“داعش” بربريّ.. ونحن أيضاً؟
تاريخ النشر: 07/11/14 | 19:361 ـ كن عدوّي…. بكى القائد الروماني سيبيون، بعدما هزم قرطاجة، آخر المدن العاصية على امبراطورية روما. انتحى سيبيون مكاناً بعيداً، مجانباً ألسنة النار ومشهد الدمار والتزم صمتاً مقلقاً وليس سحنة حزن عميق، وفي باله تساؤل عن مجهول مخيف.
ها هي قرطاجة تحترق. ها هو شعبها مسبي. ها هي حضارة تندثر. وحيداً، راح ينشد أشعار هوميروس، كما يقول الرواة:
«سيأتي يوم تهلك فيه إيليون المقدسة!
وبريام، سيهلك معها، كما يهلك الشعب كله».
سمعه المؤرخ والفيلسوف بوليب، فسأله: «ما معنى هذا القول المتشائم؟ لماذا أنت حزين؟ روما تنتظر بطلها لتتويجك». أجابه سيبيون: «لم يعد لروما أعداء. إنه يوم النصر يا بوليب. إنه ليوم رائع، إنما لا أعرف سبب القلق. ربما، أستشعر اللحظة التي يحضر فيها الآخر، ويفرض على روما المصير نفسه الذي فرضته على قرطاجة».
فهم بوليب. لم يعد لروما أعداء، فكيف تعيش؟ لا تستطيع امبراطورية عظيمة، سجد لها العالم، وانتصرت على أعدائها جميعاً، أن تعيش بلا أعداء.. ان حضارة كحضارة روما لا تأنس إلى فراغ يحيط بها، من دون أن تراودها فكرة معاينة موتها الخاص.
تكفل بوليب الفيلسوف، بإيجاد عدو جديد لروما، بصياغة عدوِّ تحتاجه الامبراطورية. إذا لم يكن العدو موجوداً، فينبغي صناعته أو انتقاؤه وتسميته عدواً… روبرت كاغان الأميركي، كتب إبان الخلاف بين واشنطن وباريس الأوروبية حول الحرب على العراق ما يلي: «العدو موجود في مكان ما، وعلينا أن نكتشفه ونضربه قبل أن يبدي عداءه». العالم يشبه الغابة، وعلينا أن نجد العدو في هذه الغابة قبل أن يبادر. أوروبا لا تفعل ذلك اليوم، لأنها ضعيفة، تنتظر العدوان لتواجهه. نحن نقوم بإشهاره قبل أن يشهر مسدسه.
فتش بوليب عن أعداء لروما فوجدهم: «إنهم البرابرة». ومن هم هؤلاء البرابرة وأين هم؟ إن أعداء روما هم الذين دمرتهم روما، وأحالتهم من حال المدنية إلى حال الهمجية والبربرية. الشعوب المسحوقـة هـي المؤهـلة لأن تتـبربر. قرطاجـة نموذجاً. وعليه، فإن من واجب روما، مهمة إعادة صياغة قرطاجة جديدة، وعالم جـديد، من خلال تعميم ثقافتها وحضارتها وتلقينها لغة المنتصر. عندها تطمئن روما إلى نصرها النهائي: كل العالم يشبهها.
هكذا، أضحى الركام البربري الذي صنعته روما، هو العدو الجديد، ويفترض التعامل مع بربريته من خلال تدريبه على أن يكون «حضارياً» بثياب رومانية.
للحضارات، كلها بلا استثناء، وجوه إنسانية راقية وصفحات بربرية مخيفة. للحداثة المعاصرة، بربرياتها الخاصة (الفاشية، النازية، الستالينية، الاستعمار، الإبادة، المحرقة، إبادة الأرمن، تقسيم سوريا، الخ). فالبربرية ليست اختصاص شعب أو دين أو ثقافة أو أرومة أو جنس. هي المشترك المؤكد بين الحضارات والشعوب.
المشـرق العربـي تحديـداً، اختـير ليكـون عدواً، بعيد الانتصار على الامبراطورية العثمانية. العرب، حاولوا أن يأخذوا من الغرب ما يناسبهم من قيم وحضارة وعلم وثقافة وأدب، لكنهم نالوا منه أنماط العداء.
قال الغرب لنا: أنتم أعداء. ولقد صرنا كذلك. شوّهونا فتشوّهنا. وبلغنا مرتبة في البربرية متفوقة، كان آخر فصولها، «داعش» و«النصرة» وحركات التكفير، بعدما تناوبت علينا أنظمة متوحشة بربرية، حماها الغرب الأبيض، فتحوّلنا إلى ممارسة خنوع وطاعة ومذلة، انفجرت في لحظة غير مؤاتية، فتحول المشرق إلى ساحة يتقاتل فيها البرابرة، والضحايا من الأبرياء.
