خطابُ السماء وفارسٌ أزرق!
تاريخ النشر: 11/07/12 | 2:58أسرة منتدى الحوار الثقافي في مركز تراث البادية- عسفيا أقامت ندوتها في الاسبوع الماضي ، وقدمت تحية ندّية فتية وفيّة من مخاض بئر المبدعين الشباب المتدفقة، وناقشت المجموعتين الشعريتين للشاعرة سماهر نجار بعنوان “خطاب السماء في المساء”، ومجموعة الشاعر نسيم الأسدي بعنوان “الحبّ حصان وأنا فارس أزرق”، وقد استهلّ اللقاء الشاعر رشدي الماضي بكلمة ترحيبيّة جاء فيها:
قبّرة ونورس يُبحر كلٌّ منهما في قاربه، ليبحث له عن مرفأ في مدينة الإبداع القلقة، هما يعرفان أن تأسيس وجودهما لا يتأتّى إلاّ باللغة، فاللغة ملكة تمتلك الإنسان لأنّها هي الوطن، وحتى الوحي وسيط الأنبياء هو كذلك لغة، وحين تأكّدت شاعرتنا سماهر نجار ونسيم الأسدي أنّه لا تفكير بدون لغة، دخلا راضيَيْن إلى معبد القصيدة ابنة أرحب الفنون وابنة الشعر، دخلا بعد تفاعل مع الزمن من الجرح إلى الجرح، لأنّ سماهر ونسيم عرفا أنّ “الوجود والبقاء يبدآ من الضفة الأخرى من اليأس” كما قال فيلسوفنا سارتر.
جلسا وقد حمل كلٌّ منهما فيضه التلقائيّ للمشاعر إلى طاولة الشعر، للإمساك بكلّ لحظة مخاض ولو كانت عابرة، ولكنّهما حرصا ألاّ يأخذا كلّ غمام الكلام حتى لا يُعاتَبا على الجفاف، ألم يقل شوقي: “أنتم الناس أيّها الشعراء”؟
شاعرتي سماهر وشاعري نسيم.. اتركا نصوصكما تجيء قلقة، لأنّ سماءَنا لمّا تزل غائمة، وبذور المعاناة لم تنضج حتى تزهر ينابيع جديدة، تحرّشا بالحروف لتفتيقها وبعثرتها على الورق مصابيح تضيء ظلمة المجهول، لكن بعيدًا عن الجهد السيزيفيّ وقمّته المستحيلة، ولأنّي واثق أنّكما تحلمان بعالم سعيد آخر، أَعِدّا ما تيسّر من ضوء سراج الكلمة، ومَوِّنا ما استطعتما زيتًا وطحينا وأعواد ثقاب، ولا تريا أمر ترميم خرائب زمن الأوحال بعيدًا، ولو طال سعيكما في ظلام النفق، ولو مشيتما على زجاجه المتكسّر، فغدًا ستعود وتشرق شمس الصباح.
وكانت مداخلة نوعيّة عن إبداعات الشباب للشاعر الدكتور فهد أبو خضرة وعن الشعر الحديث وما بعد الحداثة.
أمّا في مداخلة د. منير توما: الحبّ الرومانسي الراقي عند نسيم عاطف الأسدي فجاء:
لقد استمتعت في قراءة الديوان الشعريّ “الحبُّ حصانٌ وأنا فارس أزرق” لنسيم الأسدي، حيث لمست فيه الرومانسيّة الراقية من خلال كلمات الحب الدافئة حينا، والعاطفة الغلاّبة حينًا آخر، وقد كان إعجابنا وتعاطفنا مع قصائد هذا الديوان نابعًا، من أنّ موضوع الحبّ الحقيقيّ ليس هو آلام الشخص الذي يتعذّب بنيران الحبّ، بل هو تلك القيم الإيجابيّة الباطنيّة في أعماق الشخص، الذي يبثّ لواعج قلبه ومكنونات صدره من عاطفة جيّاشة وشعور بالتسامي، والبُعد عن الابتذال وعن السطحيّة الظاهريّة، إلى علاقة عميقة باطنيّة على نحو ما يفعل الحبّ.
