دراسة لقصة “طائر الهامة” للأديب الدكتور “جميل الدويهي”
تاريخ النشر: 16/10/14 | 17:29مقدمة:
الشاعرُ والأديبُ والإعلامي الدكتور “جميل الدويهي ” وُلدَ في قرية “زرعتا ” بلبنان عام 1960، هاجرَ إلى أستراليا سنة 1988 وعملَ هناك في الإعلام المهجري وتولى رئاسة تحرير جريدة “صوت المغرب “.. وَعُيِّنَ بعد ذلك مديرا للبرامج في الأذاعةِ العربيَّةِ ( 200 أف ام ) وتولَّى بعد ذلك رئاسة تحرير قسم الأخبار والبرامج السياسيَّةِ بتلفزيون المؤسسة العربيَّة للإرسال- قنال 31 في مدينة سيدني بأستراليا.
الكاتبُ حاصلٌ على شهادةِ الدكتوراه في اللغةِ العربيةِ وآدابها من جامعةِ سيدني عام 1998، ودرَّسَ اللغة َالعربيَّة وآدابها في العديدِ من المعاهد بين لبنان واستاليا..وهو يعملُ منذ عام 2006 أستاذا متفرغا في جامعة اللويزة – لبنان. وكتبَ في العديدِ من الصحفِ المهجريةِ وحازَ على عدَّةِ جوائز تقديريَّة لدورهِ الثقافي والإعلامي في بلاد الإغتراب، أهمُّها: ” جائزة جبران خليل جبران العالميَّة ” التي تمنحُهَا رابطة ُ إحياءِ التراثِ العربي في أستاليا.. وقد كتبَ في جميع الألوان والأنماطِ الكتابيَّةِ: في النقد والقصَّة والمقالةِ والشعر وأصدرَ العديدَ من الكتب والدواوين الشعريَّة.. ومن إصداراتِهِ: 1- عودة الطائر الأزرق – شعر. 2- وجهان لمدينة واحدة- شعر.
3- قصائد من عصور الحب- شعر.
4 – أهل الظلام- قصة. 5- من أجل الوردة – قصة.
6- الذئب والبحيرة- رواية… وغيرها من المؤلفات.
مدخل:
هذه القصة ُ ( طائر الهامَّة) تقعُ في 112 صفحة مع الفهرست من الحجم المتوسط الكبير- إصدار: منشورات دار أبعاد الجديد- بيروت وتحلي الكتابَ صورة ٌ على وجهِ الغلافِ وعلى الوجهِ الآخر من الخلف صورة ٌ صغيرة وبعض المقاطع الشعريَّة على لسان أحد الشخصيات والأبطال في هذه الرواية وبقلم المؤلف نفسه.
تتحَدَّثُ القصَّة ُعن قريتين وديعتين تعيشان في مَحبةٍ وأمن وسلام وهما: قرية “الدهيبة” و “غابة الخرُّوب”.. وتسودُ القريتين أجواءُ المَحبَّةِ والتآخي والوداد فترة ً طويلة من الزمن.. ولكن حدثَ أن دخلَ الأغرابُ القريتين واستوطنوا واختلطوا بالأهالي والسكان وعملوا بدهاءٍ على زرع وبثِّ الخلافِ والشقاق بين القريتين الوديعتين اللتين تربطهما ببعض علاقة ُ القرابةِ والنسبِ والصداقةِ الطويلة وتجمعهما دائما الأفراحُ والمناسباتُ العائليَّة المشتركة.. فيتأجج ويشتعلُ الخلافُ والشقاقُ وتنشبُ الحربُ بينهما ويتكبدُ سكانُ القريتين الكثيرَ من الخسائر الماديَّة في الأملاكِ وغيرها والكثيرون من سكان القريتين يتركون قريتهم ووطنهم ويرحلون إلى الخارج البلاد هربا من الوضع المأساوي المزري وحفاظا على أرواحِهم، وخاصة الذين خسروا تجارَتهم وأملاكهم وأعلنوا إفلاسَهم، مثل العم سالم ( أحد الشخصيات في القصة) وهوعمُّ بطل القصة الدكتور رياض الدروبي الذي قُتِلَ والدهُ سعيد بدم بارد دونما ذنب أو سبب وكان، بدورهِ، بعيدًا عن تلك المناوشات والخلافات ولكنهُ لم يسلمْ من براثن الغدر والشَّر…وبعد مدَّةٍ تنتهي الحربُ المشؤومة ُ ويتوقفُ النزاع ُ والصدامُ…ولكن لا تهدأ النفوسُ والقلوبُ وتروقُ لبعض وتبقى الضغائنُ والأحقادُ الدفينة ُ بين سكان القريتين… وكانت “سلوى الدروبي” إحدى الشَّخصيَّات الرئيسيَّة والمهمَّة في القصَّة زوجة سعيد الدروبي والد رياض تشتعلُ حقدا وغضبا وقلبها مليىءٌ بالحقدِ تجاهَ القرية الأخرى ( الدهيبة) وكانت الظنونُ كلها تشيرُ إلى أحدِ الأشخاص من تلك القرية وهو ( فؤاد السرنوك) أنَّ لهُ ضلعٌ في قتل زوجها..وكانت تتمنى وتنتظرُ كلَّ فرصةٍ للإنتقام منهُ والثأر لزوجهَا.. وقد رَبَّت إبنهَا الوحيد رياض بصعوبةٍ بعد موتِ زوجها ونذرَت نفسَها وحياتها لهُ وعملت وكدَحت وأعالتهُ وأدخلتهُ المدارس وتابع دراسته العليا حتى تخرَّجَ طبيبا وأحبَّ هذا الموضوع وهذه المهنةِ وبدأ يعمل في إحدى المستشفيات.. وكانَ إنسانا طموحا مثقفا منفتحا للحياةِ يُحبُّ الناس ويتمنى الخيرَ للجميع ويتمتَّعُ بأخلاق رفيعة وبعقليَّتهُ متطوِّرة ينظرُ دائما للأمام ولا يلتفت للخلف ويرفض وينبذ ُالأفكارَ والعادات الرجعيَّة المتخلفة كالأخذ بالثأر والإنتقام… وحدَثَ أنَّ ابنة فؤاد السرنوك الذي كان متهما بقتل أبيهِ قد تعرضت لحادثِ إصطدام بسيَّارتها فقام رياض بإسعافها من إصابتها الخطيرة وانقذ حياتهَا وأدَّى واجبَهُ الإنساني المفروض من كلِّ طبيب ومُعالج أن يقومُ بهِ وعرفَ أنَّها ابنة فؤاد السرنوك…وبعد أن تحسَّنت حالتها وشفيت وعرفت من أنقذ حياتهَا وتعرَّفَ الإثنان على بعضهما البعض جيِّدًا فيقع كل شخص في حُبِّ الآخر وأصبحَا يلتقيان سويَّة وقد علم سكانُ القرية ووالدة ُ رياض بهذا الأمر فجنَّ جنونها وكيف إبنها يحبُّ إبنة قاتل أبيه ( كما تظن هي ومعظم سكان القرية ). ولكنَّ رياض تحدَّى الجميعَ- أمه والمجتمع والأفكار السوداويَّة والرجعيَّة التي يحتضنها وينبناها هذا المجتمع- فغادرَ البيت وسكنَ عند عمِّه سالم.. وبعدها استأجرَ غرفة في فندق وقرَّرَ الزواجَ من سعاد..وهذا ما حدثَ، ولكنَّ أمَّهُ حاولت بشتى الطرق منعَ هذا الزواج وعندما لم تستطع فكرت في الإنتقام من سعاد وعائلة السرنوك ومن أبيها بالذات.. وكان هنالك شخصٌ إسمهُ شفيق صديقا لزوجها سابقا وفيما بعد صديقا للعائلة وكان يعشقها ومستعدًّا أن ينفذ ويلبِّيَ لها كلَّ أمر وهي عرفت عقدته ونقطة َ ضعفِهِ فطلبت منه قتلَ سعاد فوافقَ وحاولَ أكثرَ من مرَّةٍ تنفيذ هذا الأمر. ففي المرَّةِ الأولى حاولَ الإعتداءِ عليها وهي في سيارتها.. وفي المرَّةِ الثانيةِ حاولَ شنقهَا وحرقها وهي في البيت في منزل زوجها عندما كان زوجها الدكتور رياض في العمل… والذي أوقفَ ومنعَ تنفيذ هذه الجريمة النكراء أنَّ زوجة شفيق (وردة) علمت وعرفت بقصة الحب والعشق بين زوجها وأرملة سعيد الدروبي ( سلوى) أم الدكتور رياض وكانت تراقبُ زوجهَا إلى أين يذهب وماذا يفعل فعندما ذهب لتنفيذِ جريمته وقفزَ من على السور إلى داخل منزل الدكتور رياض عرفت بحسِّهَا وحَدسِهَا أنهُ ينوي على الشَّرِّ فاتصلت مباشرة بالشرطة فأتت مسرعة ووصلت في الوقت المناسب وتمَّ القبضُ عليه قبل أن يقوم بتنفيذ جريمته الكاملة حيث أنهُ قد قام بضرب سعاد على رأسِها ورَبَطهَا وحاولَ حرقَ المنزل وهي مقيَّدة ومُغمى عليها ولكن قبل هروبه من المكان جاءت الشرطة وألقت القبضَ عليهِ وأطفأت النيران الملتهبة وأنقذت حياتها وأدخل هو إلى السجن. وقد إعترفت زوجتهُ عليهِ أيضا بجريمةٍ أخرى إرتكبها قبل فترة طويلة وأنهُ هو القاتل الحقيقي الذي قام بقتل سعيد الدروبي زوج سلوى ووالد رياض قبل أكثر من عشرين سنة وجميع الناس كانوا يظنون أن فؤاد السرنوك هو القاتل ولأن وضعه وحالته النفسيَّة كانت صعبة وكان غيرَ متزن نفسيًّا وذهنيًّا فلم يصدقهُ أحدٌ آنذاك.
وفي نهايةِ القصَّة تحكم المحكمة ُعلى شفيق بالسجن المؤبد وعلى سلوى الدروبي بالسجن خمس سنوات وتصاب بأزمةٍ قلبيَّة حادَّة وهي في السجن فتنقل للمستشفى وتطلبُ رؤية َ إبنهَا الوحيد قبل أن تموتَ ولكنها تفارقُ الحياة بينما كان رياض إبنها الوحيد في طريقه إليها.. وتنتهي القصَّة.
تحليلُ القصَّة:
هذه القصَّة ُ جميلة ٌ جدًّا وعلى مستوى عال حسب جميع المقايس وأسس ونظرياتِ النقدِ وبكلِّ ما تعنيه هذه الكلمة، يستهلها الكاتبُ ويفتتحها بالأسلوبِ السردي. في الصفحةِ الأولى يضعُ لوحة ً أدبيََّة شاعريَّة على لسان ” فؤاد السرنوك” فيها المعاني الفلسفيَّة المبطنة وحكمة الكبار، وفيها يظهرُ القلقُ والإضطرابُ النفسي وعدم التوازن الفكري والإستقرار الذاتي (من معاني هذه اللوحة) حيث يقول فيها:(“وفي ساعات مليئة بالسُّخريةِ، أتحوَّلُ إلى مُعجزةٍ، فأجمعُ شتات عمري على صفحةٍ من غبار. في يدي إرتعاشة، وفي شفتيّ ملحٌ، فمن أين تأتي الأفكارُ، والأفكار زجاج ٌ محطَّم ؟ وكيف لمجنون أن يفصحَ عن ثورةِ جنونهِ ؟ نعم… مجنون يتكلّم، والجنون مثبتٌ بشهادةِ طبيب.. لا تجادلوا مجنونا فيغلبكم، ولا تشتموهُ فيقبض على أعناقكم… نصيحتي لكم ان تصالِحُوا مجنونا، وأن تفاوضوهُ لتنجوا بأنفسكم من حكمتهِ. المجانين لا يقرؤُون ولا يكتبون، ولكنَّهم يجيدونَ قتلَ الحروفِ وهي في مهدِها. فدعوا الحروفَ نائمة ً في خوابي العصور، لكي لا يدوسَ عليها المَخبُولون بأحذيتِهم ” ).
وبعد هذه اللوحةِ الفلسفيَّة ينتقلُ الكاتبُ إلى مشهدٍ آخر مع سلوى الدروبي التي تقفُ وراء النافذة المطلَّةِ على الغابةِ ويتحدَّث الكاتبُ على لسانِهَا بأسلوبٍ سردي- عن حياتِها وموتِ زوجها وترمُّلِها وهي شابَّة ومعاناتِها وحقدها الكبير على فؤاد السرنوك المتهم بقتل زوجها… تتحَدَّثُ عن زوجها الذي قُتِلَ بدم بارد دونما سبب وكيف كان زوجُها رجلا عصاميًّا يعملُ طيلة َ النهار ويكدُّ ويتعبُ ويعرقُ لكي يعيلَ أسرتهُ ( هي وولدها ).. وقد بنى بيته بعرق الجبين وكان يعملُ في مطحنةٍ لطحن القمح، وعندما نشبت الحربُ بين القرتين قرية “غابة الزيتون”وقرية “الدهيبة ” لم يتدخَّلْ ووقفَ على الحياد وكانَ مسالمًا وتوقعَ بحسِّهِ البريىءِ ولطيبةِ قلبهِ أنهُ سينجوا من شرورها ونيرانها..ولكنهُ قتلَ وهو في مكان عملهِ في المطحنةِ بطلقةٍ من بندقيَّةٍ… ويوم مقتل سعيد الدروبي كانَ يوما ضاربا في المرارةِ والألم فلم يكن أحدٌ يتصوَّر أنَّ هذا الرجلَ البريىء الذي يشبهُ الطفولة َ سينهارُعلى مذبح الجنون والتوحُّش.. وينتقل الكاتب بعد ذلك إلى عدَّةِ لوحات وصفحات ومشاهد من القصَّةِ، إلى أسلوب الحوار(ديالوج) ويتركُ الأبطالَ هم يتحدَّثون مع بعضِهم في المشاهد واللوحات الدراميَّة، والقصَّة ُ في معظم أحداثِها ومشاهدِها الدراميَّة هي مزيجٌ وخليط ٌ بين الحوار المشترك بين الأبطال وبين الأسلوب السََّردي ( الكاتب يتحدَّثُ على لسان شخصيَّات وأبطال القصَّةِ) وبشكل متناغم ومتناسق وجميل.
هذه القصَّة ُ كُتِبَتْ وَنُسِجَتْ فصولُها بلغةٍ أدبيَّة بليغةٍ جميلةٍ منمقةٍ ساحرةٍ ونجدُ العديدَ من مشاهِدهَا الدراميَّة والسَّرديَّة قريبة ً إلى لغةِ الشعر، بل الشِّعر بحدِّ ذاتهِ.. والقصَّة ُ مترابطة ٌ ومتماسكة ومتينة في بنائِهَا ولا يوجدُ فيها نقاطُ ضعفٍ ولا ترهُّل أو تصدُّع، فالنسيجُ والبناءُ الدرامي القصصي عند كاتبنا المبدع كالهرم في رسوخِهِ وتماسكِهِ. والقصَّة ُمستواها في القمَّةِ وفي منتهى الروعة والسُّموّ. وقد نرى قصص وروايات لكتاب لكتاب كبار يوجدُ بواطن الضَّعف والركاكةِ والتكرار…وهذه القصة (طائر الهامة ) على العكس ونلمسُ فيها الإختصارَ والإقتضابَ المعتمد من قبل الكاتب.. حيث كان بإمكان الكاتب أن يتوسَّعَ فيها أكثرَ وأكثر من ناحيةِ الحجم والمسافة لأنهُ يوجدُ فيها عوالمُ وأبعادٌ وآفاقٌ أكبر بكثير مِمَّا خطَّهُ قلمُ الكاتبِ من جمل وصفحات….أي موضوع ومجرى أحداث القصَّة وفحواها يتطلَّب بطبيعتِهِ إسهابا أشمل وأوسع مِمَّا هو عليهِ…وربَّما كاتبنا الدكتور جميل الدويهي فعلَ هذا بشكل مقصودٍ ومتعمَّدٍ فحاولَ الإختصار والإقتضاب قدر الإمكان وقدَّمَ لنا قصَّة موجزة وضعَ فيها كلَّ ما يريدُهُ من أفكار وأهداف ورسالة مثلى سامية ولا يريد الإطالة على القراء.
توجدُ في هذه القصَّة عدّة جوانب وأبعاد هامَّة، مثل:
1- البُعد الإنساني والإجتماعي
2- البُعدُ الوطني
3 – البعد والجانب الأدبي.
4- عنصر المفاجأة.
5- عنصر التشويق.
6- البُعدُ العاطفي والوجداني
7- عنصر الإيمان والمحبَّة.
8- البعد الجمالي والفني
9- الجانب الفلسفي وحكمة الحياة…. إلخ.
هنالك شخصيَّاتٌ مركزيَّة وأساسيَّة يرتكزُ عليها بناءُ القصَّة ومجرى أحداثها،وأهمُّهَا: سعيد الدروبي الذي قُتِلَ دون ذنبٍ وهو المحورُ الأساسي، ومعظمُ سطور وفصول القصَّة تتحدَّثُ عنهُ بصيغةِ الغائب وكان بإمكان الكاتب أن يبرزَ شخصيَّتهُ وحضُورَهُ أكثر وذلك بإدخالِه وإشراكهِ في مساحاتٍ أوسع في أحداثِ هذه القصَّة من خلال الحوارالمشترك ( ديالوج ) وبعرض أشرطة حيَّة فيها حوار بينهُ وبين شخصيَّات أخرى في القصَّةِ لمرحلة من حياته قبل أن يقتل). ومن الشخضيات الأساسيَّة والمركزيَّة: سلوى الدروبي زوجته وابنه الدكتور رياض، وسعاد إبنة سعيد السرنوك التي أحبها وتزوَّجها فيما بعد… وسعيد السرنوك المتهم بقتل سعيد الدروبي وشفيق الذي كان صديقا لسعيد الدروبي. وهنالك شخصيَّات ثانويَّة ولكن لها دورها وأهميَّتها في القصة، مثل: هدى زوجة سعيد السرنوك والطفل الذي كان يلعب بطائرتهِ قرب المطعم الذي يقع على شاطىء البحر وبعدها يسافرُ مع أهلهِ لخارج البلاد. و( وردة) زوجة شفيق صديق عائلة الدروبي والقاتل الحقيقي لسعيد الدروبي. والعم سالم شقيق سعيد الدروبي .. وغيرهم. والقصَّة هي مزيجٌ بين الحزن والفرح فهي تراجيديَّة ومفرحة في نفس الوقت وتنتهي نهاية سعيدة تدخلُ السرورَ والإرتياح لكلِّ قارىء يحبُّ الحياة البريئة الفاضلة التي يسودُها الخير والمحبَّة والوئام.. وفيها ينتصرُ الحقُّ على الباطل والمحبَّة ُ على الحقِد والضعينة والخيرُ على الشِّرِّ.. وانَّ اللهَ محبَّة.. وأما الكره واللؤم والحقد فمصيرُ أصحاحبهِ النهاية الصَّعبة والدمار والفناء كما حدثَ مع سلوى الدروبي ولشفيق صديق زوجها والقاتل الحقيقي.
يُلمِّحُ الكاتبُ في الصفحةِ الأولى من الكتاب أنَّ أسماءَ الشخصيَّات والأعلام الواردة في القصَّةِ هي من وحي الخيال.. وكلّ تشابه بين أحدِ هذه الأسماء والواقع هومن قبيل المصادفة. وهذا القول يؤكِّدُ ويثبتُ أنَّ القصَّة َمن صميم الواقع وتجسِّدُ الوضعَ والحياة في لبنان (وبالذات فترة الحرب) وكلِّ قصَّة ورواية تعكسُ وَتُجَسِّدُ واقعًا معينا لبلد أو لبيئة ولموضوع وقضيَّةٍ ما هي راوية وقصَّة ناجحة مئة بالمئة ومكللة بالإبداع… مثال على ذلك قصص وروايات الكاتب الكبير نجيب محفوظ التي يصورُ وَيُجَسِّدُ لنا فيها الحياة والواقعَ المصري بكلِّ حذافيرهِ وأبعادِه في فتراتٍ زمنيَّةٍ مختلفة، وخاصَّة روايته “بين القصرين”.. وغيرها.
وممَّا يشهدُ على كلام الكاتبِ وفي تلميحه هذا لتفادي الإلتباس في تشابه أسماءِ أبطال القصَّةِ مع شخصياتٍ حقيقيةٍ وواقعية ما نقرأهُ في مشهدٍ من هذه القصَّةِ ( صفحة 102 ) عندما كانت “سعاد” زوجة الدكتور رياض تشاهدُ التلفزيون ويظهرُ بعضُ المسؤولين الذين كان لهم دور سلبي وإجرامي في فترة الحرب يتحدَّثون عن السلام والمحبَّة والتعاون. وقد جاء في القصَّة- صفحة 103- ما يلي: ( ” نظرت سعاد إلى تلفاز صغير في غرفةِ الجلوس المفتوحةِ على المطبخ، فرأت واحدًا من أمراءِ الحرب السابقين يتحدَّثُ عن الأجيال الجديدةِ، ويحاضرُ في مواضيع الحريَّة، والمساواة وحقوق الإنسان. أحَسَّت المرأة ُ بالخجل، وبالإشفاق على هذا الرَّجل الذي عادَ إلى الظهور بحلَّةٍ جديدةٍ، ليخدَعَ البشرَ، ويُخدِّرَهم بكلامِهِ المعسول، وأشفقت أيضا على هؤلاءِ الناس الذين يصدِّقون ولا يصدقون، يعيشون في اليأس والفقر والمرض، ويحصلون على الدواءِ من اليدِ التي أصابتهم بالوباء.. لقد أفلحَ أمراءُ الحربِ في سياسةِ الإبتزاز اللطيفِ لأبناءِ الرَّعيَّةِ، فأيديهم ممدودة ولا تعطي أكثر مِمَّا تأخذ، وعلى المرء أن يشعر بالذلِّ والهوان من أجل وظيفةٍ، أو علاج، أو خدمة في دوائر الدولة. وتحوَّلت القصور التي ارتطمت على عظام الخليقةِ إلى مزارات يوميَّة لطالبي كسرةِ خبز يأكلونها بعد أن يمرِّغوا جباههم في الوحول، وربَّما يطردون عن الأبواب طردًا، ثمَّ يعودون بعد يوم أو يومين إلى الأبواب ذاتها، سائلين ومتسوِّلين “). ويتابع الكاتبُ في القصَّة: ( ” لقد بالغَ هؤلاء في التمثيل حتى أصبحوا شخصيَّات على مسرح، فيضحكون من غير سبب، ويُضحِكون من ينظر إليهم، وقد خاضوا حروبا، وقتلوا، ودمَّرُوا المنازل.. وأصبحوا أغنياء في غمضةِ عين، ولا يسألهم قاض ٍ في محكمةِ العدل: من أين لكم هذا ؟ وحين انتهت الحربُ خلعوا جلودَهم، وتستروا بربطات عنق فاخرةٍ، وتحوَّلت مهمَّتهم من السَّفكِ والتدمير، وتعليق الجثث على الأعمدة، إلى تحقيق السَّعادِة الأبديَّةِ، فأخذوا يتمثلون بأفلاطون وأحفادِهِ من الفلاسفةِ المثاليِّين في التبشير بالخير والحقِّ، وفي إصلاح العالم الذي أفسدُوهُ وجعلوهُ ركامًا فوق ركام ” )… إلخ.. والقصَّة ُ بشكل عام ترمزُ وتشيرُ إلى فترةِ الحربِ الأهليَّةِ في لبنان ( هكذا يفهمها كلُّ قارىءٍ ذكي ) وليست مجرَّدَ تناحراتٍ وشجار بين قريتين صغيرتين.. وكيف هذه الحرب قد جلبت المصائبَ والكوارثَ والدمارَ للسكان والأهالي، والكثيرون غادروا الوطنَ إلى الخارج هربا من الوضع المأساوي ولأجل لقمةِ العيش لأنَّ الكثيرين تضرَّروا إقتصاديًّا ونفسيًّا وجسديًّا.. إلخ. وفقدوا مجالَ ومكان عملهم ورزقهم وتجارتهم.
الكاتبُ يُصَوِّرُ إحدى بطلات القصَّة “سلوى” زوجة سعيد الدروبي ” في البدايةِ بالأمِّ المثاليَّةِ التي ضَحَّتْ وَنذرَتْ حياتهَا لأجل تربيةِ إبنِها الوحيد ولم تتزوَّج…ولكنها في نفس الوقت كانت تحملُ طابعَ وروحَ الشَّر والحقد والرغبة في الثأر لزوجها وتكون نهايتها مأساويَّة حيث تموتُ إثرَ نوبةٍ قلبيَّةٍ بعد أن تُسجَنَ جزاءً وعقابا لها لأنها كادت أن تتسبب في جريمةٍ قتل لإنسانةٍ بريئةٍ حيث حرَّضَتْ ودفِعت شفيقا الذي كان يعشقها ( القاتل الحقيقي لزوجها وكان صديقا له) لقتل سعاد زوجة إبنها رياض حتى تنتقمَ من أبيها الذي كانت تظنُّ وتعتقدُ أنهُ القاتل…وكان من المفروض أن تفرحَ لإبنها الوحيد بزواجهِ واستقرارهِ وتعيش بهدوء وسعادةٍ معه ومع زوجتهِ وأولادهما في المستقبل..
القصَّة ُ تحملُ الطابعَ التراجيدي الحزين كم ذكرتُ:(القتل والثأر والإنتقام ومأساة وأزمة فؤاد السرنوك الذي أتهمَ ظلما بقتل سعيد الدروبي فحياته أصبحت شقاء ومأساة )… ويصورهُ الكاتبُ تصويرا دقيقا رائعا فكأننا نراهُ بالعين المجرَّدةِ وكيف يمشي ويتحدَّث مع نفسهِ وأحيانا ينسى نفسَهُ ومن هو وإلى أين يذهب.. وأحيانا لا يتكلم إطلاقا… وكيف تخرحُ منهُ جملٌ عديدة ٌ بعضها فلسفي وحكمي وبعضها هذيان.. وكيف كان في البدايةِ ( زمن الفتوَّةِ والشَّباب ) شخصا شجاعا جريئا مُهابًا الكلُّ يعملُ لهُ حسابا وكان يدافعُ ويذودُ عن حمى قريتهِ، ولكن بعدَما تغيَّرَت وساءَت حالته الصحيَّة والنفسيَّة لم يعد أحدٌ يهتم بهِ، بل أصبحَ الكثيرون يزدرونهُ ويحتقرونهُ ( وفي مجتمعنا وفي كلِّ مجتمع هنالك العديد من الأشخاص الذين تنطبق حالتهم ووضعهم على وضع وحالة فؤاد السرنوك.. فعندما يمرضون وَتسُوءُ حالتهم وصحتهم ينساهم الناسُ والمجتمعُ ويتنكرُ لهم ولتاريخهم المشرف ولمواقفهم البطوليَّة السابقة…وهنالك الكثيرون ممَّن يتهمون ظلما وإفتراء في جرائم وأحداث ليس لهم أيُّ ضلع ويدٍ فيها ويكون مصيرهم السجن أو الإعدام دون سبب…فالمجتمعُ في الكثير من الأحيان يكونم ظالما لبعض أفرادهِ.
وهنالك شخصيَّة أم سعاد- الأم الفاضلة التي تُحبُّ إبنتها وتعمل المستحيل لأجل راحتها إسعادِها ومستقبلها… والتي عانت وتحمَّلت الكثيرَ وربَّت إبنتها بصعوبةٍ بعد مرض زوجها وتردِّي حالتهِ نفسيًّا وجسديًّا. وهي تمتازُ بطيبةِ القلبِ وبالعواطف والمشاعر البريئةِ والنوايا الطيبةِ والخيِّرةِ ولا تحملُ حقدًا وشرًّا لأحدٍ بل تحملُ الأفكارَ والمبادىءَ التقدميَّة والنيِّرة.
وهنالك العم سالم إنسانٌ عصاميٌّ مكافحٌ وقفت جميعُ الظروف والاوضاع ضدَّهُ، خَسرَ تجارتهُ ومالهُ وزوجتهُ فرَحلَ عن بلدِهِ ولكنهُ عملَ بجهدٍ وكدٍّ وإصرار.. وبعد سنواتٍ رجعَ لوطنهِ وقد كوَّنَ نفسَهُ من جديدٍ وتحسَّنَ وضعُهُ، وكان يُؤمنُ بالحبِّ الصادق وبالروحانيَّات وأنَّ العلاقة َ الزوجيَّة بين الطرفين يجب أن تُبنى على المحبَّةِ والتفاهم والإحترام والوفاءِ والتضحيةِ والتناغم والإنسجام الروحي والفكري أوَّلاً.. وبعد ذلك الجانب الجسدي،على عكس شريحةٍ كبيرةٍ من المجتمع الشَّرقي.. فالكثيرون في مجتمعنا وللأسف الزواج بالنسبةِ لهم لأجل الجنس وإنجاب أطفال بكثرةٍ كالحيوانات… وكان مؤيِّدًا لإبن أخيهِ الدكتور رياض في حبِّهِ وعلاقتهِ الصادقة مع سعاد التي كان أبوها متهما بقتل والدهِ.. وكان الهدفُ من هذه العلاقةِ الزواج والإستقرار. فدَعمَ رياض معنويًّا وماديًّا وشجَّعهُ وباركَ هذا الزواج المبني على الحبِّ الصادق الشريف والذي تباركهُ أيضا الإرادة ُ الإلهيَّة… وكان سالم يشكُّ، في قرارةِ نفسهِ، أنَّ فؤاد هو القاتل ولديهِ إقتناعٌ أنهُ بريىءٌ.. وقد صدقَ حَدسهُ وظنهُ فيما بعد. وقد جاءََ في القصةِ- صفحة 93- على لسان العم سالم مخاطبا ابن أخيه الدكتور رياض ما يلي: ( “… إسمع يا بنيّ… عليكَ أن تحققَ الأحلامَ الجميلة، وتدوسَ على الموتِ بقدميكَ،..لا تدع الموتَ يسرق أحلامكَ.. لقد هزمني القدرُ الأعمى، وأخذ مني امرأة ً أحبُّها، فبكيتُ في مأتمي، ورفضتُ بعد ذلك أن أتزوَّجَ من امرأة لا أحِبُّها..صعبٌ على المرءِ أن يتزوَّجَ كما تفعلُ الحيواناتُ البرِّيَّة، وينجب أولادًا ليسوا لهُ…هل أنا واضحٌ في كلامي ؟ إنَّ الحقدَ الذي بين عائلتي السرنوك والدروبي يجب أن ينتهي…” ).
ولنرجع إلى عناصر وأبعاد القصَّة بالتفصيل:
1 – البعد الإنساني والإجتماعي: من خلال مجرى أحداثِ القصَّة نجدُ الكاتبَ بشكل عفوي وتلقائي وعلى لسان أبطال وشخصيَّاتِ القصَّة ِ يدخلُ ويتوغلُ في مواضيع وقضايا إجتماعيَّة هامَّة ويشيرُ ويركزُ على كيفيَّةِ العلاقاتِ الإجتماعيَّةِ الصَّحيحةِ والسليمةِ والأجواء الوديَّة والطيبة.. ويذكرُ كيف كانت القريتان تعيشان بمحبَّةٍ ووداعة وأمن وسلام قبل الحرب وبعد أن دبَّ الشقاقُ بينهما تغيَّرَ كلُّ شيىءٍ وانقلبت الأمورُ رأسًا على عقب… وحت بعد أنتهاءِ الحربِ المشؤومةِ لم ترق النفوس لبعضها كما كانت من قبل.. ولهذا يجبُ أن يكونَ النسيجُ الإجتماعي معافى وسليمًا وطبيعيًّا لتسيرَ الأمورُ والحياة بشكلها الطبيعي،وأنَّ الإنسان هو أخ الإنسان دائما… والإنسان بطبيعتهِ مخلوقٌ إجتماعيٌّ..والقصَّة ُ بمضامينها وأهدافها وفحواها تدعو للمحبَّةِ والسلام والتسامح والتعاون المشترك والتمسُّك بالقيم الإنسانيةِ السامية والمُثلى وللترفع عن الشوائب والأحقاد والشرور والضغائن ونبذ الخلاف والشقاق والضغينة وللتعالي والترفع على الأحقاد ونبذ العادات والتقاليد والسلبيَّة الموروثة من العصور الجاهليَّة كالأخذ بالثأر والإنتقام… إلخ.
2 – البُعد الوطني: تدعو وتحثُّ القصَّة ُ إلى التعاضد والتماسك ويجب أن يكونَ جميعُ أبناءِ الوطن موحَّدين ( القربين والبعيدين- محليًّا وقطريًّا ) ويعني الوطن العربي بأسرهِ..أي لبنان وجميع العالم العربي، وأن تسودَ الوطنَ جميعَهُ وتترعَهُ ( من المحيط للخليج ) أجواءُ المحبَّةِ والتعاون ولا يُسْمَح للغرباءِ أن يدخلوا بين أبنائِهِِ ويثيروا الخلافات والنزاعات ويؤَجِّجُوا نيرانَ البغضاء والحروب بينهم…ولكن وللأسف هذا ما يحدث ويجري في شرقنا العربي ككل حيث أنَّ الغربَ ( الغرباء الذين يذكرهُم الكاتب في القصَّة ) هم دائما مصدرَ وأساس كل شقاق وخلافٍ وفتن في هذا الشَّرق الأبيِّ والمكلوم.. فيعملون ( الأجانب- الدول الإستعماريَّة ) بشتى الوسائل والطرق وبمخططاتٍ جهنميَّةٍ لكي يبقى شرقنا بأسرهِ والدول العربيَّة في حالةٍ مزريةٍ في نزاع و خلافٍ ليتمكن هذا المستعمر من إستغلالهِ وامتصاص ثرواتهِ وخيراتهِ بطرقه الشيطانيَّةِ المعروفةِ لكلِّ إنسان عربيٍّ شريف وطنيٍّ مُثقفٍ وواع.
3- لقد تحدَّثتُ عن هذا الجانب في سابقا من زاوية واحدة… والقصَّة بشكل عام موضوعها وهدفها الأساسي هو الحبُّ والتسامح… الحُبُّ الشَّخصي والوجداني أولا..أي الحبّ العذري الشَّريف والبريىء والطاهر ( بين بطل وبطلة القصَّة ) ويجب أن تكونَ العلاقاتُ الزوجيَّة في الأساس مبنيََّة على هذا النوع من الحبّ ومفادهُ والإحترام والإخلاص والتضحية والفداء والمحبة اللامحدودة دون قيد أو شرط… ثمَّ المحبَّة بمفهومها الشامل والواسع.. محبَّة الإنسان لأخيبه الإنسان… وأن الله محبَّة.
4- عنصر الإيمان: يظهرُ هذا الجانب بشكل تلقائي وغير مباشر من خلال أحداث القصَّة وخاصَّة في النهاية… وكيف أنَّ هنالك عدالة إلهية في نهايةِ المطاف تحاسبُ وتجازي كلَّ إنسان يرتكبُ جرائمَ وأخطاء في حقِّ الإخرين ويكسرُ الناموس الإلهي… وفي النهاية تتحقق العدالة ُ الإجتماعيَّة بمشيئة الرَّبِّ جلَّ جلالهُ وكلُّ صاحبِ حقٍّ يأخذ حقَّهُ من دون أن يلجأ للقوَّةِ وبوسائلهِ الشَّخصيَّة.. وتجري وتسيرُ الأمور بشكلها الصَّحيح والسليم ويسودُ جوُّ المحبَّة والوئام بين الناس والأخيار المتعطشين للبرِّ والمحبين للسلام.. والودعاء هم الذين ينجحون وينتصرون في النهايةِ..( طوبى للودعاء، لأنهم يرثون الأرض )… وأمَّا الأشرار فمصيرهم العقاب العادل ( الأرضي والسماوي ) والوبال وبئس المصير.
5- الجانب الأدبي والفني وعنصر التشويق: كُتبت هذه القصَّة ُ بلغةٍ أدبيَّةٍ منمَّقةٍ بليغةٍ شاعريَّةٍ ساحرة وفيها العديدُ من المشاهد نحسُّها شعرا وليست كلاما عاديًّا ومجرَّد سردٍ للأحداث كأيِّ شخص يروي حكاية وقصَّة، وخاصَّة ً الفقرات التي يتحدَّثُ الكاتبُ فيها على لسان ( فؤاد السرنوك)، ونجدُ الكاتب في بعض اللوحاتِ الفنيَّة التي يرسمها ويبدعها بريشتهِ وعبقريَّتهِ قريبا إلى أسلوبِ الكاتبِ العربي العالمي ” جبران خليل جبران” وفي لغتهِ السحريَّة التي بهرت الشرقَ والغربَ والذي بفضلهِ وصلَ الأدب العربي الحديث إلى مصاف العالميَّة والخلود. وهذا الطابَُ واللون الأدبي المترع بالشاعريَّةِ والرومانسيَّةِ وبالمعاني الفلسفيَّةِ المبطنة وبالإستعاراتِ والتوظيفاِت البلاغيَّةِ الحديثةِ وغيرها يُعطي القصَّة َ بهاءً ورونقا وسحرا وتألقا خاصًّا يميِّزها عن الكثير من القصص والرواياتِ لكتابٍ كبار ومشهورين ( عربا وأجانب ) أجادُوا وأبدعُوا في قصصِهم ورواياتِهم ولكنهم ليسوا شعراء، وهؤلاء في بعض الفصول والمشاهد، في قصصهم ورواياتهم، نجدُ الضَّعفَ والركاكة َ في الأسلوبِ، والنصُّ يكونُ أقربَ إلى التقارير الصَّحفيَّة وإلى السِّرديَّةِ المُهلهلة فيشوبُ القّصَّة َ والرِّواية َ ( في النسيج والبناء الدرامي ) الوهن ُ والتصَّدُّعُ بعضَ الشيىء… ولكنَّ كاتبنا ( الدكتور جميل الدويهي ) على العكس تماما فهذه القصَّة التي نحن في صددها ( طائر الهامة ) مبنيَّة ٌ ومنسوجة ٌ بشكل متين مُحكم متماسكٍ متناغم متقن ومترابط..
6 –عنصرُ التشويق: تمتازُ هذه القصَّة ُ كما ذكرتُ بمشاهدِهَا الدراميَّةِ وبصورها وأحداثِها المشوِّقةِ التي تشدُّ وتجذبُ القارىءَ وتدخلهُ إلى أجوائِها وأحداثِها برغبةٍ وشهيَّة وشغفٍ.. فأيُّ قارىءٍ يقرؤُها مهما كانت نوعيَّتهُ ومستوى ثقافتِهِ سيتمتعُ بها ويتابعُ قراءَتها حتى النهاية، وفيها جميع عناصر الإثارة والتشويق البارزة، وأنا بدوري قرأتها على نفس واحد حتى نهايتها.. وهنالك بعض القصص والروايات لكتابٍ كبار فالقارىءُ من الصفحاتِ الأولى سيصابُ بالوهن والتعب والملل فيضطرُّ للتوقفِ وقد يعود بين الحين والآخر لمتابعةِ القراءة.. وهذا العنصرالهام (التشويق) يضيفُ جماليَّة ورونقا للقصَّة ويجعلها ناجحة ومتألقة.
7- عنصرُ المفاجأة: في القصَّةِ عدَّة مفاجآت، وبالطبع القارىء..أيُّ قارىءٍ منذ بدايةِ القصَّةِ حتى الإقتراب إلى نهايتها لا يعرف بالضَّبط ماذا ستكونُ النهاية، ولكنَّ المفاجأة الكبرى أنَّ القاتلَ الحقيقي فيها ليس ( فؤاد السرنوك) كما كان يتوقعهُ الجميعُ بل شخص آخر وهو ” شفيق ” وذلك يتضحُ في الصفحاتِ الأخيرة من القصَّة…وكما يتزوَّج في النهايةِ البطلُ من البطلة وقد يظنُّ ويعتقد الكثيرون ممن يقرؤون القصَّة لأول مرَّة حتى الإقتراب للنهاية أنَّ هذا الزواج لا يتمُّ وأنَّ والدَ سعاد ( فؤاد السرنوك ) هو القاتل…والقصَّة ستنتهي بشكل تراجيدي مأساوي ( الثأر والموت ).
ولكنَّ القصَّة تنتهي نهاية ً سعيدة بالرُّغم من كون بعض مشاهدها وفصولها مترعة ٌ بطابع الحزن والألم- ( حياة سلوى الدروبي الأرملة ومأساة ومعاناة فؤاد السرنوك )… ومن الشخصيات التي تعطي للقصةِ الطابعَ الجمالي والرومانسيَّة والإشراقة والأملَ والتفاؤلَ والنظرة َ الشُّموليَّة السعيدة والمفرحة للمستقبل وللغدِ المنشود المشرق ( رياض و سعاد ) أبطال القصَّة.
ويوظف الكاتبُ أيضا في هذه القصَّة بعض المصطلحات والمعاني التاريخيَّة، مثل ( حرب داحس والغبراء). و ( أسد الرَّهيص ) ( واسمه وزر بن جابر النبهاني الذي قتل عنترة بن شداد حسب بعض الروايات بسهم مسموم )…ومن خلال حديث الكاتب عن القريتين المسالمتين اللتين تجمعهما وشائج القرابة والنسب وكيف تنقلبُ الأوضاعُ وتنشبُ الحربُ بينهما فبشكل تلقائي يتذكرُ القارىءُ قصَّة َحرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان اللتين تجمعهما أيضا أواصرُ القرابةِ والنسبِ، ويتذكرُ أيضا حربَ البسوس بين بكر وتغلب ومفادها نفس الموضوع.
ويتطرَّق أيضا إلى قضيَّةِ الواسطات والمحسوبيَّات ( كرت غوار) بشكل جريىء وواضح.. وأنَّ الذين هاجرُو ا وتركوا الوطنَ بجراحِهِ النازفةِ لكونهم لم يجدوا وظيفة ً وعملا في وطنهم ليعيشوا، وذلك في مشهدٍ عندما سألَ بطلُ القصَّة ( الدكتور رياض ) عن الطفل صاحب الطائرة الورقية الذي لم يعد يأت إلى الشاطىء ليلعبَ مع أترابهِ ويطيِّرَ طائرته الورقية… فقالوا لهُ إنهُ هاجر مع أهلهِ،وقد جاء في القصَّة- ( صفحة 82 ):( ” كان بعضُ الصبيةِ يراقبون طياراتهم الورقيَّة، لكن الفتى الذي كان يحلمُ بأن يطيرَ، لم يكن هناك، سألَ رياض عنهُ، فأجابهُ الصِّبية ُ: لقد وجدَ والدُهُ عملا في الخارج، فهاجرت الأسرة ُ…نعم هاجرت، كما هاجرَ المئات من الناس، بحثا عن وظيفةٍ، أو عن أوطان جديدة، يؤمِّنون فيها لقمة العيش بشرفٍ وكرامةٍ، بعيدًا عن التسوُّل والذلِّ، وتقبيل الأيدي… حزنَ رياض لمصير الفتى. ورياض نفسه فقدَ العديدَ من زملائهِ، مِمَّن أغوتهم الغربة ُ فتركوا منازلهم وأحبَّتهم، وسكنوا في عناوين مجهولةٍ، وشوارع مظلمة، كتبوا لهُ عن تجاربهم الصَّعبةِ، وعن حزنِهم لمغادرةِ الأهل، ولكن ماذا كانوا سيفعلون في وطن، لا تُعطى فيهِ الوظيفة إلاَّ للمحسوبين على هذا النائب أو ذاك الوزير ؟ ). ويتابعُ الكاتبُ فيقول: ( قومٌ من الجهلة يقودون جهلة آخرين، ويتحكمون بمصائرهم، بل عُميٌ يقودون ذوي بصائر، فيضلُّون مع، ويصلون إلى جنازات. كان رياض يتمنى لو أنَّ جيلَ الشباب ينقضُّ على أطلال الأمس، وأعمدتهِ البارزةِ، فينتزعها من أمكنتها، ويرمي بها في الغياهب. وكان يؤلمهُ أن يرى العدلَ في بلادِهِ واقفا على رصيفٍ، يمدُّ يدَهُ الكئيبة جائعا،متسوِّلا، فلا يسمعهُ أو يراهُ أحد)…إلخ.
وأحبُّ ان أضيفَ في نهاية هذه المقالة: إن ( طائر الهامة ) الطائر الذي كان يأتي ويقف على نافذةِ منزل سعيد وسلوى الدروبي وكانت سلوى الدروبي دائما تراقبه وتناجيه وتعطفُ عليه وعندما يغيبُ أياما ولا يظهر كانت تحزن كثيرا لغيابهِ يعني ويرمز للعديدِ من الأمور والأشياء في القصَّة. وطائر الهامة لهُ عدة ُ تفسيرات ومعاني من ناحية لغويَّة، مثل: 1- هو طائر البوم الذي يبقى في الأماكن المهجوره والأطلال… 2- طائر الهامة هو طائر صغير جدا يظهر غالبا في الليل قرب المقابر والأماكن المهجورة.
3 – طائر الهامة هو طائر خرافي كانت العرب في الجاهليةِ تعتقدُ أنه يخرجُ من هامةِ القتيل ( طائر الهامة ) الذي لم يُعرَفْ من قاتله ولم يؤخذ بثأرهِ ويبدأ يصيح بصوت عال ويقول: ” إسقوني..إسقوني “.. حتى يُؤخذ بثأر الشخص المقتول.
وربَّما الدكتور جميل الدويهي قد استوحى عنوان قصَّتهِ ( طائر الهامة ) من هذه الأسطورةِ، وخاصة أن بطلَ القصة سعيد الروبي لم يُعرَفْ في البدايةِ من قاتلهُ الحقيقي ولم يَأخذ أهلهُ وذوُوهُ بثأرهِ من القاتل.
وأخيرا وليس آخرا: إنَّ هذه القصَّة من روائع القصص التي كتبت مؤخَّرا وعلى إتمتداد العالم العربي: أسلوبا وعمقا وموضوعيَّة وجماليَّة وبعدا فنيًّا… وأنا بدوري أشكر الكاتبَ والأديب والشاعر القدير والمبدع الدكتور جميل الدويهي على إهدائه نسخة لي من هذه القصة وأتمنى لهُ العمرَالمديدَ والمزيدَ من العطاءِالأدبي والفكري الإبداعي المتواصل والمزيد من الإصدارات الرائعة والمميزة.
بقلم: حاتم جوعيه – المغار- الجليل- فلسطين