لا أكتب ذلك لتبرئة «داعش» و«النصرة» والسواد الأعظم من التكفيريين السود، بل لوضع البربرية في نصابها وامتداداتها ومن يشبهها، وذلك لمعرفة كيفية مواجهتها والانتصار عليها، بغير أدواتها الشيطانية، ومن خارج منظومة فكرها الديني الأصولي المتزمت، وبعيداً عن نبوءتها التكفيرية وعقوباتها السائدة فتكاً وقتلاً وجزاً وإبادة.
بفارق وحيد، أن البربرية التي تجتاحنا في المشرق، ترتكب الإثـم الحضـاري التـاريخي، بأدوات قتل بائـدة وأساليـب تدمـير «غير حضارية». لسنا برابرة ولكن البربرية حولنا وفينا، كما كانت عند غيرنا.
II ـ أنت بربري.. وأنا كذلك؟
لا يولد الإنسان بربرياً، لكن البربرية من صنعه. براءته طبيعة فيه، توحشه إضافة منه على بشريته. قابليته للعنف رد فعل على قسوة طبيعة أو ظلم بيئة أو عذاب حرمان أو خطر أحداث. يصير العنف مرادفاً لحق البقاء وشرعية الوجود. من دونه يُسحق الإنسان ويدمّر… التناقض الرهيب يقع بين حق الإنسان في الحياة وشرعيّة إقصاء الخطر عنه بالقتل دفاعاً عن حقه الأولي في الحياة.
الحياة والموت، العنف والسلام، الحقد والمحبة، الظالم والمظلوم، المستبد والضحية، القاتل والمقتول، الإنسان والبربري، بعض من ثنائيات تأسست عليها أنماط حضارات متعددة. لا حضارة من دون عنف يسود ودمار يعمم. هل كان «اللفياتان» هو الأساس؟ نسأل هوبس عن ذلك.
كان بورتاليس قد أكد منذ عصور، أن تعارض الحضارة والبربرية ينهار عندما تصبح البربرية متداخلة مع الحـضارة، عندمـا تصـبح اللاإنسـانية في قلب الإنسـان. وفي مقالـة لألكسندر نجـار شـهادة على ذلك من خلال اقتباس لـ«ريفارول»: «الشعوب الأكثر حضارة قريبون جداً من البربرية، كالحديد المصقول القريب من الصدأ. الشعوب كالمعادن، ما يلمع هو السطح». ما دون السطح، مهدد بالصدأ.
لسنا وحدنا برابرة القرن الحادي والعشرين. البربرية هي الثدي الآخر الذي رضعت منه البشرية. لا يذكر التاريخ أن شعباً عاش بلا أعداء، أو أن شعباً لم يعرف عداوات في ما بينه. الأسباب تكاد تتقارب: الظلم. الاستعباد. الاعتداء. الاختلاف. الثأر. المصالح والجشع والعقائد.
حصتنا من البربرية غالبة راهنا. حصتنا من البشاعة فائقة الكلفة، باهظة العذاب، مثيرة للذهول والغضب… وأكثر من ذلك، مفزعة بأسئلتها، وأبرز الأسئلة، «أفي هذا الزمن، تعود هذه الأنماط البائدة من البربرية، مع التكفير الديني والمذهبي؟». من المتعارف عليه، أن للبربرية وجوهاً عديدة، ولدينا الوجه الأكثر هلعاً، في زمن وعصر، باتت فيه حركات العنف أكثر فتكاً، ولكن بأساليب مموّهة بإيديولوجيات وعقائد ذات أصباغ إنسانية؟ هل هذه عودة الدين أم العودة إلى تسليح الدين بأدوات إبادة للروح عبر (تأبيد النصوص).
III ـ البرابرة الجدد.. من زمان
عشية بلوغ القرن التاسع عشر نهايته، حملت البشرية، وتحديداً في الغرب، آمالاً عريضة بقرن سلام. النفوس البشرية تواقة للسلام، الظروف الميدانية شغالة في تأهيل العالم بالحروب. ذهبت الأحلام سدى. القرن العشرون، أطلق عليه، قرن الحروب الكبرى، غير المسبوقة في التاريخ البشري. حربان عالميتان وحروب أخرى ومجازر وإبادات، بأسلحة تتطور لتكون أكثر قتلاً وأشد بربرية، بتقنيات نظيفة. في القرن العشرين، تم تدشين دخول المدنيين بكثرة في لائحة القتلى. قبل هذا القرن، كان المدنيون بعيدين عن تداعيات الحرب تقريباً. الحرب كانت تخاض بين جنود في جبهات القتال.
