"بلّو واقعد بظلّو"….قول يجسّد الظلم والظلام وضنك العيش

تاريخ النشر: 30/06/12 | 7:30

التقيته في حانوت لبيع الخضروات، كان طالبا في المدرسة الثانوية التي أدرتها، صافحني بحرارة وقال لي: أستاذ… هل تعرفني…؟ طبعاﹰ أعرفك جيّداﹰ، أنت وليد..أليس كذلك؟! قال: بلى.. وأحييّك على ذاكرتك.. وكيف حالك؟ سألني: الحمد لله.. أجبته…

ومضت لحظات صمت امتدت إلى بضع ثوان ليقول لي: أتابع ما تكتبه في الصحافة وفي المواقع، وأنا معجب بما تكتبه عن التراث والعادات التي بادت وبالأمثال والأقوال… ولدّي سؤال يلّح علي، يزعجني ويقلقني أريد له حلاﹰ سمعته من صاحب مهنة ولا اعرف معناه بالضبط… وما هو هذا القول يا ترى؟ّ

انه “بلّو واقعد بظلّو” قاله لي فنّي أدوات كهربائية عندما ضجر مني ومن أسئلتي وأنت تعرفني أنني “كثير وقشة وكثير حكي” والقصة وما فيها: أنني توجهت إلى فنّي أدوات كهربائية ومعي جهاز كهربائي أصابه عطب… وبدأ الفني بمعالجة هذا الجهاز وقد جلست على كرسي بجانبه أراقب حركاته ودفعني حب استطلاعي بل قل فضولي الاستفسار عن كل خطوة خطاها في فحص الجهاز، فكان أن تضايق من تصرفي هذا فتوقف عن الفحص ونظر إلي نظرة غضب وقال لي: “حل عنّي.. خذ جهازك ومع السلامة… بعتني بغله، أنت زي اللّي بلّو واقعد بظلّو، مالكش لا شغلة ولا عملة الله معك” انصرفت ويظّل هذا القول يلاحقني ولا اعرف كنهه ومعناه ما قصته؟ّ وهل تعرف تاريخه ومعناه؟!!

قلت: بلّو “أي بللّه أو أغسله بالماء والصابون إذا وجد الصابون واقعد بظلّو، أي تظلّل به، أي أنشره على حبل الغسيل أو على الشجرة وأبق مقيما ﹰعنده أو بقربه حتى يجف ثم ارتديه والحديث عن لباس المرء، الثوب، الفستان، القميص، القمباز، القفطان، العباءة، الدشداشه وحتى السروال… ويبقى المرء تحت ظل رداءه ولا يغادره حتى يجف وذلك عندما يكون هذا الرداء هو الرداء الوحيد الذي يمتلكه ويرتديه… هذا القول المتداول له تاريخ طويل وعريق في القدم أيام عانى شعبنا ومعه شعوب كثيرة العبودية والضنك والقهر والفقر من قبل المحتلين والمستعمرين كأيام حكم الدولة العليّة العثمانية لنا ولغيرنا وأيام الانتداب البريطاني، انه قول يجسّد حقبة زمنية طويلة قاتمة من حياة شعبنا، انه يصوّر حالة اجتماعية في غاية التعاسة واليؤس مركزها الفقر المدقع والأميّة، الأمراض والأوبئة المتفشية بين الناس ناهيك عن ضائقة المسكن وشحّ الملبس… باختصار أيام بؤس وشقاء وضنك عيش وقلّة في الوارد وفاقة قاتلة… آنذاك قلّة ضئيلة نعمت بالحياة ممثلة في الإقطاعيين أصحاب الأراضي أما السّواد الأعظم من الشعب، فقد عمل في الأرض لدى هؤلاء الإقطاعيين بما يشبه السخرة، وكان يسمّى العامل منهم “قطروزا” والقطروز في اللغة التركية، خادم أرض بل عبد للسيد يعمل على مدار السنة في الأرض مقابل اجر سنوي زهيد لا يتعدى بضعة أكياس من الحبوب وبعض البقوليات والقطانيات والقليل من زيت الزيتون، هذه هي المؤونة التي يسّد بها “القطروز” رمق أفراد العائلة أما الأثاث والملابس والكماليات فليس لها وجود وليست مدونّة في قواميسهم ومصطلحاتهم. ولحالة البؤس والشقاء والفقر التي عاشها العباد ، كان لباس هذا القوم، من الذكور والإناث على الغالب، قطعة واحدة ندر أن تجد لها أخت أو زميلة إلا من رحم الله، كان يضطر معها صاحبها المكوث بالقرب منها عند غسلها وحتى تجف ثم يرتديها، وهكذا دواليك… فكانوا يقولون “بلّو واقعد بظلّو” أي لا تغادره حتى يجّف ، والرداء وما أدراك ما الرداء ، فكان الله في عونه من كثرة ما احتمل من رقع كانت تزينه بأحجامها وألوانها المختلفة لطول وكثرة استعمال هذا الرداء ، وفي حالات كثيرة وصل الأمر بهذا الرداء إلى حالة الخلق وذلك لعدم توفر البديل وحينها لا ينفع معه الترقيع… هكذا كان حال الناس غالبية أيام حكم العثمانيين لبلادنا والذي استمر أربعة قرون كاملة، ولم يكن حالنا بأفضل منه أيام الانتداب البريطاني في سيّىء الذكر والبغيض.

بقلم: الأستاذ حسني بيادسة

‫2 تعليقات

  1. حيياك الله أستاذ. هذه وثيقة أخرى تسرد جانباً من حياة الفلاح الفلسطيني وشقائه، دمت ذخراً
    لنا.

  2. بارك الله بك استاذ حسني ،أدامك الله ذخراً لهذا الوطن،
    ومنك دائماً نستفيد .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة