حواري مع شجرة بلغت من العمر 300 عام!!

بقلم:  الاء عبد السلام صعابنه

ما أجملها حين تتسلل أشعة الشمس الذهبية لتداعب جفوني في كل صباح، فأفتح عينيَّ شيئاً فشيئاً لأبصر جمال الدنيا من حولي. اليوم بعد أن فتحت عينيَّ، رأيت أغصانها من نافذتي… فتذكرت، اليوم تكمل هذه الشجرة التي أحببتها منذ صغري قرنها الثالث، أصبح عمرها الآن ثلاث مائة عام…

اشتعلت في صدري نار الفضول: ثلاث مائة عام من الحياة في نفس المكان، ما هو شعورها يا ترى؟! فقررت الذهاب إليها لتزودني من حكمتها.

أنا: صباح الخير والنور يا أجمل شجرة رأتها عيناي!

الشجرة: صباح النور والبركات يا صغيرتي الغالية!

أنا: لقد تذكرت هذا الصباح أنك قد بلغت اليوم ثلاث مائة عام.

الشجرة: آه نعم يا صغيرتي، لقد هرمت جداً، أنظري إلى حالي الآن شجرة عجوز, جذعها فارغ وأغصانها يابسة، لقد رحل أواني وما عاد هذا زماني يا حبيبتي الصغيرة.

أنا: ها أنا أتمعّن بحالك يا صديقتي، أوَتعلمين ماذا أرى؟! أراك شجرة جميلة اكتسبت من الحكمة ما لم يكتسبه أي إنسان، شجرةً فتحت أحضانها لأعشاش العصافير وصغارها، ورغم كل ما ألقاه الدهر من الصعاب على أغصانك المتينة، إلا أن ذلك لم يكن إلا دافعا لك لتعززي قواك، ومحطةً أخرى للوقوف من جديد ومد يديك بالعطاء لكل من حولك.

الشجرة: يا بنيتي الصغيرة، أخبريني، أهذه إحدى مقدماتك لأحكي لك حكاية من زمن مضى، أو حكمة مما تعلمته في حياتي الطويلة؟!

أنا: نعم.. لقد كشفتني! أنت تعلمين كم أحب التزود من معرفتك الواسعة يا شجرتي الغالية.

الشجرة: حسناً، لا بأس، ماذا تحبين أن تعرفي؟

أنا: أخبريني، ما هي أعجب الأشياء التي مرّت عليكِ؟

الشجرة: ثلاث مائة عام من الحياة في نفس المكان، لقد شهدتُ في هذه الساحة الكثير، شهدتُ صراعات كثير من البشر، وشهدتُ أيضاً لحظاتٍ جميلةً لأصدقاءٍ أوفياء، عشتُ مع زقزقة عصافيري كلَّ صباح، سكنتُ هنا والقطط تداعب ساقي في كلِّ مساء، ولكن…

أنا: ولكن ماذا أيّتُها الشجرة؟!

الشجرة: ولكن ما إن أحببت أحداً منهم وصادقته حتى رحل عني، فالعصافير ماتت والقطط ماتت والبشر ماتوا، كُلّهم رحلوا، إلا واحد، كان دوما معي منذ ثلاث مائة عام، كان معي ولا يزال، يؤنسني دوما في وحشتي…

أنا: هيا يا شجرتي أكملي أرجوك، فالفضول يقتلني، من هو هذا الصديق الذي جاوز من العمر ثلاث مائة عام؟!!

الشجرة: إنه يا صغيرتي من كنتُ أستيقظ على صوته وأنام عليه،إنه ذلك المسجد، لقد شهد معي كلّ ما مررت به، يوقظني في كلِّ فجرٍ بأذانه الندي منذ ثلاث مائة عام إلى اليوم ولم ينس يوماً ولم يصمت يوماً، ويعلن لي موعد النوم في كل عشاء، إنه صديقي الأفضل.

أنا: فعلاً لم أعلم ذلك!

الشجرة: هنالك أشياء كثيرة في هذه الدنيا لا تعلمينها يا صغيرتي!

أنا: نعم معك الحق، أخبريني يا شجرتي بأعظم درس أتعلمه منك.

الشجرة: حبيبتي الصغيرة، إن من أعظم الدروس التي لك أن تتعلميها في حياتك، أنَّ كلّ شيءٍ فانٍ مهما طال، فلتتعلمي أنّ عدوك راحل وظلمه راحل ولكن ما يبقى في هذي الحياة هو صدى أفعاله وأفعالك، فلتتعلمي أنك يجب أن تكوني دوماً في سباقٍ مع الزمن، ولكن لا تنسي أن تتوقفي لتأخذي قسطاً من الراحة بعد كلِّ سباق، ولا تنسي أن تتمهلي قليلاً عند كلِّ محطةٍ من محطات الحياة لتأخذي منها عبرةً أو حكمةً تعتبرين بها، فلتتعلمي أنه لا يمكن أن يدوم الليل كما لا يمكن أن يدوم النهار، فالدهر يقلّب أيامك فعليك أن تصبري وتثبتي أرجلك في تراب أرضك، وحينما تشرق عليك أشعة الشمس بعد ليل داكن السواد، أطلقي لنفسك العنان، حرري قدميك من التراب وحلّقي في فضاء الكون، راسمةً بسمةً جميلةً على محياك، ولا تنسي، إذا فقدتِ محبوباً أنه سيحيى دوماً بقلبك إن أحببته فعلاً، وتمني له أن يرقد بسلام وبعد أن تهدأي، امسحي دمعاتك وقبّلي قبرهُ قبلة الوداع وقولي لهُ:” سأحفظك في قلبي ما حييت!”.

 غرقتُ في تفكيري للحظات، والشجرة في صمت، الهدوء يعم المكان، وصوت حفيف الأشجار يطرب مسامعي وأشعة الشمس تنساب على وجهي من بين ظلال شجرتي…

 أنا: أيتها الشجرة! أيتها الشجرة! ما بالك لا تردين عليّ؟!! شجرتي أجيبيني… هذه أنا، صغيرتك الغالية…

 ولكنها لم تجب أبداً، سالت على خدي دمعة ساخنة، دمعة أحرقت خلجات قلبي وأدركتُ أنها رحلت، ارتفع صوت آذان الظهر في المسجد… رحلت صديقتي على صوت الآذان… بكيت بمرارة، حتى إذا جفَّ الدمع من مقلي، مسحت دمعاتي عن خديَّ، قبَّلتُ جذعها الشامخ وتمنيت لها من أعماق قلبي أن ترقد بسلام، اقتربت منها وهمست:” سأحفظك في قلبي ما حييت!”، ما زال جذعها شامخاً وأغصانها تدعو رب السماء ولكن روحها فارقت جسدها، فما عادت تنبض بالحياة بعد الآن، ألقيت إليها بنظرات الوداع وعدتُ إلى البيت ومعي نبضة من نبضاتها التي كانت، فقد تعلّمتُ منها، وستبقى ذكراها حيةً في قلبي إلى الأبد.