القرن العشرون كان أكثر القرون توحشاً، وأكثر القرون تقدماً وحضارة وحداثة و«إنسانية». حروب الجيوش أصابت الشعوب بربرية قرن للقتل الجماعي. فيه تحول الإنسان العادي إلى هدف عسكري.
يتذكر المؤرخون قصف طوكيو من قبل الطائرات الأميركية في 10 آذار 1945، بلغ عدد القتلى 84 ألفاً. أي أكثر من قتل في هيروشيما ونكازاكي. أكثر من مليون إنساني تم تهجيرهم في الاتحاد السوفياتي، لاعتبارهم شعوباً مضادة، شعوباً من جواسيس وبلطجية.
يكتب مارك مازويير، أستاذ التاريخ في جامـعة بيربك البريطانية ما يلي: «منذ وقت غير قصير، كان يظن أن الحداثة كانت مرادفاً للرخاء والاستقرار والهناء. وعندما كان علماء الاجتـماع يحـاولون شـرح بعض ظواهر العنف السياسي السابقة لعصرنا، كان لديهم ميل إلى اعتبار ذلك انه مرحلي ويمهد لانتقال المجتمع من حال إلى حال… الباحثون اليوم، في القرن العشرين، قرن المجازر الجماعية الدامية، التي لم يسبقها مثيل في التاريخ، (إبادة، محارق، تهجير) يعتبرون أن العصر هو عصر البربرية الأخلاقية».
بالأرقام، كلفت الحربان العالميتان العالم 70 مليون إنسان. أكثرهم في أوروبا، صاحبة الريادة الحضارية الحديثة وريادة التوحش المعمم. أما ضحايا الحروب المختلفة التي اندلعت في القرن العشرين، فقد بلغ 187 مليون ضحية، 130 مليون إنسان قتلوا في حروب الاستقلال وإنهاء الاستعمار.
القرن العشرون، هو قرن تطبيق الحروب البربرية. أو ممارسة إرهاب الدولة على نطاق شامل.
الحرب لا مفر منها والبربرية تصاحب التقدم كما تصاحب حركات التخلف. ما لدينا من بربريات راهنة وفتاكة، عدوة للمستقبل وغير قادرة على استعادة الماضي أو ترميمه. ستكون فصلاً من فصول العبثية الدموية، حيث لا ينتصر إلا البوم، ولا يرث الأرض غير مشوّهي الحروب ومشوّهي الأخلاق.
المشرق العربي، ومعظم مغـربه، في خطر حقيقي، ليس بسبب ما يصاب به الحاضر، بل بمقدار ما يصاب به الإنسان من مرض لا شفاء منه. عندها، يصبح مرشحاً ليكون محتلاً. ويكون بوليب على حق، عندما يكون على المنتصر الخارجي، حق إعادة تأهيل الشعوب المدمرة، لتصبح قادرة على العيش بسلام موقت.
انه قانون البربرية.. ولقد جاء دورنا، بأدوات منا ومن بنية ثقافتنا ومن استبداد لم يرحم أحداً. هذا القانون البشري، كتب عنه أندريه فونين في «لوموند» في 11 تشرين الثاني عام 1980، ما يلي: «بين العام 1496 ق.م، والعام 1861 ميلادية، عرفت البشرية سلاماً لمدة 270 عاماً فقط، فيما عاشت 14542 حرباً لفترة 3130 سنة، بمعدل 13 سنة حرب مقابل سنة سلام. وعاشت البشرية ما بين العام 1945 حتى الحرب العراقية ـ الإيرانية (1980) 127 نزاعاً مسلحاً».
حصتنا من التاريخ، حروب الآخرين عندنا وعلينا، وحروبنا أيضاً. وحظنا في القرن العشرين، أننا أنتجنا أبشع بربرية، ولا أحد يعرف نهايتها، أو نهايتنا.
لم تكتشف البشرية بعد، لإقامة السلام والدفاع عنه، غير ممارسة الحرب. هذا هو التناقض الهدام، لبناء السلام.
نصري الصايغ – السفير
مقال اكثر من رائع ومعبر وصادق.. وهو تصديق لقول الملائكة في الآية الكريمة: قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء.. صدق الله العظيم