“داعش” والصمت الاختياري

تاريخ النشر: 05/11/14 | 19:15

عندما انطلقت الحركة النازية، استقبلها الألمان بالسخرية والاستخفاف، تماماً كما يستقبل المسلمون اليوم الحركة الداعشية. ولكن مع الوقت، استهوت النازية المزيد من الشباب الألمان الذين كانوا يعانون من جراح معنوية عميقة جراء الإهانة التي لحقت بالأمة الألمانية بعد الحرب العالمية الأولى ونتيجة لها، تماماً كما يعاني شباب مسلمون من الإهانة المعنوية من جراء استمرار الاعتداءات الإسرائيلية ومن توسع الاستيطان اليهودي في الأراضي المحتلة، وكذلك من جراء الاستبداد الذي مارسته الأنظمة السياسية والعسكرية العربية وإهدارها للثروات الوطنية على شراء أسلحة ما حررت شبراً من الأرض المحتلة.. بل تحولت أكواماً من الحديد الخردة.
ولم تمض سوى بضع سنوات على ظهور هتلر حتى استقطبت النازية المزيد من الشباب الألمان، واستهوت حتى بعض كبار السن منهم، بعدما طرحت نفسها أداة لاسترجاع المجد الألماني الضائع، ولاستعادة الكرامة الألمانية المستباحة، تماماً كما تطرح الداعشية اليوم نفسها أداة لاسترجاع الخلافة الإسلامية الضائعة ولاستعادة المجد الإسلامي الذي تحول سراباً!
وما سهل عملية اجتياح النازية للمجتمع الألماني، لجوء الأكثرية من الشعب إلى الصمت الاختياري، حتى إذا كشرت النازية عن أنيابها في ما بعد، تحولت الأكثرية إلى الصمت الإجباري. هكذا تمكنت النازية من السيطرة على المجتمع ترغيباً وترهيباً، وجرّت ألمانيا ومعها العالم كله إلى الكارثة الكبرى في الحرب العالمية الثانية، تماماً كما سهل الصمت الإسلامي الاستخفافي بـ«داعش» وبالقائمين عليها عملية التوسع التي قامت بها الحركة في أجزاء من سوريا والعراق. وهو صمت اختياري محدود حتى الآن، ولكنه قد يتحول إلى صمت إجباري أوسع، إذا ما كشرت الحركة عن المزيد من أنيابها في توجيه المزيد من الضربات التشويهية إلى الإسلام كدين، وإلى المجتمعات العربية المتعددة الأديان والمذاهب والعناصر في عيشها المشترك. ومن شأن ذلك ليس تفجير الشرق الأوسط فقط، بل تفجير الإسلام من الداخل. وستكون النتيجة ـ لا سمح الله ـ انفجار العالم الإسلامي كله من أندونيسيا على المحيط الهادئ حتى المغرب على المحيط الأطلسي. ولن يستثني الانفجار الأقليات الإسلامية المنتشرة في دول العالم المختلفة، والتي تضمّ 600 مليون مسلم، أي ثلث العالم الإسلامي.
وإذا حدث ذلك ـ لا سمح الله ـ فإن الإسلام يمكن أن يصوّر أنه مصدر خطر على السلام العالمي، كما كانت النازية مصدراً لهذا الخطر حتى استؤصلت في الحرب العالمية الثانية.
سقطت النازية وأبيد جيشها وجرت تصفية كاملة لقادتها ولمنظّريها، وعانى الشعب الألماني جميعه، بمن فيه الأكثرية الصامتة، أشد المعاناة بعد الحرب من جراء الاحتلال والتقسيم.
والعالم الإسلامي ـ والعالم العربي تحديداً الذي يعاني منذ «سايكس ـ بيكو» من التقسيم والتجزئة ـ معرّض لمواجهة تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ. الأمر الذي يضاعف من معاناة الشعوب العربية والإسلامية ويعرّضها إلى المزيد من الابتزاز والتشهير والاستضعاف.
وإذا كان الشعب الألماني قد تمكن من استعادة وحدته في العام 1989، فإنه لم يستطع أن يسترجع سمعته كشعب مسالم، حتى أن ألمانيا تُخضَع لسقف منخفض من التسلح. كما أنها تُستبعد حتى من المشاركة في أي من قوات الأمم المتحدة للمحافظة على السلام في الدول المضطربة.
والمؤلفات التي تتهم الشعب الألماني بالنازية وشرورها، لم تتوقف عن الصدور، وقد وصمت هذه المؤلفات ـ وكثير منها مغرض ـ الشعب الألماني بأنه والنازية صنوان لا يفترقان. وحاولت أن توحي ظلماً أن النازية لم تكن عقيدة حزب هتلري تم سحقه، ولكنها عقيدة متأصلة في الثقافة الألمانية وتشكل أساس شخصيته القومية.
ان الصوت الإسلامي المنخفض حتى الآن في إدانة الأعمال الإرهابية التي ترتكب باسم الإسلام، لا يكفي لتبرئة الإسلام من تهمة الإرهاب التي تلصق به ظلماً وافتئاتاً. وهو لا يكفي لتسفيه المنطق الذي يعتبر المسلمين والإرهاب صنوين لا يفترقان أيضاً. ثم انه لا يقنع المشككين بأن الإرهاب عقيدة داعشية ليست من الإسلام في شيء وأنها طارئة عليه وعلى المجتمعات العربية، يؤمن المسلمون بوجوب العمل على إسقاطها والتخلص منها، وأن هذه العقيدة الهجينة لا تشكل أي ركن من أركان الشخصية الإسلامية.
من أجل ذلك، فإن الصمت الفكري والثقافي والديني على ما قامت به حركة «داعش»، وما تقوم به، هو خطأ تاريخي. وتعلمنا تجارب الآخرين كم هو مرتفع ثمن هذا الخطأ.
لقد مرت أمم عديدة بمثل هذه التجربة ـ المحنة ـ القاسية.
مرت بها اليابان عندما قادتها ثقافتها العسكرية الفوقية ـ في ظل صمت الأكثرية ـ إلى التوسّع على حساب الصين وتسبّبت في مقتل 12 مليوناً منهم.
ومرّت بها الصين ذاتها وتسببت في مقتل 70 مليون إنسان من بني قومها في ظل الصمت الإجباري الذي التزمت به الأكثرية أيضاً.
ومر بها الاتحاد السوفياتي السابق وتسبب في مقتل 20 مليوناً من شعوب «الاتحاد»، في ما كان الروس صامتين.
أما ألمانيا النازية، فلم تدفع وحدها الثمن الغالي، ولكنها حمّلت العالم كله الملايين من الضحايا في الحرب العالمية الثانية.
حرام جرّ الإسلام إلى هذا الموقع المأساوي المدمر. إن عملية الاستجرار تبدأ بالسكوت ولو عن غير رضى على الجرائم الجماعية التي ارتبكت، والتي تتواصل، باسم الإسلام. إن الاستخفاف الذي يقود إلى الصمت، يُستغلّ للمضي في ارتكاب المزيد من الجور والمنكر والبغي.. وباسم الإسلام. وكلما امتدت فترة الصمت أو خفتت أصوات الاعتراض، أوغل المعتدي في عدوانه، وتمكّن من فرض الصمت على الاعتراض المتأخر. لذلك، فإن الدفاع عن الإسلام يبدأ بكلمة حق ترفع عالياً وبقوة في وجه هذا التشويه الخطير له.. ولقد وصف النبي محمد أفضل الجهاد بأنه كلمة حق في وجه سلطان جائر. فكيف إذا كان الأمر يتعلق بمتسلط جائر؟
بقلم محمد السماك – السفير
sww

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة