السيف والعمامة
تاريخ النشر: 23/10/14 | 20:53في سنة 2014، أي بعد مئة سنة على الحرب العالمية الأولى، انفجرت، بصورة متسلسلة جميع عناصر التفكك في سوريا والعراق، واحتدمت، بطريقة مأسوية، قضية الأقليات الدينية والإثنية في المشرق العربي التي ظلت تشتعل تحت الرماد طوال نحو مئة سنة. ومن غرائب ما يجري في هذه الحقبة، أن العالم كله يتوحد من جهة، لكنه، في الوقت نفسه، يتشتت وينقسم من جهة أخرى؛ فهو ينحو نحو الوحدة في المجالات الحضارية والثقافية، خصوصًا في أنماط العيش وتقنيات التواصل والأسواق والإعلام والعلوم، لكنه يتمزق في كل يوم في ميدان الهويات القومية والإثنية والدينية. وها هو العالم العربي قد أصبح في عين العاصفة، كأن إعصارًا يبتلعه ويخلخل جميع أسسه التي استقر عليها بعد الحرب العالمية الثانية. ومهما يكن الأمر، فإن تفكك الدول وتفسخ المجتمعات يقترنان دائمًا بالمجازر ضد الأقليات؛ فانهيار الدولة العثمانية الذي بدأ في القرن التاسع عشر، واكتمل في الحرب العالمية الأولى، اقترن بمجازر شتى ضد الأرمن والسريان والأشوريين واليونانيين. وها هي «الدول الوطنية العربية» الحديثة تنهار وتتفكك بصورة متسارعة، ويرافق ذلك مذابح ضد الأقليات، ولا سيما المسيحيون والإيزيديون في العراق، والمسيحيون والعلويون في سوريا.
الدول التي نالت استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية، واجهت، قيام دولة إسرائيل كخطر داهم على أمنها القومي. وعلى العموم، كانت الدول العربية الحديثة، دول تحديات وتشققات في الوقت نفسه، ولجأت، لتثبيت استقرارها ومنع التفسخ الأهلي، إلى التسلط دفاعًا عن ديمومتها وحماية وجودها. والسبب أنها لم تتمكن في الحقبة القصيرة التي أعقبت المرحلة الاستعمارية، من تكوين مجتمعات ذات هوية جماعية مندمجة، فعمدت إلى إخضاع الانقسامات والتشققات إلى قانون التسلط، إما بالجيوش، أو بالإسلام السياسي المقترن بالثروة، أو بالحزب الواحد، أو بمقادير من هذا وذاك، كأنها لم تحفظ من ابن خلدون إلا قوله «وما الممالك إلا التغلب والحكم بالقهر». وخلال الفترة القصيرة التي تلت الحرب العالمية الثانية (أقل من عشرين سنة) انغمر العالم العربي بأحداث متسارعة وخطيرة: تأسيس دولة إسرائيل ونشوء القضية الفلسطينية، انهيار الملكية في مصر بقيام ثورة «23 يوليو» 1952، اندلاع الثورة الجزائرية في سنة 1954، الاضطراب السياسي الخطير في سوريا بين 1949 و1955 الذي كان يعكس الصراع الدولي المحتدم على المشرق العربي، العدوان الثلاثي على مصر في سنة 1956، الوحدة السورية ـ المصرية في سنة 1958، انهيار الملكية في العراق في سنة 1958، انفكاك الوحدة السورية ـ المصرية في سنة 1961، التحول اليمني من الإمامة إلى الجمهورية في سنة 1963، انطلاقة الكفاح المسلح الفلسطيني في سنة 1965، حرب الخامس من حزيران 1967. وفي خضم هذا الغليان الكبير، لم تتمكن النخب العسكرية العربية التي تسلمت الحكم في عدد من الدول العربية الأساسية (مصر، سوريا، العراق)، من إقامة بنيان دولها على أسس الديموقراطية والتعددية والعدالة. وكان لتفسخ القاعدة الشعبية للناصرية والبعث بعد هزيمة 1967 شأن مهم جدًا في صعود اليمين الإسلامي، الأمر الذي سينجم عنه لاحقًا انفجار المشرق العربي بصورة مروّعة.
