قصيدة وشاعر
تاريخ النشر: 17/11/14 | 13:20رحل عنا في 14/11/1995 شاعر فلسطيني من الرعيل الأول، هو أحمد طاهر يونس. وبمناسبة ذكرى وفاته أعيد لكم نشر قصيدة كتبها وتحليلي لها. وكنت نشرت المادة في كتابي “قصيدة وشاعر- قراءات في الشعر المحلي”. نابلس: دار الفاروق- 1996، ص 152- 159.
********
نعي الشيخوخة
أحمد طاهر يونس
…………………………….
…كنت أقرأ في الجزء الخامس عشر من معجم الأدباء لياقوت:
كبرت وجاء الشيب والضعف والبلى
وكل امرئ يبكي إذا عاش ما عشت
أقول وقد جاوزت تسعين حِجَّة
كأن لم أكن فيها وليدا وقد كنت
وأنكرت لما أن مضى جُلّ قوتي
وتزداد ضعفًا قوتي كلما زدتُ
كأني إذا أسرعتُ في المشي واقف
لقرب خطا ما مسها قِصرًا وَقتُ
وصرت أخاف الشيء كان يخافني
أُعد من الموتى لضعفي وما متُّ
وأسهر من برد الشتاء ولينه
وإن كنت بين القوم في مجلس نمتُ
……
فأضفت على هذه القصيدة ما يلي:
…….
يخوضون في شتى الأحاديث ناظرًا
إليهم، حزينًا، ناب عن سمعي الصمت
لئن ضحكوا لم أدر ماذا أثارهم
كفى حَزَنًا أني إلى هذه صرت
أعود إلى الماضي، فلم أرَ أنني
بيوم من الأيام عن مبدئي حدت
وأسأل نفسي هل عن الفضل أحجمت
وهل حاولت ترنو إلى غير ما شئت
أولئك آبائي وأعلام مجدنا
لعلي بما شاؤوا لأحفادهم قمت
فيا هذه الدنيا أراك سخيفة
وما فيك إلا الحزن والهم والمقت
إذا غاب نجمي فيك لست بآسفٍ
فيا ليت مذ عامين عن عالمي غِبْتُ
لكل امرئ بعد التأني نهاية
يعود ترابًا لا يصيف ولا يشتو
فيا رب لطفًا بي إذا الشمس كُوّرت
فلم أك إلا مؤمنًا زانه السمت
فإن لم (أغالي) في العبادة والتقى
فإني عن الآثام يا خالقي تبت
على قدر ما أوفيتني العزم والحجا
لأجيالنا قيما يعززها همت
لئن جاء يومي وانطوت صفحة الأسى
فأهلا به يومًا إلى مصدري أُبت
ولا تحزنوا يا معشر الأهل إنني
سئمت حياة في تفهمها حِرت
عزائي بأني مـُحصَن في عروبتي
وفي البِيض من أيامها الغر آمنت
(مجلة المواكب، عدد 3-4/ 1994، ص82)
………..
قراءة في القصيدة
………
طالع الشاعر قصيدة قديمة هي للشاعر الأثرم (علي بن المغيرة المتوفى سنة 232هـ) فاستجاشته هذه، لما فيها من مشابهة حاله بحاله، فلم يقل شاعرنا المعاصر: “فعارضت” وإنما قال “فأضفت” وبالطبع فإن في المعارضة محاولة المجاراة والتفوق على المعنى بمعنى مستجدّ، لكنه هنا ليس في معرض معارضة، بل في معرض التبنّي والتقدير والتمثل. وعندما يصل الشاعر إلى تبني شعر غيره فهو يحترم شاعريته أولاً وقبلاً. وهذا الفرزدق لم يجد ما رثى به زوجه أفضل مما رثى به جرير، فينشد الفرزدق من شعر خصمه بالأمس: “لولا الحياء لهاجني استعبار…”
وإذا كان الأثرم قد أتى بمعانٍ إنسانية صادقة، وذلك في وصفه: “كأني إذا أسرعت في المشي واقف” أو “وصرت أخاف الشيء كان يخافني” أو “أُعدّ من الموتى لضعفي وما مت” أو ” كأن لم أكن فيها وليدًا” أو “إن كنت بين القوم في مجلس نمتُ”.
فإننا نلاحظ أن شاعرنا أحمد يتعمق في أداء هذه الصفات بصدق الشاعرية والعفوية… فالقوم يخوضون في أحاديث شتى، وهو يرنو إليهم بحزن، لأنه لا يشاركهم، ولأن الصمت ينوب عن سماعه… هم يضحكون ولا يدري ماذا أثارهم… وهذه ذروة الأسى… يعود إلى الماضي (وهذه سمة لاصقة في الشيوخ) يرى أنه مازال سائرًا على مبادئه.. في درب الفضل… معتزًا بالآباء والأجداد الأمجاد، وبكونه حفيدًا لهم. إنه لا يأسف على النهاية، فالدنيا ليس فيها إلا العنت… فلماذا لم يمت قبل سنتين بعد أن لاقت زوجه لبيبة وجه ربها…
إذن ليقبل على النهاية… فهو مؤمن زانه السّمت والهيئة… وصحيح أنه لم يفرط في العبادة والتقوى، ولكنه يعترف أنه تاب عن كل مأثمة، فالتائب عن الذنب كمن لا ذنب له.
إنه يهيم بما يحقق للأجيال حجى وسجايا وعزيمة… إذن فمرحبًا بهذا اليوم الذي سيمضي فيه، لأنه سيعود إلى الأصل والجوهر. وأنتم أيها الأهل والأحبة- لا تهنوا ولا تحزنوا، فقد سئمت تكاليف هذه الحياة التي حرت فيها وعييت عن تفهمها. ويبقى لي عزاء أنني محصن وأصيل في عروبتي، وفي تاريخ أمتي بصفحاته الغراء.
الشاعر في هذه القصيدة يمتح من معين الأدب القديم والتراث، لذا فيصح أن نعتبره من أنصار مدرسة الإحياء، فعندما يقول الشاعر: “أولئك آبائي” يستحضر في ذهنه قول الفرزدق:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
وفي قوله: “على قدر ما أوفيتني العزم والحجا” فيه عودة إلى قول المتنبي- “على قدر أهل العزم تأتي العزائم”، وكما لا يخفى فإن في قوله “سئمت حياة” تذكير بقول زهير:
“سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولاً – لا أبا لك – يسأم
أو قول لبيد:
ولقد سئمت الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس “كيف لبيد؟”
وعندما يقول الشاعر:
“وفي البيض من أيامها الغر آمنت” يذكرنا بما وصف السموءل فيه أيام قبيلِه:
وأيامنا مشهورة في عدونا
لها غرر معلومة وحجول.
ونجد في قصيدة الشاعر ما أفاد منه من مطالعاته ومستمعاته، فعندما يقول : “فيا هذه الدنيا” فإنما يستعمل قالبًا مرددًا:
فيا هذه الدنيا أطلي واسمعي
صوت الأعادي جاء يبغي مصرعي
وعندما يقول الشاعر:
فإن لم أغال…..في العبادة والتقى
فإني عن الآثام يا خالقي تبت
يذكرنا بعمر الخيام وما ترجمه أحمد رامي:
إن لم أكن أخلصت في طاعتك
فإنني أطمع في رحمتك
وإنما يشفع لي أنني
قد عشت لا أشرك في وحدتك
وهذا التأثير الخيامي انعكس كذلك في حيرته وعجزه عن فهم سر الحياة، فهذا عمر الخيام حائر حتى في ساعة موته:
لبست ثوب العيش لم أُستشَر
وحرت فيه بين شتى الفكر
وسوف أنضو الثوب عني ولم
أدرك لماذا جئت أين المفر؟!
وشعراء التراث عادة ينهلون من القرآن يستقون منه الصورة والعبارة، فهذا شاعرنا يستعمل ألفاظ. الحَزَن، غياب النجم أو أفوله، فيا رب لطفًا و “يخوضون” …بل يستعمل تعبيرًا أو جزءًا من آية:
فيا رب لطفًا إذا الشمس كوّرت” فتكوير الشمس يتم يوم القيامة عندما تنكس الشمس أو تكسف، ولكنه يعتبر هذا التكوير يوم وداعه للدنيا، فشمسه هو تلك التي كوّرت، وفي هذي معنى بلاغي فيه مبالغة.
*****
وتبقى في القصيدة هَنات لغوية، وبعضها طباعية، ومنها: فإن لم أغالي ويجب تصويبها “لم أغال”، أو أبالغ- و “دون الإخلال بالوزن، وفي أصل القصيدة” لأجيالنا فيما يعززها همت” وقد ارتأيت أن تكون” يعززها” ولا أدري ماذا كانت في الأصل.
وأنا لا أفضل الوصف في قوله: “فيا هذه الدنيا أراك سخيفة” ولو تسنى لي- مع أني أنا الذي اقترحت عليه موضوع القصيدة – لجعلتها” عزيزة:
فيا هذه الدنيا أراك عزيزة
وما فيك إلا الحزن والهمّ والمقت
ذلك لأنه كان يعز الدنيا، ويحبها رغم كل المشاق، فالحياة جميلة ورائعة وعزيزة… وهو يعتبر نفسه استمرارًا للتاريخ وللعظمة، حفيدًا له دور ومكانة… متعشقًا لعروبته، لهذا كان عزاؤه بأنه محصن في عروبته، وهذا المعنى ورد في القصيدة الأولى من ديوانه “هجير وظلال”:
ضعوا علم العروبة فوق رأسي
إذا انسدلت على الدنيا جفوني
ليبقى في رفاتي مستقرًا
أنيسًا فهو معتقدي وديني
تعشقت العروبة لا أبالي
فكم أذكت مآسيها شجوني
إذن حياته ليست إلا عزيزة، ولها معنى، ولها وظيفة، ولها محبة.
ولعل سائلاً يسأل: ولماذا تمنى الشاعر أن تكون نهايته قبل سنتين؟
والجواب كما يبدو لي سجّله في قصيدته التي رثى فيها زوجه، وهي بعنوان “من واجبات الوفاء”، يقول فيها:
لقد بت لا أخشى المنايا إذا سطت
أما طفحت بالمذهلات حقائبي
سأبقى مع الذكرى حزينًا ملوعًا
إلى أن يسيروا خلف نعشي أقاربي
وتبكي بُنيّاتـي دموعًا عزيزة
علي وأحفادي وحشد النوادب
(المواكب عدد 11-12،ص58).
وفي هذه الأبيات- كما في القصيدة التي وقفنا عليها- صدق وانسيابية، يعمد إليهما من خلال ما يعايشه ويحس به، فلا يتكلف موقفًا أو صورة مغرقة في إبهام، فهو في موقف يستلزم الصدق مع الذات أولاً، ومع الناس ثانيًا، ومع الشعر ثالثًا.
بقلم:ب.فاروق المواسي