إنّ الغزل والحبّ عند نسيم الأسدي استحضارٌ تصويريّ للمحبوب في شتى مظاهره وشتّى آيات فتنته، يعرض له في تأنّ وتأمّل واستمتاع فنيّ في الرسم والإخراج الجماليّ لفظًا ومعنى، فالمحبوب في نظر شاعرنا هو مجرّد شرارة تولد نار الحبّ، لكن لا تلبث هذه النار أن تورث نفسها بنفسها، ففي ص 10 اِرحلي عنّي:
اِرحلي عنّي/ إلى ما وراء الحياة/ لعلّه هناك/ بإحدى زوايا الآخرة/ ركن ضئيل/ للحبّ الميّت بالإكراه/ في فسحات الجنة/ أو فسحات النار/ ما همّني/ ما همّك/ فقد تعوّدنا مِن قبل/ أن نُكوى بالنار.
ومن الملاحظ في هذه القصيدة وفي هذا المقطع بالذات، أنّ حبّ شاعرنا يدخل في إطار الحبّ الرومانتيكيّ، الذي يقترن دائمًا بمعاني النار والاحتراق والاكتواء والتلظّي والتألّم والجراح والعذاب والشقاء والموت إلخ، وأسلوب نسيم الأسدي أسلوب الرقّة والعذوبة والسلاسة البعيدة عن التعقيد والجهد، هو أسلوب الموسيقا اللفظيّة الليّنة الجرس، التي تترقرق في صفاءٍ مِن خلال موسيقاها الخارجيّة والداخليّة في آنٍ واحد.. “غدًا إذا عنّي رحلتِ ص 14:
غدًا إذا عنّي رحلتِ/ قولي أين ستذهبين/ تبقيْن لو مات الزمان حبيبتي/ فأنا جموحك/ وأنا قيودك يا سجينتي/ والسجين.
إنّ شاعرنا هو شاعر العاطفة الناعمة، يتجلّى فيه وفي كلماته اللّين في الطبع، والعذوبة في الحديث والرقة في القلب، والمحبّة في معاملة المحبوب، واللطافة في المعشر. “تألّقي ص 21”:
تألّقي/ واحملي عمري ما بين ضلوعك/ فبيني وبين الحبّ موعدٌ ولقاء/ واحملي أسري إلى عينيْك الحكم/ كيف صرتِ في عاميْن فقط/ سجّانتي ومليكتي/ وحمامتي البيضاء.
في قصيدة تألّقي نكاد نستشعر النغمة الصوفيّة الرائعة، فشاعرنا هنا ينتقل من جَمال إلى جَمال، حتّى ينتهي في خاتمة المطاف إلى رؤية الجَمال الكلّيّ الثابت، وكلّ ذلك بلغة مجازيّة استعاريّة واضحة المعالم شفّافة المعاني. ص 22- 23:
تألّقي لأنّني أهواكِ/ لأنّكِ/ أنتِ الغروب وأنا البحر/ وكلانا لا حياة له دون سواه/ دون الإله/ الذي يزرع الشمس عند الغروب/ في بحر النجاة/ تألّقي/ ظَلّي هنا حولي/ ظَلّي تحتي/ ظلّي فوقي/ يا امرأةً في صدرها سرّ الموت/ وسرّ الحياة.
في هذه السطور الشعريّة يُجسّد شاعرنا الجَمال الأزليّ المُطلق، الذي هو الغاية القصوى لكلّ مِن الفكر والعاطفة، وبهذا فإنّ الحبّ لدى نسيم الأسدي هو الرغبة في اقتناء الخير بصفة مستديمة، أو هو النزوع نحو امتلاك الجميل امتلاكًا أبديًّا خالدًا، من خلال تكريس ذاته للمحبوبة التي تطغى على حياته باستمرار. ويتماهى نسيم الأسدي مع تعريف سقراط للحبّ، بأنّه “ولادة في الجميل بدَنًا وروحًا”، وذلك حين يقول في قصيدة “أحبُّك يا كلّ الدنيا” ص 155:
يومٌ يمرُّ وبعده.. يومٌ يمرّ/ وجَمالُكِ الخفّاق ينبض بالقدر/ إن كان حبّك يا جميلة قاتلي/ فالموت عذبٌ لا جنون ولا خطر.
وهنا يبرز نسيم الأسدي بأنّه شاعر ذو خيال خلاّق، يخلق الصورة بعيدة الإيحاء، ويسكب فيها من نفسه ما يستهوي القلوب، وفي المقطوعة التالية من قصيدة “أحبّك جدًّا” ص 35 ما يؤكّد ذلك:
أحبُّك جدًّا/ وعندي كلام وحلم عتيق/ وشوق بكلّ الثواني يفيق/ احبّكِ جدًّا/ وعندي جنون وعندي عهود/ وأُدركُ أنّكِ أنتِ الأرض/ وأنت المنفى/ وأنت الحدود.
إن لغة نسيم الأسدي في الحبّ تستلهم النفس النزاريّ في دنيا المرأة والغزل والحبّ، فنزار قبّاني له لغته الخاصّة كما نعرف، ونسيم الأسدي يستوحي في بعض قصائده معاني فريدة أخّاذة تفيض بالروح النزاريّة، حين يعزف على أوتار العاطفة البشريّة كما يتّضح من قصيدة “يكفيني مِن كلّ الدنيا” ص 43 وهو يقول:
يكفيني من كلّ الدنيا/ أن تسكن في قلبي امرأة/ اسكنها وتكون الدنيا/ يكفيني من كلّ الدنيا/ أن يزهر في قلبي حرف/ ونجوم العالم ترعاه/ أن يُزهر في قلبي شعر/ شمس وهلال شفتاه/ ويسافر في ليلة حبّ/ لامرأة تسكن في قلبي/ لامرأة هي كلّ الدنيا
والنصّ التالي من قصيدة “علّمَني حبّك” ص 58 خير مثال على ما قلناه بهذا الصدد:
علّمَني حبّك ألاّ أكون زير نساء/ وأن لا أسمح لأيّة أنثى/ في فسحات قصوري يومًا/ أن تتمختر/
ونعود مرّة أخرى إلى قصيدة “يكفيني من كلّ ادنيا”، حيث نرى هناك أنّ شاعرنا يؤمن بأنّ حياة الحبّ إنّما تقوم على الامتزاج والانغماس والاتحاد التامّ، أي فناء الحبّ في المحبوب، وها نحن نسمعه يقول في ص 44-45:
يكفيني من كلّ الدنيا/ أن أحرق كلّ لغات الكون/ وأسرق من زمني لحظة/ لأذوب بصدرك سيّدتي/ وأعشّش داخل هذا الحصن/ يكفيني من كلّ الدنيا/ أن تبقَيْ يا سيّدة الشرق/ سيّدتي في هذي الدنيا
ومِن اللافت في قصائد هذا الديوان أنّ شاعرنا يوحي بأنّ الحبّ قيمة القيم، وأنّ القِيم الأخرى لا تقوم بذاتها، وأمّا الحبّ فهو القيمة الوحيدة التي تقوم بذاتها، أو هو الشيء الوحيد الذي لا يترك لمن يملكه شيئًا آخر يرغب فيه، فطوبى لشاعرنا الذي أحبّ، وعرف عندما أحبّ كيف يولد لدى غيره الحبّ، وكيف يستشفّ فيمن حوله بذور الطيبة والخير، فإنّ الكائن العميق لهو في حاجة دائمًا إلى أن يصدق ويحبّ، حتى يظهر ويتجلّى، والحبّ هو الذي يكتشف بذور الخير والجمال في كلّ مخلوق، حتّى أنّه يستحيل إلى شعلة متوهّجة من النور والنار، والنار تحرق ما تلامسه، ولكنّها أيضًا تضيء كلّ ما حولها، وليس كالحبّ ايضًا نار تصقل النفوس وتصهر القلوب، فإنّ المُحبّين لَيعرفون أنّ الحبّ هو الذي يُطهّر معدن النفس، والأبيات الثلاثة التي اخترتها من قصيدة “نقّل فؤادك” ص 57، تختزل هذه المعاني والدلالات الخاصّة بمفهوم الحبّ عند شاعرنا:
