قصة في طي النسيان
تاريخ النشر: 12/11/14 | 15:38من ذاكرتنا المنكوبة- قصة حقيقية رواها جدي بلغته الفلسطينية الاصيلة فدونتها علها تكون جزء من ذاكرتنا التي باتت طي النسيان.
كان يلهو كأي من الاطفال.. يعبث ببضع اكوام من الحجارة في عرف اجدادنا سميت (سنسلة) غير آبه بما قد يباغته من حشرات سامة او حيوانات ضارية… لكن ظلم البشر وشرهم كان اقوى من ارادته فقد باغتته اصوات الرصاصات تنطلق بلا رحمة تلاحق البشر والشجر..وحين حانت منه التفاتة كان افواج من البشر يهرولون يحملون ما تيسر من الثياب والمتاع ويرحلون..قد هجروا دون سابق انذار..وقتل منهم الكثير بدم بارد… اما هو فقد تسمر في مكانه هنيهة الى ان استوعب الحدث الجلل!!!..وحينها بحث عن اهله بين الجموع وانضم اليهم في رحلة الهجرة القسرية التي كانت اقسى ما يكون حسب وصفه…!
ولكن ما لم يكن في الحسبان قد حدث !! فما ان اقترب الجمع من الحدود التي تفصل بين الوطن والشتات …بين الارض والمهجر…حتى حدث ما غيّر مصير اكثر من مئة وثلاثين شخصا… فحين اقتربوا من الحدود وكادوا يتخطوها توقف ذاك الغلام للحظة نظر فيها خلفه نظرات طويلة..ثم نظر امامه بحيرة ولم يطل وقوفه فقد قرر العودة!!! نعم العودة ولكن هذه المرة بمفرده تاركا اهله الذين فروا هربا من الموت..لم يدر ما الذي فكر به وجعله يعود وحده- هكذا قال حين حكى حكايته. وقد كانت طريق عودته طويلة مخيفة ورغم ذلك تابع السير..سار في ظلام دامس حيث لا ضوء ينير له الطريق الا القمر… وليته ما كان!! فقد كانت اللحظات التي يضاء بها القمر هي لحظات كاشفة عن جثث بشرية صادفها في طريق العودة الموحش..تلك الجثث التي مر عنها اهلها وذووها دون ان يستطيعوا حتى دفنها… قصة وكأنها الخيال سردها امامنا وقد فغرنا افواهنا مشدوهين بما يقول!!
وفيض من الاسئلة يخترق عقولنا..
كيف لطفل ان يختار العودة؟ كيف له ان يمتلك هذه الشجاعة التي جعلته ينأى عن الرحيل..
كيف له ان يرى ويسمع كل هذه الاحداث المرعبة ولا يمضي هربا من هذا الواقع!!!!؟؟
حين بحث عنه اهله كان قد اختفى عن الانظار وكانت رجلاه الصغيرتان تدوسان وطنه في طريقهما الى الاستيطان والتجذر في قلبه لا الى الهروب والانسلاخ عنه كما فعل ذووه وكثير ممن هجروا عنوة!!!
كانت رجلاه تغوصان في الارض كلما تقدم فيشعر بانتمائه لهذا الوطن اكثر… ولكن احدى خطواته غاصت اكثر مما يجب -كما وصف .فما ان سار بضع خطوات الى الامام حتى اكتشف ان قدميه قد داستا جثة لم يدر وقتها اهي جثة بشرية ام انها لاحدى الحيوانات …ما عرفه عندها فقط هو ان رائحتها مريعة وقد لازمت رجليه ونعله فترة طويلة …فحاول ان يغمس رجليه بالتراب علها تتطهر من الرائحة الا انها لم تفارقه…فدب الرعب في فؤاده !! ورغم ذلك تابع سيره وسط الظلام الى ان وصل الى قرية الدالية التي اصبحت فيما بعد ملاذه الدائم وموطنه ومسقط رؤوس اولاده..وفيها اقام اسرته وبدأ نسله يتكاثر..ليتحول من ذاك الطفل الشريد الوحيد الى رجل ذو اسم عريق في دالية الكرمل انه محمد علي فحماوي (ابو عاهد)…
انه جدي..ابن قرية ام الزينات المهجرة ذاك الذي هُجّر الا انه ابى وفضّل المكوث في وطنه…عاد ليقدم للوطن اكثر من مئة وثلاثين فردا هم من سلالته..وهم ورثة هذه الارض ..هم الذين تجذروا فيها بفضله..ولم يمروا كما مر العابرون!!!
بقلم الكاتبة والمربية: اسراء محاميد