الصدع الكبير
غيّرت الثورة الإيرانية في سنة 1979 المناخ الأيديولوجي والثقافي في العالم العربي كله، وبات لدى كثير من الثوريين العرب الذين خاب أملهم في التيارات الماركسية الثورية والحركات الفدائية الفلسطينية، مثالًا ثوريًا جديدًا يستندون إليه في كفاحهم السياسي. غير أن سعي الدولة الإيرانية الجديدة، الشيعية الهوية، إلى فرض نفوذها في محيطها العربي، أيقظ، بصورة موازية، السلفية السنية التي تزعمتها المملكة العربية السعودية. وهذا الصراع الذي دشنه العراق في حربه ضد إيران في سنة 1980، لأسباب عقيدية وجيو – سياسية، ساهم في إطلاق تيارات إسلامية متطرفة تمكنت بالتدريج من إزاحة القوى القومية «العلمانية» من العالم العربي، وكان ذلك بداية لأفول العلمانية في المشهد العربي العام، ولم يبقَ من النظم القومية إلا الاستبداد. أما العالم العربي، بصورته التي استقر عليها طوال النصف الثاني من القرن العشرين، فهو آخذ في التفكك، وسيُعاد بناؤه في يوم من الأيام، لكن على صورة لا يمكن التنبؤ بها منذ الآن. غير أن المؤكد هو أن الأقليات الدينية والقومية ستدفع أثمانًا باهظة جدًا تعادل وجودها، كالترحيل أو الإبادة (الإيزيديون والشبك والصارلية والصابئة في العراق، والمسيحيون في سوريا والعراق)، وسيقرر الميدان والوقائع الجارية مصير العلويين والدروز والإسماعيليين والأحمديين والبهائيين والتركمان والأكراد والشركس وغيرهم من الأقوام. وستدفع الأكثريات أيضًا أثمانًا هائلة كالقتل بذريعة الاختلاف الفقهي أو عدم الموالاة أو الامتناع عن المبايعة مثلًا، أو صراع المذاهب أو لأي سبب آخر.
إن «الصحوة الدينية» التي دشنتها حقبة النفط العربي وحقبة الهزائم العربية ليست إلا تعبيرًا عن تفسخ المجتمعات العربية وانحلال روابطها الوطنية وفشل مشروع الحداثة، وهي أيضًا تعبير عن نزعات عرقية وإثنية لم تنطفئ خلال الحقبة القصيرة التي بدأت بعد استقلال الدول العربية؛ فالطوائف في دول المشرق العربي أشباه أمم لها تطلعاتها وهوياتها ومطالبها ومشكلاتها التي لم تُحل في إطار الدولة التسلطية الحديثة. والصحوة الدينية، وبالتحديد الصحوة الإسلامية (ليتها لم تحدث)، أدت إلى حروب «المعتوهين» في أفغانستان (تقاتل المجاهدين وتدمير تماثيل بوذا وغزوة نيويورك على سبيل المثال)، وإلى هدم الكنائس في كوسوفو، وقتل الهندوس في كشمير، ومقاتلة الروس في الشيشان، وإلى نزعات انفصالية في الصين والفيليبين (أبو سياف)، وإلى إبادة مسيحيين في نيجيريا (بوكو حرام) فضلًا عن مالي والصومال، وقبل ذلك في الجزائر، واليوم في العراق وسوريا واليمن ومصر.
ما يجري اليوم هو المحصلة المنطقية لتغيرات كثيرة عصفت بالعالم العربي منذ نصف قرن تقريبًا. ويمكن إيجاز هذه التغيرات بالتالي: عدم حل المسألة القومية (قضية فلسطين)؛ حروب الخليج الثلاث (الحرب العراقية ـ الإيرانية في سنة 1980، والاجتياح العراقي للكويت في سنة 1990 ثم الحرب الدولية لإخراج العراق من الكويت في سنة 1991، واحتلال العراق في سنة 2003)؛ صعود الدور الإيراني بقوة في الخليج العربي وفي المشرق العربي معًا؛ الإسلام السياسي في الدول العربية الريعية وازدياد تبعية هذه الدول للغرب؛ استشراء الفساد والقيم النفعية؛ انحسار مفاهيم النهضة والتقدم والحداثة والعدالة الاجتماعية لمصلحة مفاهيم التكفير والتبديع والتفسيق والحاكمية وجميع ما تعرضه السلفيات الجديدة من بضائع قديمة. وفي معمعان هذا الاضطراب العميم استيقظت الهويات والعصبيات التي ظلت مكتومة إلى حد كبير منذ خمسينيات القرن العشرين، وانفجرت تمامًا في العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين، وصار الجميع في الهاوية. لكن المسيحيين العرب اليوم تحوطهم محرقة أو «هولوكوست» حقيقي، فما يحدث في العراق بحق المسيحيين لم يحدث لهم منذ مجازر الأرمن في سنة 1915. وما يعيشه المسيحيون اليوم في العراق وسوريا يشبه ما عاشه أسلافهم الأوائل في بداية المسيحية الأولى.
المفارقة العجيبة
إن التوراة، يا للمفارقة، أرحم من «الدولة الإسلامية» ومن مقاتليها الذين جسدوا طرازًا من التوحش غير مسبوق، فهي تقول: «وإذا نزل عندك غريب في أرضكم فلا تظلموه. كالوطني منكم يكون لكم الغريب النازل عندكم، وتحبه كنفسك لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر» (سفر اللاويين، الأصحاح 19، الآيتان 33 و34). ومن العجب أن مسيحيي الموصل، وهم ليسوا غرباء في أي حال، كانوا يعلقون في منازلهم العلم العراقي الذي يتضمن عبارة «الله أكبر»، ومع ذلك لم يشفع لهم تاريخهم البهي في الإبقاء عليهم في أرضهم. وها هم الآن في منافيهم الموقتة يفتشون عن موطن دائم لهم، ومعظمهم لا يرغب في العودة إلى العراق، بل في تأسيس حياة جديدة لأبنائهم خارج العراق الذي ظل وطنهم طوال ألفي سنة.
بقلم صقر أبو فخر – السفير