دراسة لديوان "على غيمتين" للشَّاعر سليمان دغش
تاريخ النشر: 22/06/12 | 10:44مُقدِّمَة ٌ : هذا الديوانُ هو المجموعة ُ الخامسة ُ التي يصدرُهَا الشاعرُ والكاتبُ الجليلي المغاري الكبير ” سليمان دغش ” ، وأمَّا دواوينهُ السَّابقة حسب الترتيب فهي : 1 ) هويَّتي الأرض .
2 ) لا خروج عن الدائرة .
3 ) جواز سفر .
4 ) عاصفة على رماد الذاكرة .
5 ) وديوانه الذي بين أيدينا “على غيمتين ” – من إصدار ( دار الفاروق – نابلس ) .
الشَّاعرُ ” سليمان دغش ” من الشُّعراء القوميِّين الوطنيِّين الأوائل المُبدعين والمُناضلين… وقد كرَّسَ شعرَهُ منذ نعومةِ أضفارهِ للقضايا الوطنيَّةِ والقوميَّة المصيريَّة … وعملَ على
تطوير ِأدواتهِ الشِّعريَّةِ بشكل ٍ دؤوبٍ فخطى خطًى واسعة رائدة ً وطليعيَّة ً ومستقلَّة ً في عالم ِ الشِّعر ولم يُقلِّدْ أيَّ شاعر ٍمحليٍّ أو خارجيٍّ . ولشعرهِ بصماتهُ ولونهُ وطابعهُ وأريجهُ الخاص . وهو متمكِّنٌ من اللغةِ العربيَّةِ وضليعٌ ومُتبحِّرٌ وعالمٌ في كنوزها وشواردِها ومرادفاتِهَا وغريبها وإعجازها ولهُ خبرة ٌ ومعرفة ٌ بالأوزان ( البحور الشِّعريَّة ) ، وكما لديهِ ثقافة ٌ واسعة ٌ وشاملة ٌ في شتى الميادين : الفكريَّة والأدبيَّة والسياسيَّة … وكلّ هذه العناصر والأشياءِ صقلتْ موهبَتهُ وفنَّهُ وشعرَهُ فارتقى في شعرهِ وكتاباتهِ إلى مستوى عال ٍ جدًّا، وهو يُعتبرُ ( في نظر ِالكثيرين ) في طليعةِ شعراءِ الجيل ِالثاني ( داخل الخط الأخضر – عرب ال 48 ) منذ ُ أواسط السبعينيَّات إلى الآن . وشاعرُنا لم يحظ َ بالشُّهرة ِ والإنتشار الكافي محليًّا الذي يليقُ بمكانتِهِ وبمنزلتِهِ الشِّعريَّةِ والأدبيَّةِ سابقا ً … ولم يكتبْ عنهُ حتى الآن أيُّ ناقدٍ أو بالأحرى ” ُنوَيْقدٍ ” محلِّي ( لا يوجدُ عندنا نقدٌ موضوعيٌّ أكاديميٌّ نزيهٌ ) .. ولكنَّ شاعرَنا عرفَ كيفَ يشُقُّ طريقهُ لوحدِهِ نحوَ التطوُّر والإبداع ِ ونحوَ الإنتشار ِ والشُّهرة ِ ، فعملَ كثيرًا لأجل ِ هذا الهدفِ وقد نشرَ الكثيرَ من قصائدهِ في الدول ِالعربيَّةِ وفي الضفَّةِ والقطاع ( منطقة الحكم الذاتي ) وعرفَ كيفَ يصل إلى هناك ويلتقي مع كبار الشعراء والأدباءِ والنقادِ العرب ومُحرِّري الصحفِ والمسؤولين في المجال ِ الثقافي والأدبي ، وشاركَ في العديدِ من المهرجانات والندوات الأدبيَّة في الضفَّةِ وفي الأردن ومصر ، وذاعَ وانتشرَ اسمُهُ وصيتهُ في السنواتِ الأخيرةِ بشكل ٍ واسع ٍ وأصبحَ من أكثر ِ الشعراءِ المحلِّيِّين شهرة ً في العالم ِ العربي …. وهذا كلهُ يرجعُ بفضل ِ مستواهُ الشِّعري الرَّاقي ، لأنَّ المستوى الذي يكتبُ فيهِ ” سليمان ” يستحقُّ أن يحظى بالشُّهرة ِ والإهتمام ِ . ومن المهرجانات العربيَّةِ التي شاركَ فيها : “مهرجان جرش ” بالأردن الذي يُقامُ كلَّ عام ٍ ويُدعى إليهِ كبارُ وخيرة ُ الشعراء والفنانين من جميع ِ الدول العربيَّةِ . وكما كرَّسَ لهُ الناقد والأديبُ السوري المعروف ” طلعت سقيرس ” حجمًا كبيرًا في كتابهِ النقدي عن الشعر ِ الفلسطيني المحلِّي ( داخل الخط الأخضر ) فكانَ من أكثر الشعراءِ حصَّة ً وحَظًّا في الكتابة ِعنهُ بشكل موسَّع ٍ والإستشهاد بشعرهِ ، إضافة ً إلى الشاعر ِالمرحوم ” هايل عساقله ” فاستشهدَ بالكثير ِ من قصائدِهِما وذكرَ دورهما الرَّائدَ والهام في مسيرةِ الشعر ِالفلسطيني المحلِّي المُقاوم ، وكلاهما من نفس ِ قريتي ” المغار ” .
مدخل : في شعر ” سليمان دغش نجدُ دائمًا التجديدَ والإبتكارَ والعبارات والمفردات المُستحدثة ، وكثيرًا ما يستعملُ الرُّموزَ الجديدة َغبر المألوفة التي لم يستعملها شاعرٌ قبلهُ ، ولكنَّهُ يستعملُ السَّهلَ المُمْتنع … وفي بعض ِ الأحيان ِ الصَّعبَ المُمتنع . وشعرُ ” سليمان ” غيرُ مُتوغِّل ٍ في الغموض ِ والإبهام ومعظمُهُ مفهومٌ للكثير ِ من الناس ِ بالرُّغم ِ من معانيهِ العميقةِ ومُستواهُ الرَّاقي . وهو يكتبُ الشِّعرَ اللكلاسيكي وشعرَ التفعيلة وقد أبدَعَ في كليهِما . ولشعرهِ طعمٌ وعذوبة ٌ ورونق ٌخاصٌ .. فنقراُ قصائدَهُ بمحبَّةٍ وشغفٍ وتمتُّع ٍ ونحسُّ أنَّنا أمامَ طاقةٍ شعريَّةٍ جديدةٍ مُمَيَّزةٍ لا يُستهانُ بها تحوي كلَّ ما هو جميل وعذب وقيِّم . وسليمانُ ، بدورهِ ، يعرفُ كيفَ يوظِّفُ الرُّموزَ وَيَتفَنَّنُ في تركيبِ العباراتِ والمفرداتِ وكيفَ يتلاعبُ بالألفاظ ِ والكلمات ويتحكَّمُ في الجمل ِ البلاغيَّة ِ وفي اختيار الكلمات الجميلةِ والأتيان بالمعاني المبتكرةِ والصُّور ِالشِّعريَّةِ الجديدة غير المعهودة والمألوفة ، فيقول مثلا ً من قصيدةٍ بعنوان :” مَدخل ” – صفحة ( 7 ) وهي القصيدة الأولى في الديوان – على وزن ( مجزوء الوافر ) : ( ” لماذا اخترتَ أن نمضي //
إلى أفق ٍضَبابيٍّ لصَاعقةٍ من الوَمْض ِ //
لماذا اخترتَ أن تتزوَّجَ الأمواجَ //
حينَ الموجُ لا يفضي //
إلى رمل ٍ نحاسيٍّ // وشُبَّاك ٍ // أطلُّ عليهِ في نبضي
لماذا اخترتَ أن تتقمَّصَ الإعصارَ // أو تتزوَّجَ الفِضِّي ؟ …
لأنِّي اخترتُ أن أبقى على أرضي … ! ” ) .
بهذهِ الكلماتِ القليلةِ والمُكَثَّفةِ استطاعَ سليمان دغش أن يلخِّصَ تجربَتهُ الإنسانيَّة َ والوطنيَّة َونجربة َ كلَّ فلسطيني مُلتزم ومُناضل ٍ وصامدٍ في معتركِ الكفاح ِ النضال ِ لأجل ِ البقاءِ على ترابِ الآباءِ والأجدادِ . وجميعُ المعاني في القصيدةِ والمُفردات اللغويَّة والإصطلاحاتِ والتشبيهاتِ والصُّور الشِّعريَّةِ نرَاها جديدة ًومبتكرة لم يستعملها شاعرٌ قبلهُ . وهنا يكمنُ سرُّ وروحُ التألق ِ والإبداع ِ والسُّمُوِّ عندَ الشَّاعر ِ سليمان دغش … ومن المفرداتِ والمعاني الجديدةِ التي استعملها في القصيدةِ ، مثل : ” رمل نحاسيّ ” – فوجهُ الشَّبَهِ بين الرَّمل والنحاس هو اللون الأصفر … ولا يوجدُ شاعرٌ حتى الآن ذكرَ هذا التشبيهَ البسيط ( رمل نحاسيّ ) ، وأيضًا جملة “أطِلُّ عليهِ في نبضي”.. ويقصدُ بالنبض ِالأحاسيس والمشاعر والروح ِ والقلب وكلَّ كيانِهِ … وأيضا عبارة ” تتزوَّجُ الفضِّي ” … والفضِّي اللونَ الأبيض السَّاطع – من كلمة الفضَّة ، والمقصود هنا النور والفجر . وتتزوَّجَ الفضِّي … أي تتزوَّجَ الفجرَ والحُرِّيَّة َ والتحرُّرَ والإستقلالَ لأجل ِالبقاء ِالأبدي والعيش الكريم على أرض ِ الوطن . فيبدو واضحًا جَليًّا هنا أنَّ سليمان دغش لا يكتفي بالمعاني المألوفةِ والشِّعارات النضاليَّة الرَّنانة والسطحيَّة والهامشيَّة التي عفا عليها الزمنُ والمُستعملة دائمًا والمستهلكة لدى للكثيرين من الشعراءِالمحليِّين وبعض ِالشعراء المعروفين بالإلتزام والنضال ِ والمُقاومةِ . بل هو َطوَّرَ كثيرًا في بناءِ وشكل ِالقصيدةِ وطوَّرَ المعاني والأفكارَ التي استعملت والتي يريدُ قولها والتعابير عنها بحُلَّةٍ وثوبٍ جديدٍ من الرُّموز والإيحاءاتِ والمفرداتِ الغويَّةِ والإستعارات البلاغيَّةِ الجديدة والمُوَفقة والناجحة ، وهكذا يكونُ دأبُ الشَّاعر ِالمبدع الرَّائدِ والمُمَيَّز . وفي جميع ِ قصائد سليمان نجدُ دائمًا التجديدَ والإبتكارَ واستعمالَ الرموزَ الشعريَّة الجديدةَ . ونجدُ عندهُ التلاحمَ مع الواقع والحياةِ والإلتحام والإلتقاء بالأرض // والمرأة // والوجود ( الكون ) //
وفي كثير ٍ من الأحيان يكونُ التجديدُ والتعمُّقُ في المعاني والصور عند سليمان دغش قد جاءَ بشكل ٍ عفويٍّ وبديهي وليسَ بتخطيط ٍ ودراسةٍ وتنقيبٍ وسهر ٍ وتعبٍ … وكلُّ هذا يرجعُ بفضل ِ موهبتهِ الإبداعيَّةِ الفذ َّةِ وثقافتهِ الواسعة ِ وتجربتهِ الخصبةِ والمُثمرةِ في مجال الشعر والأدبِ والحياةِ وتموُّجاتِهَا وأبعادِها الواسعة .
ولننتقل إلى قصيدةٍ أخرى من الديوان بعنوان : ( ” أيُّوب ” –صفحة ( 13 ) – على بحر ِ الكامل – شعر تفعيلة – ) .
… ويقصدُ بأيُّوب هنا الإنسانَ الفلسطيني – أيُّوب هذا العصر الذي صبرَعلى الضّيم والإضطهاد والتشرُّد والضياع والمآسي الطويلة . ويُخاطبُ في هذه القصيدةِ مدينة َ ” يافا ” الرَّمز لكلِّ ما هو جميل في فلسطين ( وهي من أكبر المدن الفلسطينيَّة قبل النكبةِ – عام 48 – ) على لسان ِ أيُّوب الفلسطيني ، فيقولُ في القصيدةِ :
( ” ما خُنتُ سُرَّتكِ الشَّهيَّة َ آهِ يا يافا القديمَهْ //
إنِّي أتيتكِ ليلا ً // كي نمارسَ عشقنا البدوَّ // فوق الرَّمل //
أدخُلُ شعرَكِ الغجريَّ //
أمسَحُ أحمرَ الشَّفتين // والكحلَ المُزيَّف //
ثمَّ ألقي في مياهِ البحر ِ ُقبَّعَة ً تسَمَّى ” تل – أبيب ” )
نجدُ هنا بعضَ المصطلحاتِ والتشبيهات المُستعملة سابقا ً ، ولكن شاعرنا يُوَظفها ، في القصيدة ، بشكل ٍ تكتيكيٍّ فنيٍّ جميل ٍ ومُوَفق ، مثل كلمات : ” عشقنا البَدَويّ ” و ” شعرك الغجري ” . والمعروف أنَّ ” يافا ” كانت مدينة ً كبيرة ً قبلَ عام 48 ، وتل أبيب يومها كانت مُجَرَّدَ قريةٍ وضاحيةٍ صغيرةٍ إزاءَها ، ولكن بعد النكبةِ ورحيل وتشرُّد أهل يافا أصبحت تل أبيب في فترةٍ قصيرةٍ جدًّا المدينة َ الكبيرة َ والعاصمة َ ويافا غدت قرية ً صغيرة ً وفقيرة ً تفتقرُ إلى الكثير ِ من المرافق الحياتيَّةِ والإقتصاديَّةِ والثقافيَّة ِ بعدما كانت مَأثلا ً ومنارًا ومحفلا ً لمعظم ِ الشَّخصيَّات السياسيَّة والأدبيَّة والثقافيَّة والعلميَّة الهامَّة في فلسطين والعالم ِالعربي والعالم بأجمعهِ نظرًا لموقعها الهام ولرقيِّها ولكثرةِ المرافق الحضاريَّة الحياتيَّةِ والإقتصاديَّةِ والمؤسَّسات والمراكزالثقافيَّةِ والعلميَّةِ الهامَّةِ الموجودة فيها … فتل أبيب الآن احتلَّتْ مكانهَا وأخذت مكانتهَا ومركزها ودورَهَا الحضاري والسياحي والإستراتيجي ، فشاعرنا باسم ِ كلِّ فلسطيني عاشق للأرض والوطن ومخلص لمدن وقرى فلسطين وليافا الرَّمز يُعلنُ أنَّهُ سيبقى على عشقهِ ووفائهِ وإخلاصِهِ لها وسيمارسُ عشقهُ البدويَّ ( العذريَّ ) الصادق معها ولن يخونها أو ينساها وسيمسَح عنها كلَّ الشَّوائبِ والمساحيق والثوبَ الزائف المُصطنع ، سيزيلُ الطلاء وسَيَمسَحُ كحلَ الشفتين والكحلَ المُزيَّف …. أيّ هنا يُشَبِّهُ يافا ٍ بفتاةٍ جميلةٍ وبعرُوس ٍ قد شوَّهُوا وجهها العربيَّ الفلسطيني وطلوُه ُ بمسحوق ٍ وبمكياج جديدٍ لتغيير ِ معالِمِهَا العربيَّة الأصيلة، وهوالفلسطيني المُلتزمُ والعاشقُ الصادقُ سيعملُ المُستحيلَ وسيزيل ُ عن يافا كلَّ ما هو مُستهجَن وغير طبيعي من شوائب ومساحيق لترجعَ إلى سحرها وأصالتها وطابعها العربيّ ، وسيرمي في مياهِ البحر القبََّعَة َ التي تسَمَّى ” تل أبيب ” . ورُبَّما قد يفهَمُ بعضُ السطحيِّين هذه العبارة على أنها مُتطرّفة .. أي نرمي تل ابيب في البحر ( بشكلها ومعناها المجَرَّد ) … ولكن المقصود ليسَ كما هو حرفيًّ … بل هو رميُ وإبعادُالصبغة المُزيَّفة ، الصبغة الجديدة الدخيلة والمُزيَّفة التي وُصِمَت بها مدينة يافا وإعادتها إلى سالفِ عهدِها …. وإلى مكانتها القياديَّة كأكبرِ مدينة ٍ فلسطينيَّةٍ بثوبِها وطابعِها العربي الفلسطيني الأصيل لتكونَ كما كانت معقلا ً ومركزًا ومَحَطًّا حضاريًّا لجميع ِ العالم ِ وليسَ للدول ِ العربيَّةِ فقط . ويقولُ سليمان دغش في هذه القصيدة أيضًا مُخاطِبًا يافا :
( ” هلْ أنتِ دُرَّتي الوحيدَه // والفريدَهْ // كي ُتخبِّئكِ البحارُ //
ويشتهيكِ القادمونَ منَ البعبدِ // قوافلا ً تلقي عصَا الترحالْ //
فوقَ الرَّمل ِ // ثمَّ تلفها الأمواجُ // ثانية ً // ويطويها المغيبْ // )
وما أجمل هذه التعابير حيث يقولُ :
( ” هلْ أنتِ هاجَرُ // كيّْ يُهاجرَ فيَّ اسماعيل //
من بلدٍ إلى بلدٍ // ومن زبدٍ إلى زبدٍ //
ويحملني القطارُ إلى مَحَطَّاتِ الرحيل ِ النورسيّ //
فهل نعودُ مع ِ الصَّهيل // وهل نعودُ مع ِ الهديل //
وهلْ نعودُ مع ِ الغروبْ ؟ !! //
هلْ أنتِ أندلسي لأصبحَ مرَّة ً أخرى // غريبًا أو أجنبيًّا //
لا ينامُ على سَحَابتِهِ الحبيبْ //
ولا يئِنُّ على وسادتِهِ الحبيبْ // ولا يزفهُمَا اللَّهيبْ .. !! //
ويقولُ أيضًا : ( ” هلْ أنتِ خارطتي // لأبني فيكِ اجملَ دولةٍ //
بمساحةِ القلبِ الصَّغيرْ //
ورَفِّ جانِحِهِ اللَّعوبْ … !!؟؟ //
ويُنهي القصيدة َ بهذهِ الجمل :
( ” أيُّوبُ جَرَّبَ إلهَهُ .. // فهلْ أنا أيُّوبُ يا امرأتي …
لأسقط َ فيكِ // يا َتنُّوريَ الشَّافي // وأولدُ مرَّة ً أخرى //
نبيَّ الصَّبر ِ في كلِّ القلوبْ …
ويكادُ قلبي أن يذوبَ .. ولا يذوبُ ولا يذوبْ // ” ) .
إنَّها قصيدة ٌ رائعة ٌ بكلِّ معنى الكلمةِ من ناحية ٍ فنيَّةٍ وذوقيَّةٍ ولغويَّةٍ ومن ناحيةِ التجديدِ والأتيان بالصُّورِالشعريَّة ِالمُكثفَّةِ الجميلةِ والتعابيرالبلاغيَّةِ والبيانيَّةِ الجديدةِ – وخلاصة ُالقول ِ( فحوى القصيدة ) انَّ يافا هي الرَّمزُ للوطن ِ وهي الأمُّ والعشيقة ُ والحبيبة ُ، فالإنسانُ الفلسطيني– أيُّوب – لا يستطيعُ أن يحيَا بدونِها ، فأيُّوبُ هذا العصر ِ – الفلسطيني الشَّريدُ – أينما وُجِدَ يحتاجُ إلى شفاءٍ ويافا شِفاؤُهُ وَبلسَمُهُ ، فهي كالتنُّور ِ ( بئر الماء ) الذي سقط َ فيهِ أيًّوبُ بعدَ أن استفحلَ بهِ المرضُ والداءُ وَشُفِيَ شفاءً تامًّا من دائِهِ . وفي يافا وجمالِهَا وسِحرها وبهائِها ورونقِها الفلسطيني العربي الخاص والمُمَيَّز الشِّفاءُ الناجعُ للإنسان ِالفلسطيني أيُّوب العصر من مرضِهِ وعشقِهِ الأبديِّ القاتل .
وإلى قصيدةٍ أخرى من الديوان بعنوان : ( حقيبَه ) – صفحة 100 – على بحر الرَّمَل – فيقولُ فيها سليمان :
كانتِ الأرضُ كئيبَهْ //
كزهور ٍِ في إناءٍ … // وعلى القلبِ شتاءْ //
وَغَمَاماتٍ سَكوُبَهْ //
ويقولُ أيضًا : ( ” كانتِ الأرضُ الحبيبَهْ
ما الذي ذات مَساءْ … //
جعَلَ الأرضَ // على الضَّهْر ِحقيبَهْ … !!؟؟ ) .
إنَّهُ يُعيدُ إلى أذهانِنا عندما نقراُ هذهِ الأبيات ما قالهُ الشَّاعرُ الكبيرُ الرحوم محمود درويش قبلَ فترة طويلة ( في الستينيَّات من القرن الماضي) :
( ” أيُّهَا الجُرحُ المُكابِرْ // وَطني ليسَ حقيبَهْ //
وأنا لستُ مُسافر ْ //
إنَّني العاشِقُ والأرضُ الحَبيبَهْ // ” ) .
والقصيدتان( قصيدة سليمان دغش وقصيدة محمود درويش ) على نفس الوزن ( بحر الرَّمل ) وهما بنفس ِ الروح والأسلوب تقريبًا ، ولكن المعنى والتوَجُّه عند سليمان يختلف عن محمود درويش ، فسليمان هنا واقعيٌّ ومنطقيٌّ وصادق ٌ… ويُعطينا صورة ً صادقة ً ومُعبِّرة ً وواقعيَّة ً عن مأساةِ الإنسان الفلسطيني اللاجىءِ والمُشَرَّد ، فهو دائمًا مُسافرٌ من مكان ٍ إلى مكان ومن موقع ٍ لموقع ومن منفى ً لمنفى ومن متراس ٍ لمتراس ٍ، وصورة ُ الأرضِ ِ والوطن دائمًا منغرسة ٌ في مُخيِّلتهِ وقلبِهِ ووجدانهِ ، فكأنَّ هذهِ الأرض ( فلسطين ) بعد تشرُّدهِ ونزوحِهِ عنها حقيبة ٌ يحملها على ضهرهِ دائمًا … وفي كلِّ بقعة ٍمن بقاع ِ العالم ِ يتوجَّهُ إليها تكونُ تكونُ معَهُ لا تفارقهُ أبدًا . ويبدو بوضوح ٍ أنَّ ” سليمان دغش ” قد تأثَّرَ بمحمود درويش ولكنهُ اختلفَ عنهُ في هذا اللوحة ِ وأبدعَ بصدق ِ العاطفةِ المُرهفةِ والتعبير الصحيح الدقيق ومن ناحيةِ القيمةِ الفنيَّةِ والبلاغيَّةِ والعُمق ِ … وأمَّا المعنى عند محمود درويش ( إنَّني العاشقُ والأرضُ الحبيبه ) و ( أنا لستُ مسافر ووطني ليسَ حقيبَهْ ) قد يبدو عاديًّا ومألوفا ً للأغلبيَّة ِ ولا ينطبقُ على محمود لأنهُ تركَ أرضَهُ وبلادَهُ من تلقاءِ نفسهِ وبحُرِّيَّتِهِ ولم يُطرَدْ وَيُهَجَّرْ بالقوَّةِ خارج َ الوطن كمعظم أبناءِ شعبِهِ الفلسطيني … بيدَ أنَّهُ بعدَ رحيلهِ ومغادرتِهِ للبلادِ استطاعَ أن يخدِمَ القضيَّة َ الفلسطنيَّة َ – قضيَّة أهلهِ وشعبهِ – أكثرَ بكثير ممّا هو عليه عندما كان داخل البلاد واستطاعَ أن يحقِّقَ شهرة ً عالميَّة ً، والقضيَّة الفلسطينيَُّة ُ سَمتْ وارتقتْ بهِ ( على حدِّ قول الشاعر العربي الكبير المرحوم نزار قبَّاني ) . والمعنى والتشبيه عندهُ غيرُ مُوَسَّع وشامل للوضع ِ والواقع الفلسطيني في ظلِّ التشَرُّدِ والمآسي . .
وسأكتفي بهذا القدر من استعراض ِ وتحليل قصائد الديوان .
– وأخيًرا – إنَّ الشَّاعرَ والصَّديق ” سليمان دغش ” هو من الشُّعراءِ المُناضلين والقوميِّين المُبدعين الفلسطينيِّين في الداخل ، وفي طليعةِ شعراءِ المقاومةِ الصادقين ، ولكن لأسبابٍ عديدةٍ ومعروفةٍ لم يأخُذ حَقَّهُ من الشُّهرةِ والنتشار ِ الواسع محليًّا وعربيًّا سابقا ً . وامَّا الآن فقد حَقَّقَ شهرة ً كبيرة ً فلسطينيًّا وعربيًّا ، ودائمًا يُدعَى إلى بعض ِ الدول ِ العربيَّةِ كالأردن ومصر للإشتراك ِ في أهمِّ وأكبر ِ المهرجاناتِ الأدبيَّةِ والشعريَّة التي تقامُ هناك ، مثل : مهرجان ” جرش” الدولي الذي يُقامُ كلَّ عام ، ومهرجان ومؤتمر الكتاب الدولي في القاهره … وغيره . وكما دائمًا وباستمرار يشتركُ في الندواتِ والنشاطاتِ الأدبيَّةِ والشعريَّةِ التي تقامُ محليًّا وفي الضفةِ والقطاع ( منطقةِ الحكم الذات – داخل الخط الأحمر) ولاقى هناكَ شعبيَّة ً واسعة ً وانتشارًا وشهرة ً كبيرة ً… بَيْدَ أنَّهُ ما زالَ مثلي ( حاتم جوعيه ) مقاطعًا كليًّا وإلى الآن جميع َالندوات والمهرجانات الثقافيَّة السُّلطويَّة أو ذات الطابع الصهيوني رافضًا الإشتراك فيها والتي هدفها َشلُّ وتدمير الثقافةِ الفلسطينيةِ العربيَّة الهادفة في الداخل وطمس ووأد الشعر والأدب والفن العربي الفلسطيني الحقيقي الإبداعي الهادف والملتزم ( داخل الخط الأخضر) -دولة إسرائيل . وهنالك العديدُ من المناسبات والمهرجانات السلطويَّة التي تقام سنويًّا لأجلِ هذا الهدفِ الإجرامي الخطير ولا حاجة لذكر ِ أسمائها … وللأسف الشديد نجدُ العديدَ من الشُّّعراءِ والكتاب الفلسطينيين في الداخل الذين يتبجَّحون زيفا ً بالوطنيَّةِ والقوميَّةِ والإلتزام وبالمبادىءِ وبالنضال ِ يُشاركونَ بشكل ٍ رخيص ٍ وحقير ٍ ومفضوح ٍ في مثل ِ هذهِ المهرجانات ِ السَّاقطةِ . ومنهم من كان يتصلُ بي تلفونيًّا للإستفسار عن طابع وهويةِ هذه المهرجانات قبل إقامتِهَا بأيَّام فكنتُ أوَضِّحُ له الصورة َ والهدف الدنيىء والخطير من ورائها فيُصَادق ويُؤكِّد على كلامي ، ولكن بعد أيّأم ٍ كنت اتفاجأ من أولئك الشعراء والكتاب المتصلين باشتراكهم في هذه المهرجاناتِ الرَّخيصة .
إنَّ سليمان دغش شاعرٌ من بين شعراء عديدين محليِّين مبدعين ومناضلين قدَّمُوا الكثيرَ للأرض ِ والوطن ولشعبِهِم الفلسطيني ، واستطاعَ هو بفضل ِ مجهودِهِ الذاتي ونشاطهِ الدَّؤوب والشَّخصي أن يُحَقِّقَ كلَّ هذه الشُّهرةِ الواسعةِ … ولكن هنالك العديدينَ غيره من شعراءٍ مبدعين ومُناضلين ضحَّوْا وقدَّموا الكثيرَ مثلهُ وأكثرَ محليًّا ولم يسمعْ أحدٌ عنهم خارجَ الوطن ( في العالم ِالعربي ) ، وكما أنَّ هنا في الداخل ِ ما زالَ ُيمارسُ ضدَّهم وإلى الآن ( رغم الإنفتاح الواسع على العالم ووجود شبكات الأنترنيت وآلاف المواقع العربيَّة والعالميَّة ) كلّ أنواع ِ التعتيم الإعلامي المقصود السُّلطوي ، الحزبي والشَّخصي )… إلخ . وأنا ، بدوري ، ( حاتم جوعيه ) كنتُ نموذجًا ومثالا ً للشُّعراءِ الفلسطينيِّين الوطنيِّين القوميِّين المبدعين الذين حاولوا التعتيمَ عليهم ، ولكنِّي تحدَّيتُ كلَّ العراقيل ولم تستطعْ جميعُ محاولات التَّعتيم الإعلامي الرَّجعيَّة الآثمة أن ُتعَتِّمَ عليَّ أو تحدَّ من نشاطي الأدبي والثقافي والفكري وانتشاري وشهرتي وتألُّقي ، سواءً (السُّلطويَّة أو الحزبيَّة والفئويَّة … وغيرها ) . وأتمننَّى من أعماق قلبي أيضًا لأولئك الزملاءِ الشُّعراء والكتاب المُناضلين القوميِّين المُلتزمين أن ينجحوا ويُحَقِّقوا شهرة ً وانتشارًا واسعًا يليقُ بمنزلتِهِم ومُستواهم ومكانتِهم الأدبيَّةِ كما حظيَ وحَقَّقَ زميلنا الشَّاعرُ الوطني التقدُّمي المُبدعُ ” سليمان دغش” ابن قرية المغار الجليليَّة الفلسطينيَّة شهرَتهُ الواسعة . وأتمنَّى أيضًا للزميل ِ” سليمان دغش ” المزيدَ من العطاءِ المُتواصل والكثيرَ من الإنتاج ِالشِّعري والأدبي المطبوع والمزيدَ من النجاح ِ المتألِّق والمُمَيَّز : محليًّا وعربيًّا وعالميًّا .
تحية خاصة يا صديقي