إستسهال الكتابة أم إسهالها ؟
تاريخ النشر: 17/11/14 | 6:25عنوان مستفز وفاقد لكل أصول “الصواب” وأعراف الآداب ، لكن جرأته وصراحته هي مايشكل نواته اللذيذة بلذة النص ومتعة القراءة معا. ومما لاشك فيه أيضا أن هذا العنوان “المر” مرارة شجرة الدفلى الجميلة سوف يجعلنا نعيد عقارب الكتابة من جديد إلى سؤالها القديم : لماذا نكتب ؟ كما سيدفعنا إلى البحث من جهة أخرى في فعل الكتابة كظاهرة وسلوك باتولوجي عند فئة قليلة من الكتاب إذا مانقلنا النص (المريض) على حد قول القاص المغربي با إدريس (الدص) الخوري في مجموعته القصصية (يوسفه في بطن أمه ) أقول إذا ما نقلنا هذا النص المريض إلى سريرمقابلات وتحاليل علم النفس كما نظر لها سجموند فرويد وأحفاده من بعده .
أما الإسهال في علاقته بالكتابة فلأنه حالة مرضية عضوية تجعل المريض يفقد على إثره السيطرة على كوابح أحشائه إلى درجة أنه يتمنى السكن في “بيت الراحة” على أن يعيش بين رحلات مكوكية ، مقلقة ومهرولة بين كرسي الكتابة وكرسي المرحاض …
يقينا أن الكاتب الحقيقي ماهو إلا بشرمثلنا… قادته ديكتاتورية القدر إلى الكتابة وأينعه مشتل المجتمع وحملته رياح الثقافة وصدمته يقظة الوعي واصطفته نواميس الوجود وطوحته به ألاعيب النسبية إلى الكتابة … بمعنى أن كل مواطن هوكاتب مفترض إلى حين أن يمارس عادة الكتابة عن طريق الصدع بالقلم بما يأمره به فكره وعقله وأحاسيسه ولعل أجلى مايأمربه أساسا هوكشف المستورعن الثقوب السوداء في الذوات الإجتماعية واختلالاتها وأيضا قرع أجراس التنبيه والتحذيرلمن يهمهم الأمرعن تردي أوضاع واستقرارالشأن العام …
والكاتب أيضا هوصانع أحلام ومخترع البدائل ومبدع التوازنات التي قد تنجي السفينة المجتمع من تايتانيك محتمل … وأخيرا وقبل كل هذا وذاك فالكاتب إنسان كاد أن يكون رسولا ، لايخشى في قول كلمة الحق لومة لائم حين يخشى المتسلقون والمتزلفون والمهرولون النبس بها حفاظا على أرصدتهم في متع الحياة العابرة…
يبدو مما سلف أن التعبيرالأدبي والتواصل عبرالكتابة يظل إذن ضرورة ثابتة وحاجة وجودية أساسية للفرد وللمجتمع على حد سواء ، لاتختلف عن الأكل والنوم والترفيه والصحة والعمل ، وهي أيضا ــ الكتابة ــ مكون أساسي في منظومة الهوية الوطنية وعنصرفاعل في إثراء الرأسمال اللامادي للوطن .
والكتاب في وطننا العزيزمرجعيات وأمزجة واتجاهات متباينة في مختلف سيرهم الفكرية والإيديولوجية والأدبية … فيهم الأقمارالرصينة ، الساطعة التي تسري في العلياء بهمسها البليغ والحكيم .. هم كتاب ينثرون ورودهم في طريقنا ويعلنون عن ذررأفكارهم الوازنة التي لايعلوعليها النفط والغازمرتبة ثم ينصرفون بوقارتاركين من خلفهم آثارأنوارهم وتنويرهم لنا ولأحفادنا للسيرعلى نهجها …
وهناك في الضفة الأخرى من بحرالكتابة بعض الكتاب السيكوباتيين وهم لحسن حظ الأدب ولطف الأقدارالثقافية قلة قليلة جدا .. إنهم أولئك الذين يطلعون بغتة على سطح فنجان قهوتك كل صباح مثل ذبابة سيئة الحظ ، وبات حضورهم كل يوم لايختلف عن (البوانتاج) اليومي للموظفين القابعين في حضيض السلالم الدنيا .. هؤلاء ليسوا صحفيين ولاإعلاميين في جرائدنا اليومية ، المقاومة و”المقاتلة” من أجل البحث بالريق اللناشف عن المعلومة والقبض عليها مثل القبض على الجمرمن أجل تقديمها طاجزة للقراء مع نسمة كل فجر جديد … بل إن هؤلاء هم كتاب وماهم بكتاب ، يمتهنون الكتابة من أجل الكتابة ليس إلا.. مثل من يمارس عادة الأكل من أجل الأكل وليس من أجل العيش والإنتاج ومثل من يمارس عادة الثرثرة من أجل الثرثرة وليس أجل كلام ينم عن رصانة ومسؤولية فكر … بعضهم هؤلاء الكتاب صارمثل قادوس معطوب يفيض في الشارع العام بالليل والنهارمن دون أن تهتم به مصلحة النقد ومن دون أن يعي هذا القادوس أن عليه أن يبحث عن مكمن ثقوب التسربات (ليفويت) في نصه المريض بدل الإعتداد بثرثراته اليومية التي لن تسعف لا الثقافة ولا الفكر في الخروج من أزمة التكراروالإحباط العام .
عبده حقي