“نبضات ضمير” للكاتبة عدلة شداد خشيبون
تاريخ النشر: 17/11/14 | 23:06عرفت الكاتبة قبل سنين، ايام دراستنا في جامعة بئر السبع، وربطت بيننا اواصر الصداقة والقرب الفكري في كثير من المواضيع والمواقف. وها هي اليوم تطل علينا من جديد من خلال كتابها الاول “نبضات قلب”. بودي اولا ان احييها على عطائها وعلى أخذها الوقت لتبوح بمشاعرها وبأفكارها كتابة وهي الام والزوجة والمربية، وعلى شجاعتها في نشر هذه الافكار والخواطر ضمن كتاب، آمل ان لا يكون الأخير.
يقع الكتاب في 120 صفحة متوسطة الحجم وهو صادر عن دار الوسط اليوم للإعلام والنشر – رام الله. قدم له الاستاذ يوسف ناصر وعلقت عليه السيدة دينا سليم حنحن – استراليا. والكتاب يضم 73 مقطوعة، غالبيتها العظمى نثرية.
لغة الكتاب عالية جدا وقد اكثرت فيه الكاتبة من الوصف الجميل. فها هنا وريقات صفراء تعاند أغصانا تود أن تتعرى” وهناك نجدها تلتحف موج البحر،تتسربل همسات النورس” وتفيدنا بأن “ليس للحلم أذرع لكنه يعرف اصول العناق. وللسجع وللمحسنات اللفظية مكان في النص فأحزانها الحانها وهي تربط ما بين الجنين والحنين وبين القلق والأرق وما بين الاشواق والأشواك. وفي مواقف ابداعية تقرر، مكابرة، أن بكاءها ليس سوى تَجَمُّلْ “فبعض العيون في البكاء أجمل” وترسم صورة ديناميكية للأنا المتغير دوما “انا لست انا كل يوم”.
وهي ايضا تستثمر مخزونها المعلوماتي العلمي والديني والتراثي لتضفي على النص نكهة “تربوية” فالمأساة هي “أكسجين أوراقنا الدامعة” وللتراب والهواء صفات رائعة، فهذا يتداخل بذاك، يتلوث الواحد، والآخر يتجدد ولعل اجملها التشبيه “لواقعنا واقع آخر في الاحلام. لكل محطة، هناك محطة اخرى تقابلها في المساحة، تعاكسها في الانتظار وهدفه” والتي تناظر قانون نيوتن الثاني :”لكل فعل رد فعل، مساو له بالمقدار ومعاكس بالاتجاه”.
والدين الذي توظفه الكاتبة ليس من المذهب الذي تتبعه، المسيحي، لوحده. فهي بين الحين والآخر تصلي “أبانا” وغيرها من الصلوات، تعود لتقرأ المزامير، لكنها تستقي ايضا من الديانة الاسلامية “فالظلم مرتعه وخيم” و “لكم ساعتكم ولي ساعتي” و “انه من المخجل ان اتعثر بالحجر نفسه مرتين” وألم يقل الله في كتابه العزيز: “اصبروا فان الله مع الصابرين”؟
كذلك هي تفعل مع التراث، ف “هذا البغض من ذاك الاسى …” والتي تأتي مشابهة للمثل: هذا الشبل من ذاك الاسد. كما تستعمل الرمزية في بعض المواضع فتكثر من استعمال الطبيعة، بفصولها ومعالمها خاصة فصلي الخريف والربيع، وتوظفها في بعض الصور الفكرية التي تتأرجح ما بين التشاؤم والتفاؤل والتي سنقف عندها لاحقا. كذلك تستعمل الكاتبة القليل من السخرية والاسلوب التهكمي فنجد لديها “ديموقراطية بنكهة كرباج معلق على مشجب هوائي .. يلف اعناقنا، فإما أن …. وإلّا ….” و”هنيئا لمن فاز بخسارة، ولمن خسر بفوز ساحق”.
أما من ناحية المضمون فمواضيع الكتاب تتمركز حول علاقات الكاتبة الانسانية، كاخت، ابنة، أم، مرأة وهي تعبر عنها باسلوب جميل ينم عن صدق عاطفي نادر وبأساليب ابداعية متنوعة. فبخصوص المرأة الواعية التي تمثلها عدلة نجدها تقرر بأن المرأة كالورد فهي بغير حاجة لأن توزع عليها الورود، هي المرأة “التي لديها ما تقول” والتي لا تنحني، بل تنحني لها كل البطاقات” واقواها واكثرها وضوحا حين ترفض سيادة الرجل اذ تقول “فلا أنت سيدي، ولا أنا أمَتُكَ” ودعوتها للأخريات الى رفض الواقع المفروض على جمهور النساء بندائها: لنكن كما نريد أن نكون.
أما نظرتها للواقع، الخاص والعام، فجلها التشاؤم والالم. وهي تعبر عنهما بتنوع في النص والاسلوب. فالشوك يدمي يديها ” فبات الجوري احمر” وحقل الذكريات يبكي” ولا تخلو بعض المقاطع من ذكر الافاعي والعقارب، “أفاعٍ …….. صخرة صماء ……. بقلب ذلئب وكبد حرّى …. أفعى كبيرة ..” وجيوش اليأس تحاصرها، وفتاة الطهارة تُنْدَبْ ولخوفها لسان يحذر بقدوم اعاصير …. والحكاية جافة، رائحنها حزينة، تصيبها بزكام شديد.
وبالاضافة لذلك، فهي تصرح انها في ضائقة نفسية، “نفسي الضالة في ازقة الزمكان …” تقوم بوصفها من خلال نصوص متعددة فتتطرق لشعور الخوف الذي يسيطر عليها “…أخاف على طائرتي من تحليق بلا هبوط” وعدم الامان، “أبحث عن زاوية آمنة .. في عالم تكثر فيه الافاعي .. وتبرعم أغصان الحقد”. فهي اذا تخاف الموت والاختناق، تخاف من برد الغربة، ومن الكآبة وهذا ما يطرد النوم عن عينيها ويطيل ليلها، “يهرب النوم من الخائفين، يطول ليل العاجزين”.
إلا أن اسوأ شعور لديها هو الشعور بالوحدة، فهي وحيدة حتى في ساعات تكون بها محاطة بأقربائها وأصدقائها “فأنا معكم ولست بينكم” والذي اجد به تعبيرا عن شعور الاغتراب المعنوي، وربما قصدت: فأنا بينكم ولست معكم؟” وهي توضح ان هذا اقسى شعور تعاني منه: “اكثر قسوة تلك اللحظات، التي يكون حولك آلاف البشر، ورغم ذلك، قاسية وموحشة وحدتك تكون”. وتتفاقم الازمات النفسية والمخاوف لتبدو ” واضحة في كسر قلمي الرصاص من شدة الالم”، والى ما يشبه الوحدة الكلية-المطلقة “فلم أرَ غير ذاتي في المرآة، ولا يظهر وزن غيري على ميزاني”.
لو توقفت الامور عند هذا الوصف وهذه الأفكار، لظننا اننا امام حالة ميؤوس منها، لكن عندها ما كانت الكاتبة ستكون عدلة. فعدلة، رغم كل هذه الحالات التي تصف بها شخصيات كتابها لم تستسلم، “انا لم ارفع شعار الاستسلام بعد. لأن النجم في داخلي، ما زال ينير هذه البؤرات المظلمة” وهي تحتاط للامر فتلبس قبعة “تقي هذا الرأس من عقارب الافكار السامة وأفاعي النوايا السيئة”.
نحن اذا امام انتقال من وضع قاتم اسود، ضيق وسيء الى اقصى حدود السوء، ومع ذلك، فالامل لا يفارق اديبتنا. فها هي تنادي: “أيها الامل الغافي على كتف حرية الضمير! حان وقتك لتنهضَ” وتتساءل “أوليست الشمس تعطي دفئها … رغم احتجابها خلف الغيوم؟”. ولأن “وراء كل خريف … ربيع يبتسم ” نجدها تستعد للمقاومة، “انتعلت جرأة الجندي، بثقة أرز لبنان” وتبدأ تكرز للثورة: “تمردي يا عواصف” وليبدأ “تمرد الذات” و”اعلان العصيان”، عندها “انتفضت سمكة من قاع البحر” وأخذت تحلم بعالم بلا حدود، لها فيه حرية الطيور المهاجرة، دونما حاجة لجواز سفر او نقاط تفتيش.
