق” صديقنا الدكتور محمد خليل؟
أذكر ذلك لكي ألقي الضوء على “الأوراق النقدية” التي تحفل بالنصوص الإبداعية التي يخوض غمارها الدكتور محمد خليل.
**
وأما بالنسبة إلى مقارباته للنصوص الشعرية فأنا أشاطره الرأي في نقده لبعض النصوص التي تسللت إلى خيمة الحداثة وما بعد الحداثة وما بعد بعد الحداثة..فأحرقت الجسور مع المتلقي العادي وحتى المتلقي المثقف..وبقيت متحصنة في برجها العاجي بعيدًا عن الواقع..وبعيدًا عن الأفهام!!
يقول أرسطو في كتابه “فن الشعر”..معرفًا الأدب بأنه “عملية إيصال”..فالمبدع يصبّ فكره ومشاعره في وعاء النص الأدبي حتى يوصلها إلى العنوان النهائي..القارئ المتلقي..
ألنص هو حلقة الوصل بين قطبين..وهو الجسر الذي يصل بين الشاطئين..المبدع من ناحية والقارئ المتلقي من ناحية أخرى..ويكتمل العمل الأدبي بالربط بين أضلاع هذا الثالوث..ألمبدع والنص والمتلقي..فإذا أغلق النص أبوابه وانغلق على نفسه..تعذّر وصوله إلى القارئ..وبقي المثلث بضلعين فقط دون الثالث الذي نكتب من أجله ونريد الوصول إليه وتفريغ الشحنة الإبداعية في عقله وإحساسه ووجدانه..
ينفرد الشاعر بقصيدته..ويتفرد في غموضه..ويتوالى القصف المكثف بحشد من الأساطير والرموز والتعقيدات التي تقف حائلا في سبيل الفهم والاستمتاع بالنص..فيولد حاجز الفصل بين القارئ والشاعر.
وإلا ..فلمن نكتب؟
إذا كنّا نكتب لأنفسنا..فالأولى بنا أن نقرأ لأنفسنا ونستمتع بنصوصنا “الإبداعية” ثم نخزنها في ملفاتنا ونريح القارئ من “جهد البلا” وشرّّ القتال!
أحيلكم أيها الإخوة إلى الكتاب القيّم “ألإبهام في شعر الحداثة”..لتقفوا على مدى الدجل والبهلوانيات والشعوذات اللفظية التي يمارسها العديد من الأقلام التي تطمح وتستميت للحصول على البطاقة الذهبية للدخول إلى دنيا الشعر..فتنجح أحيانًا وتنطلي لعبة الحداثة على الملعوب عليهم!
**
أيها الإخوة
نحن أمام ناقد مثقف ينهل من الينابيع النقدية على مختلف هُويّاتها..ويواكب الإصدارات الأدبية الفلسطينية في هذا الوطن..ويرصد ما يصدر من إبداعات في العالم العربي..ويتمتع باطلاع واسع على المدارس النقدية وعلى آراء كبار النقاد العرب والغربيين.
إنه ناقد موضوعي وعميق التحليل ويتمتع بمسؤولية نقدية وأخلاقية عالية..
يعمد الناقد إلى الآراء المختلفة ويحللها فيثبت ما يرى ويرفض ما يرى..كما نلمس في تحليله لقصة “الهذيان” لنجيب محفوظ..ثم يخلص إلى رأيه الخاص بعد الغوص في التحليل والمقارنة ومناقشة الرأي والرأي الآخر.
ناقدنا ذواقة يتمتع بذائقة فنية تجيد تسليط الضوء على مَواطن الجمال في النص الإبداعي..وهذا ما تحفل به النصوص النقدية في “أوراق نقدية”.
يلتزم المؤلف النقد الموضوعي بعيدًا عن الهوى..وينحو منحى التقييم الموضوعي موصلا إلى التقويم الذي يضيء الطريق أمام النص لإيصاله إلى شاطئ الأمان الفني.
أما همّ الإبداع الفلسطيني فهو ما يشغل بال ناقدنا..وهو ما يغطي القسم الأكبر من “الأوراق النقدية”..وإذا نظرنا إلى خارطة المبدعين في هذا الوطن..نرى أن القنديل النقدي الذي يحمله أبو إياد..لم يكتف بالإضاءة على الأقلام البارزة التي تحتل مركز الخارطة الأدبية..بل أولى اهتمامه بالأقلام الموهوبة والواعدة التي تعيش في الظل وعلى هامش الخارطة الإبداعية..ولا تجيد المزاحمة لشقّ طريقها وسط الزحام الأدبي وصولا إلى دائرة الضوء..
هذه الأسماء تتمتع بحضور خجول في المشهد الأدبي..ونكاد لا نحس بها ولا نراها..وهي بحاجة شيء من الإضاءة..بحاجة إلى البوصلة النقدية..لكي تأخذ بيدها وتوصلها إلى الشاطئ الذي تصبو للوصول إليه..فيكون أبو إياد لها..ويكون حارسها وحاميها وحادي القافلة الأدبية.
**
وفي هذا وذاك يلتزم أسلوبًا رزينًا متواضعًا بعيدًا عن الأستاذية والاستعلائية التي يبرع فيها بعض الطامحين إلى التزيّي بزيّ النقاد..ويكون نصيبهم لا يسمن ولا يغني من جوع!
**
عزيزنا الدكتور محمد خليل..شكرًا على هذا العمل القيّم الذي يثري خارطة النقد الأدبي في هذا الوطن..
وسلامًا..سلامًا عليكم..وكل عام وأنتم وشعبنا بخير

فتحي فوراني

ft7eforane

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة