إنتفاضة القدس

تاريخ النشر: 05/11/14 | 19:12

منذ أشهر عدة، تعيش مدينة القدس المحتلة حالة انتفاضة ما تكاد تخبو حتى تشتعل من جديد، على خلفيّة الرد على استمرار وتصاعد الاعتداءات الإسرائيليّة ضد أهالي القدس بشكل عام، وضد الأقصى بشكل خاص.
يكفي الإطلاع على مسلسل الاعتداءات خلال الشهر الماضي لتبيان ما تعانيه القدس من جهة، والصمود والتصدي والمقاومة التي تقوم بها من جهة أخرى، التي بلغت ذروتها بمحاولة اغتيال الصهيوني المتطرف يهودا غليك، إذ تعرض لإصابات خطيرة، فيما استشهد منفذ العمليّة معتز حجازي في عمليّة إعدام نُفّذت بدم بارد.
خلال شهر تشرين الأول الماضي، شهدت القدس ارتقاء الشهيدين عبد الرحمن الشلودي ومعتز حجازي، وأغلقت قوات الاحتلال الإسرائيليّة لأول مرة في تاريخ فلسطين أبواب المسجد الأقصى، ومنعت رفع الأذان فيه. كما اقتحم الأقصى أكثر من 1350 متطرفًا صهيونيًا، منهم رئيس بلديّة القدس نير بركات على مدار الأسبوع، واعتُقلت أعداد كبيرة من المقدسيين، وأُصدرت قرارات بإبعاد بعضهم، وهُدمت منازل بحجة عدم الترخيص، وأُعلن عن بناء آلاف الوحدات الاستيطانيّة في كل من «جفعات هاماتوس» و«رمات شلومو» و«جبل أبو غنيم».
تتواصل التظاهرات والاحتجاجات في مختلف أنحاء القدس، دفاعًا عن المسجد الأقصى تحديداً، لدرجة دفعت الكثير من الكتّاب والمعلّقين والسياسيين الإسرائيليين إلى اعتبار أن المدينة تشهد انتفاضة يمكن أن تنتقل إلى بقيّة أنحاء الضفة وأراضي 48، وأنها خرجت عن السيطرة الإسرائيليّة، كما طالبوا الحكومة باتخاذ إجراءات أشد لإعادة سيطرتها.
وأثناء تشييع الشهيد حجازي، تردد هتاف بين المشيعين «يا ضفة يلّا منشان ألله»، وهو هتاف مؤلم سمعناه يتردد بأشكال أخرى في بداية العدوان الأخير على قطاع غزة، وسمعنا مثله أثناء الهبّات التي انطلقت مرارًا تضامنًا ونصرة للأسرى، خصوصًا أثناء إضراباتهم الأسطوريّة عن الطعام، وأثناء المواجهات المستمرة منذ أعوام في بلعين ونعلين والنبي صالح والمعصرة وكفر قدوم وواد فوكين وبيت أمر وغيرها من القرى التي التهم جدار الفصل العنصري والاستيطان معظم أراضيها.
ما سبق يُظهر أن هناك مواجهات ومقاومة بطوليّة تبلغ حد الانتفاضة مثلما يجري في القدس، من دون أن تمتد المواجهات والمقاومة والانتفاضة إلى مناطق أخرى.
في السابق كان يكفي قتل أربعة عمال في غزة لتشعل الشرارة السهل كله، فكانت الانتفاضة المجيدة التي اندلعت في 9 كانون الأول 1987، واستمرت سنوات عدة، ووضعت فلسطين على خريطة العالم. ولولا توقيع «اتفاق أوسلو» الذي فصل الأرض عن الشعب والقضيّة، وقسّم كلاً منها إلى أجزاء، وهمّش «منظمة التحرير» الإطار الجامع للفلسطينيين، واعترف فيه الفلسطينيون من جانب واحد بإسرائيل، وتخلّوا عن المقاومة وأدانوها من دون أن تتخلى إسرائيل عن مخططاتها وتوسعاتها العنصريّة الاستيطانيّة، ولولا انهيار التضامن العربي بعد احتلال العراق للكويت، وانهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكيّة؛ لاستطاعت الانتفاضة تحقيق هدفها من خلال تجسيد الدولة التي أُعْلِن عن قيامها في 15/11/1988 كأحد إنجازاتها.