وهي كمرأة ترفض نظرة المجتمع اليها، “لا تتفاوضوا علي بمزاد علني … وتدعون الوطنية … فلي عيون تراكم ….” رفضا واعيا وتحث اخواتها النساء على عدم التنازل عن احلامهن: “لا تؤجلي حلمك .. فالاحلام المؤجلة بالمرصاد، يقف لها واقع أليم “. وتحثهن ايضا على عدم الخوف: “انتزعي عنك كل خوف”، وينقطع عنها الشعور بالوحدة، “ولست وحدي .. بهذا تعزيتي ولهذا ثورتي” وها هي تنطلق “من كل احزاني …. سأكلل نفسي بالثقة، وأتبرج بتاج الحرية ..” “مقودي سيكون التفاؤل، سأجوب العالم بفكري الحر” .
لكن ليتم لها ذلك لا بد من الانسلاخ عن الماضي، لا بد من التحرر من قبضته وهو ما تتمه حين توجب “حرق الذكريات” وتمني نفسها ب “التجدد مع قدوم الربيع”. الآن اصبحنا امام عدلة أخرى، متحفزة، تشتاق لغربة مأهولة بسكان لا يفهمون الا البسمة، تضيء شمعات عديدة، “ثم اشعلت شمعة حب، لكل قريب وبعيد جعلت قلبي يتوهج محبة”، وهذه الثورة هي صرخة من نوع جديد، ليست ككل الثورات، “كان دوي آخر، دوي انثى متمسكة بانوثتها”، انثى نادمة على مواقفها السابقة من قبولها لسيادة الرجل وتقييدات المجتمع، “ولست نادمة .. إلّا على يوم صمت أبله”.
هذه النقلة بالوعي تغير نظرتها الى الأمور وفجأة، تستقيم انعطافات الطريق، وشروق الشمس لن يأتي بحسب برامج المجتمع الزمنية، “سيخالف عقارب ساعاتهم” وهي تنبه الجميع أنه حتى الرماد لا يزال يحتفظ بالذكريات “كيف سيعرفون ان في الرماد، ما زالت جمرة ملتهبة، ان لم يكشفوا من فوقها الرماد؟”، وكيف سيعرفون “أن في التراب بذرة حية؟ فهي اذا تحث المجتمع على التعمق في البحث وازالة العوائق من امام المرأة، تلك التي تحد من طموحاتها وتطورها، فاللؤلؤ لا يوجد ابدا على سطح الماء، والعسل الشافي لا يأتي الا من الشمع الاسود.
وهكذا نجدها تصف لنا انسانة جديدة ، صامدة، مناضلة، ترفع راية النصر ابدا، وتصرح مؤكدة: “سنعود قريبا، اجل سنعود، وبأيدينا سعف النخيل واغصان الزيتون، سنزينها لاطفالنا وسيطوفون شوارع المدينة مهللين”. مع هذه الثورة وكنتيجة حتمية لها تصرح الكاتبة يأنها ستحقق هدفها: “سألقاه، سألقاه”.
ومما يلفت النظر أيضا لدى اديبتنا هو انسانيتها التي تعبر عنها في عدة مواضع فهي تسعى لحرية الذات وصفاء الضمير، وتضامنها مع الفقراء والكادحين “حيث عزف الفقير معزوفة الشوق .. لحلم رغيف بزيت وزعتر” وهي تصل لبيت أرملة تصب الزيت في القدر وتدعي خفوت النار علَّ اطفالها ينامون وأملهم في القِدْرِ كبير”. عدا ذلك تستلهم الكاتبة من شخصية السيد المسيح اسلوبه المسالم فهو لم يأت كفارس محارب يسفك الدماء. كما ينفطر قلبها لاخبار موت الآخرين، خاصة الشهداء، “لولا قلب ذاك الرجل الذي قطع قلبي، بعد ان فقد عائلته بكاملها” وهي تدعو ام الشهيد ان تتبنى سائر الشباب، “لأنك أم وقلب أم تملكين” وتتمنى للبشر ان يتغيروا “علهم يصومون عن سفك الدماء ويعلنون حربا على الحرب، يتقاسمون اللقمة مع الفقير المحتاج، ويفرحون قلوب الصغار”
مما لا شك فيه، اننا بهذه القراءة لم نستوف الكتاب حقه تماما، فهناك مواضيع تركناها للقراء الاعزاء ليستمتعوا باكتشافها بأنفسهم عند قراءتهم للكتاب، وهي ما نوصي به
بقلم د. حسام مصالجة