الإختلاف سيّد الأحكام!
تاريخ النشر: 06/11/14 | 12:39في هذه المرّة اكتمل النصاب. لم يتغيّب أحد، لا من الرجال ولا من النساء. كان اللقاء في بيت الحكيم بالذات، في صباح أحد السبوت. جلسة صباحيّة تتلخّص في شرب القهوة والحديث الحرّ الصريح. أربعة رجال: الراوي- كاتب المحضر، يعني حضرتي، الحكيم، المتشائم المزمن، والعنيد. والزوجات الأربع طبعا. لقاؤنا في بيت أحدنا أكثر حرّيّة، في تصرّفنا، وفي الكلام. أحرار في الخلاف، وفي الصياح أيضا، حين تحمى الأمور. لا رقيب ولا حسيب.
كالعادة افتتح الحكيم النقاش بطرح السؤال: ما رأيكم؟ هل من واجب العرب في إسرائيل التصويت في انتخابات الكنيست، أم الامتناع؟ أيّ النهجين يخدم قضيّتنا وموقعنا هنا في إسرائيل؟
لم أرغب في افتتاح النقاش بالردّ على سؤال الحكيم. موقفي معروف لهم جميعا، بل كتبته مفصّلا في مقالة لي قبل حوالى سنتين. يومها اتّهمني الحكيم بأني أتبنّى موقف بعض الجماعات السياسيّة “الرافضة” بين ظهرانينا. على كلّ حال، أنا لا أنتمي إلى أيّ حزب أو تيّار سياسي في البلاد. تخلّصت من الانتماءات الفئويّة سالما. لكنّ ذلك لا يمنعني من إعلان موقفي “على راس السطح”. ولا يهمّني إذا كان هذا الموقف يوافق خطّ زيد، أو يعارض خطّ عمرو!
لذلك، تناول المتشائم المزمن، قبلي، حقّ الكلام، هذه المرّة. والله لا أعرف ما الفائدة للعرب هنا، أو لإخوتنا في المناطق المحتلّة والشتات، من مشاركتنا في انتخابات الكنيست الإسرائيليّة، بدأ الرجل مرافعته. من سنة 48 والعرب في إسرائيل يصوّتون، وفي نسبة أعلى منها عند اليهود عادة. وإذا لم تكن النسبة كافية مرضية، ارتفعت بقدرة قادر ارتفاعا مذهلا، بعد غياب الشمس وحلول الظلام. هل تغيّر شيء؟ المتغيّرات كلّها، ولا أنكر بعض المتغيّرات غير الجذريّة، حصلت وتحصل بفضل الظروف المحليّة والدوليّة، لا بجهود النوّاب العرب في الكنيست. صحيح أنّ النوّاب العرب اليوم، جميعهم دون استثناء، يعارضون السياسة الرسميّة السافلة. لكنّ مواقفهم وثوراتهم وصياحهم تظلّ جميعها صرخة في واد، تابع المتشائم. دلّوني على إنجاز واحد تحقّق بجهودهم المباركة. أما أنّهم يفضحون سياسة إسرائيل أمام العالم فتلك ذريعة مضحكة فعلا. العالم يعرف سياسة إسرائيل، كما نعرفها نحن. لكنّ العالم لا يتحرّك طبعا إلا وفقا لمصالحه. والنوّاب العرب في الكنيست يهمّهم الوصول إلى الكنيست أكثر من أيّ قضيّة أخرى. قولوا لي بربّكم: هل يتشاجرون ويستقتلون للوصول هناك رغبة في خدمة القضيّة الوطنيّة والجماهير، أم حبّا بالمعاش آخر الشهر، وبغيره من الامتيازات؟ المعارك الداخليّة في الأحزاب، على موقع مضمون في القائمة للكنيست، لا تقلّ ضراوة وتحالفات وصفقات عنها في الكنيست. كثيرون اليوم ينتمون إلى أحد الأحزاب، حاملينٍ حلمهم الذهبي هذا على أكتافهم. من باب من جدّ وجد. لماذا لا يمتنع العرب جميعهم عن المشاركة في الانتخاب للكنيست مرّة واحدة، مرّة واحدة فقط، ويجرّبون ماذا تكون النتيجة؟ الامتناع عن الفعل، في هذه القضيّة بالذات، أقوى من الفعل وأبعد أثرا. إلى متى سيظلّ العرب في الكنيست شهادة على “الديمقراطيّة” الإسرائيليّة للقاصي والداني؟ هل تذكرون كيف كانت الحكومة الإسرائيليّة في الماضي تصنع بنفسها نوّابها من العرب، لخدمتها في البلاد هنا وفي العالم؟
تذكرون السنوات السود الأولى من تاريخ العرب في هذه البلاد؟ كان حزب المباي، “القادر على كلّ شيء”، يصنع عربه بنفسه، وفق حاجته. متعلّم، أمّي، شاطر، غبي، يفهم، لا يفهم، يظلّ صاحيا، ينام في الكنيست أتناء المناقشات- لا يهمّ! المهمّ أن يرفع إصبعه مؤيّدا مقترحات سادته، وأن “يمثّل” العرب. طابور خامس يعني، داخل إسرائيل وفي الخارج، والثانية أهمّ وأنكى!
كان المتشائم أفضل منّي حتّى، وأكثر صراحة، في التعبير عن موقفي المعروف المعلن من زمان. محام ببلاش يعني. لذا لم أكفّ عن تأييده بهزّ الرأس مرّة، وبالهمهمة المؤيّدة أخرى. أفكاره ذاتها أحملها من زمان، وإذ أعلنها تبدأ التأويلات والتفسيرات البعيدة والقريبة. وكلّها غير موضوعيّة. أشعر أن كثيرين منّا لا يمكنهم تغيير موقفهم. كأنّما تغيير الموقف لا يليق بالرجل المستقيم. أسطورة ورثناها ونردّدها دون تفكير غالبا. إذا اكتشفت خطأ موقفي ولم أغيّرة فذلك ضعف وعناد، وخوف من الجديد. في أحيان كثيرة يكون التمسّك بالموقف تياسة حتّى!
أنا شخصيّا اقتنعت طبعا بموقف المتشائم. كأنّما كان يتحدّث بلساني. لكنّ الحكيم كان يتململ في قعدته، خلال مرافعة المتشائم، ينتظر فراغه من خطابه الطويل ليردّ عليه، مفنّدا أقواله وحججه كلّها.
قال الحكيم إنّ النوّاب العرب في الكنيست ضرورة لا غنى عنها لعرب هذه البلاد. أعضاء الكنيست العرب هم البرهان الأوّل والأهمّ على زيف ديمقراطيّة إسرائيل. ترتفع أصواتهم، هنا وفي العالم، فتفضح الديمقراطيّة الإسرائيليّة المزيّفة. إسرائيل تسوّق ديمقراطيّتها المزيّفة في العالم كلّه، وفي الغرب بوجه خاصّ. والنوّاب العرب هم أقدر من يميط اللثام عن الوجه القبيح لهذه السياسة العنصريّة.
لا تنسوا، تابع الحكيم، أنّ مؤامرات “قانونيّة” كثيرة تحاك ضدّ العرب، وباستمرار، في الكنيست. من يفضحها أمام الرأي العامّ هنا، وفي العالم، إذا لم يكن لنا ممثّلون في الكنيست؟ الأحزاب الصهيونيّة والحكومة من مصلحتهم أن تكون الكنيست خالية من العرب تماما. السارق يحبّ العمل في الظلام دائما، ولا يطيق تسليط الضوء عليه. والنوّاب العرب هم الكشّاف الكهربائي الذي يعرّي هذه السياسة. يخلعون عن إسرائيل ثوبها الديمقراطي، فيراها العالم على حقيقتها، لا كما تسوّقها الماكنة الدعائيّة الصهيونيّة في العالم، وفي الغرب؛ الأب الراعي الواقي لإسرائيل وسياستها دائما.
كلمات الحكيم البراجماتيّة أقنعت بعض الحاضرين طبعا، من النساء بالذات. الحكيم شاطر ومتكلّم. رأينا أن زوجة الحكيم بالذات، من الجنس الآخر، لم تقنعها حججه. أمّا بين الرجال فلم يكن للحكيم من مؤيّد سوى نفسه! لم نتوصّل على كلّ حال إلى موقف واحد بالإجماع. أجمعنا أنّ اختلاف الرأي، في أحيان كثيرة، لا القرار بالإجماع، هو سيّد الأحكام!!
سليمان جبران