وفي 28 أيلول 2000، كانت تكفي الزيارة الاستفزازيّة للأقصى التي قام بها أرئيل شارون لاندلاع انتفاضة عارمة كان يمكن أن تحقق الحلم الفلسطيني لو رافقها إعلان موت «اتفاق أوسلو»، واعتمدت مقاربة جديدة تستلهم تجارب ونضالات الشعب الفلسطيني منذ الغزوة الصهيونيّة الأولى وحتى تاريخه. لكن اختُلِفَ حول جدوى الانتفاضة وحول ما إذا ينبغي أن تكون سلميّة أو مسلحة، ونُظِر إليها على أساس تكتيكي ووسيلة لتحسين شروط المفاوضات التي انهارت في مؤتمر «كامب ديفيد»، على خلفيّة طرح حل تصفوي للقضيّة الفلسطينيّة لا يمكن أن يقبله الرئيس الراحل أبو عمار ولا أي زعيم وطني فلسطيني. وارتقى ياسر عرفات شهيدًا في 11/11/2004 لقيادته الانتفاضة ولرفضه الحلول الاستسلاميّة.
اليوم، يرتقي الشهداء بالجملة والمفرق في الضفة وغزة، لدرجة تقديم أكثر من 2200 شهيد وأضعافهم من الجرحى، غير الخسائر الأخرى في العدوان الأخير على غزة، إضافة إلى تعرض الأقصى لاعتداءات يوميّة وسط دعوات شُرِع في تنفيذها لتقسيمه زمانيًا ومكانيًا تمهيدًا لهدمه وبناء هيكل سليمان الثالث المزعوم على أنقاضه، ومع ذلك لم تندلع الانتفاضة التي طال انتظارها.. لماذا؟
لا يتسع هنا المجال للإجابة الموسعة عن هذا السؤال، غير أن الأسباب يمكن تلخيصها بالآتية:
أولاً: عدم وجود قيادة للانتفاضة، فالرئيس أبو مازن أعلن مرارًا وتكرارًا معارضته لاندلاع انتفاضة جديدة، وعبّر هذا الموقف عن نفسه من خلال منع العديد من التظاهرات وأي شكل من أشكال الاحتكاك مع قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين في مناطق السلطة، ودعا مؤخرًا إلى التهدئة في القدس التي تشهد تصعيدًا إسرائيليًا غير مسبوق.
ثانيًا: لعب الانقسام دورًا أساسيًا فى عدم اندلاع انتفاضة جديدة، كما لعب تعدد القيادات والمرجعيات والإستراتيجيات دورًا مهمًا في الحيلولة دون تحقيق الانتفاضات السابقة أهدافها، كما أن الخلاف حول أهداف الانتفاضة وأشكال النضال المناسبة (سلميّة أو مسلحة) يلعب دورًا في تأخير اندلاع الانتفاضة.
ثالثًا: عدم تحقيق الانتفاضات السابقة أهدافها برغم البطولات الأسطوريّة والتضحيات الغالية، وانتهاؤها إلى حالة من الفوضى والفلتان الأمني، جعلت الشعب يخشى الانتفاضة ولا يثق بنتائجها. فالانتفاضات الكبرى يحركها الأمل والثقة بالانتصار أكثر مما يحركها اليأس والإحباط. كما أن نشوء طبقة ما بعد أوسلو التي ازدادت نفوذًا وثروة، خلق مصلحة بعدم اندلاع الانتفاضة وعدم انتصارها إذا اندلعت.
رابعًا: إن التغييرات العاصفة التي تشهدها المنطقة وما انتهت إليه من حروب داخليّة وطائفيّة ومذهبيّة تهدد بتفتيت بلدان عربيّة عدة تلعب دورًا في إحجام الشعب الفلسطيني عن سلوك درب الانتفاضة، لأنه يدرك أهميّة البعد العربي كما الإقليمي والدولي للقضيّة الفلسطينيّة.
برغم كل ذلك، فالانتفاضة آتية عاجلاً أم آجلاً، لأن المشروع الصهيوني الاستعماري ما زال مفتوحًا ولم يغلق، وأطماعه التوسعيّة تكبر، وإسرائيل تتجه أكثر فأكثر نحو التطرف.
قد تأخذ الانتفاضة القادمة شكل موجات متلاحقة وأشكالاً محلية على خلفيّة عناوين عدة. ولكن حتى تنتصر، يفترض أن تكون لها قيادة واحدة ومقاربة إستراتيجيّة جديدة ومختلفة عن تلك التي اعتمدت حتى الآن ولم تحقق أهداف الشعب الفلسطيني. كما أنها بحاجة إلى روافع تنظيميّة وجماهيريّة واقتصاديّة وثقافيّة وقانونيّة تستند إلى جبهة وطنيّة عريضة، يمكن أن تجسدها «منظمة التحرير» بعد إعادة بنائها وتفعيلها وإصلاحها وضم مختلف مكونات الشعب إليها على أسس تمثيليّة جديدة، بحيث تمكنها من المشاركة بغض النظر عن أماكن تواجدها داخل الوطن المحتل أو خارجه.
هاني المصري – السفير
gggfff

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة