جميل السلحوت: القدس مدينة الأديب محمود شقير الأولى
تاريخ النشر: 01/11/14 | 11:07صدر عام 2014 كتاب “القدس مدينتي الأولى”للأديب الكبير محمود شقير عن منشورات الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل في رام الله، ويقع الكتاب الذي صمّمه شريف سمحان، والموجّه للفتيات والفتيان في 95 صفحة من الحجم المتوسط.
يجدر التنبيه أن هذا الكتاب ليس الوحيد لأديبنا الكبير محمود شقير عن القدس، فقد سبق له أن كتب الكثير عن المدينة المقدسة، ومن كتاباته هذه رائعته (ظل آخر للمدينة)التي صدرت عام 1998 عن دار القدس للنشر، وأثارت ردود فعل ايجابية واسعة، فقد عاد الى القدس التي عرفها منذ طفولته المبكرة، وكيف وجدها بعد غيابه القسري عنها لمدة ثمانية عشر عاما، وقد اعتبر النقاد هذا المؤلف خلطا لجوانب من سيرة الكاتب الشخصية، ومن سيرة مدينته التي تسكنه، وتجلت روعة هذا الكتاب بلغته الأدبية التي شملت سردا روائيا وقصصيا وتأريخيا بعاطفة صادقة، وتوالت ابداعاته عن القدس فكانت مجموعة (القدس وحدها هناك) فرغم عذابات المدينة المقدسة، ومعاناتها من بطش المحتل الذي يسرق تاريخها وثقافتها، مثلما سطا على جغرافيتها، إلا أن استحضار تاريخ المدينة، وما تعرضت له من غزوات، ينبئ بأن مصير هذا الاحتلال لن يختلف عن مصير سابقيه، فهو حتما الى زوال، والقدس باقية مكانها، عزيزة بشعبها “ينشئ الكاتب نصوصه حجرا حجرا،فكأنه يبني مدينته، والجميل مراوحتها بين شكل اليوميات واستحضار التاريخ، ليوحي بأن الفرنجة مرّوا قديما بالمدينة، ولم يستطيعوا امتلاكها”.(1) وهذه المجموعة يمكن قراءتها كقصص قصيرة جدا منفصلة، وكرواية أيضا، ثم جاء كتاب(قالت لنا القدس) وهو جانب من جوانب سيرة المدينة”سيرة مقدسية نتناول بها ومعها من جيل الى جيل: هي في جوهرها سيرة المكان الفلسطيني كله، في سبيل الحرية والعدل والسلام”.(2) وفي هذا الكتاب خرج الكاتب عن أسلوب القصّ الى أسلوب يوميات عن المدينة، كانت لافتة خصوصا ما كتبه عن”شبابيك” بيوت المدينة القديمة، وبعدها جاء كتابه (مدينة الخسارات والرغبة) الذي يمكن قراءته كقصص قصيرة جدا وكرواية أيضا.
ولا يعتقدنّ أحد أن الأديب شقير لم يكتب عن القدس إلا بعد عودته الى أرض الوطن من المنفى في أيار 1993، فالقدس كانت حاضرة في قصصه منذ بداياته في القصّ، وفي مجموعته القصصية الأولى “خبز الآخرين” فقصة خبز الآخرين تدور أحداثها في القدس القديمة، وقصتاه”في الطريق الى البلدة القديمة” و”متى يعود اسماعيل” يرسم لنا أديبنا جانبا من مأساة وقوع المدينة تحت الاحتلال الاسرائيلي.
لكنه وبعد عودته من المنفى، وقد بلغت تجربته الأدبية ذروتها، أفزعه ما جرى على مدينته من تغييرات استلابية، في محاولة لطمس هويتها العربية، فخصّص لها شيئا من إبداعه السردي، وكأنه يطلق صرخة غير مباشرة لإنقاذ المدينة.
وبالتأكيد فان صدور كتاب “القدس مدينتي الأولى” في هذه الأيّام ليس عفويا، فالمدينة المقدسة تتعرض لأبشع الهجمات التهويدية، وما يصاحب ذلك من تدمير وطمس لهويتها وتاريخها وحضارتها التي تأبى أن لا تكون إلا عربية فلسطينية بامتياز.
وإذا كان كتاب”ظل آخر للمدينة” يشكل شيئا من يوميات وسيرة القدس الشريف، التي عايشها الكاتب، وكيف وجدها بعد ابعاده القسري عنها ما بين 1975-1993، وجاءت مجموعاته القصصية الأخرى لتتحدث عن المدينة وعبقها وجمالها وتاريخها ودور عبادتها، فان الكتاب الذي نحن بصدده” القدس مدينتي الأولى” يشكل ذكريات الكاتب منذ نعومة أظفاره مع المدينة، إنه شيء من السيرة الذاتية للكاتب مرتبط بمدينتة المقدسة، وإذا كان الكاتب قد جاب عددا من العواصم والمدن في العالم العربي، وبعض الدول الأوروبية إلا أن روحه وفكره بقيا متعلقان بمدينته التي ولد وترعرع وعاش فيها، فهي تسكنه كما يسكنها هو نفسه، ولا غرابة في ذلك فالقدس بالنسبة للانسان الفلسطيني هي بمثابة القلب في الجسد.
وفي تقديري أن الكاتب جاءنا بكتابه هذا الموجّه للفتيات والفتيان الفلسطينيين خصوصا والعرب بشكل عام، ليلفت انتباههم الى العاصمة السياسية والدينية والاقتصادية والثقافية والعلمية والتاريخية للشعب الفلسطيني، خصوصا وأن جيل الفتيات والفتيان من الأراضي الفلسطينية المحتلة في حزيران 1967، وبقية أرجاء العالم العربي محرومون من دخول مدينتهم المقدسة التي يغلقها المحتلون في وجوههم، ويحاصرونها ويمنعونها من التواصل مع محيطها الفلسطيني وامتدادها العربي.
وأديبنا في كتابه هذا عاد الى طفولته المبكرة، ومرحلة تعليمه المدرسي، وبداية نشره لكتاباته القصصية في الأفق الجديد وغيرها، ومعاصرته لاحتلال المدينة في حرب شكلية عام 1967، ثمّ انخراطه في العمل السياسي المقاوم للمحتل، وتعرضه للاعتقال وما صاحبه من تعذيب جسديّ ونفسيّ، واضطراره الى الاختفاء وممارسة النضال السري، ليعتقل مرّة أخرى ويتم ابعاده الى لبنان، وتنقله للعيش في عمّان ثم براغ العاصمة التشكية، ثمّ عودته الى عمّان، حتى عودته الى القدس في أيار 1993 ضمن اتفاقات أوسلو التي أُعلن عنها وجرى توقيعها لاحقا في سبتمبر من نفس العام.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا ركّز الكاتب في كتابه هذا على شيء من ذكرياته وسيرته الذاتية في المدينة؟ وما هدفه من وراء ذلك؟ وطبعا فإن الاجابة عند الكاتب، وهو يملك الحرية كاملة في خياراته، لكنّني أعتقد جازما أنّ المدينة التي يجري تهويدها وطمس حضارتها وتاريخها تشكل الهمّ الأكبر للكاتب، وأنّه يرى أن الاعتداء على المدينة اعتداء شخصي عليه. فالمدينة لا تشكل للكاتب مدينته الأولى كما جاء اسم الكتاب، بل هي مدينته الأولى والأخيرة، فلا يمكن لمدينة أخرى أن تحتل مكانة القدس في ثقافة ووجدان كاتبنا.