ليس الغرام تكلّفا وتصنُّعا/ بل موعدًا زاد القلوب لهيبا/ واسمعْ لقلبك ما يقول فإنّه/ قولٌ صحيحٌ يحْسن التصويبا/ مَن عاش دهرًا دون نبض محبّة/ فكأنّما عاش الحياة غريبا
وهكذا يكون شاعرنا الفارس الأزرق قد اعتلى صهوة حصانه المتمثّل بالحبّ، الذي شكّل محورًا تدور حوله قصائد الديوان الذي تناولناها بالدراسة والتعقيب، فكانت هذه القصائد سهلة واضحة ناصعة ومشرقة، فيها انطلاق وحرّية، حافلة بالحياة والرونق، كاملة الملامح رائعة الإيحاء دون تفجّر عاطفيّ عنيف، مملوءة بشغف الجَمال والحبّ الرقيق الرفيق، حيث كانت العاطفة تنساب من نفس شاعرنا انسيابًا يُحييه الأمل والشوق، فالحبّ عنده عذوبة وشفافيّة نفسيّة تطلّ من العينيْن، ولهفة كيانيّة تفيض بها المشاعر، وهو إلى ذلك بعيد عن صخب الفحش وعن شرَهِ الإباحة، بعيد عن الدنس وعن المهاوي التي تُجرّد الإنسان من إنسانيّته وتغلب فيه النزعات الدنيا، فلشاعرنا نسيم عاطف الأسدي أصدق التحيّات وأطيب التمنيّات بدوام التوفيق، والمزيد من الإبداع والعطاء.
وفي مداخلة د. بطرس دلة حول الديوان الشعريّ “خطاب السماء في المساء” لسماهر نجّار جاء:
لست أدري لماذ كان يجب أن تخاطب شاعرتنا السماء ولماذا في المساء؟ هل هي محاولة لكتابة السجع والانتهاء بالهمزة في الحاليْن، أم هي شكوى إنسانيّة تعتقد أنّ السماء قد ظلمتها؟ هل تعتقد أنّ الله سوف يتفرّغ لسماع شكواها في ساعات المساء، بسبب انشغاله في تسيير أمور الكون في ساعات النهار أم ..؟
عندما قرأت هذا الديوان ثارت لديّ تساؤلات كثيرة، وذلك لأنّ شاعرتنا سماهر نجّار تكتب بشكل صريح، وأسلوب تغلب عليه البساطة أكثر من اللغة الفنّيّة، من هنا قراءة نصوص هذا الديوان جاءت سريعة وخالية تقريبًا من كلّ نصّ مُعقّد، وهي إذا تريد أن تهدي ديوانها هذا لأحد الناس، فإنّها لم تجد أوْلى مِن والديْها لتهديهما نصوص هذا الديوان، مع أنّ ما يغلب على قصائده هو شعر الغزل ومناجاة الحبيب، لولا انّ ذكاءَها جعلها تُشير إلى الغزل بالحبيب في إحدى قصائدها، ولكنّها في اللحظة الأخيرة تحوّلت إلى حب الأمّ الحنون، وما كتبته كان ظاهره للحبيب، فتركته لتُكرّسه لأمّها التي تعتبرها أهمّ من حبيبها، مع أنّها تعاني من غياب الحبيب كما يظهر في نصوص معظم قصائدها، والحبيب هنا قد يعني الحبيب الحقيقيّ، وقد يعني أيّة فتاة أخرى فاتها قطار الزواج. إنّها تحترق هنا وتحترق كلماتها وشفتاها شوقًا ولوعة، وكان حلمها وترًا في معزوفة رقص غجريّة، وتجري أنوثتها جريان التاريخ، فلا تغويها الدموع ولا أيّة قصيدة فوق الوسادة، فإذا كانت أرضها قصيدة حبّ وعاشقها يتسلّل خفية، فيلقي لها قبلة خاطفة ويعانق جسدها، إلاّ أنّها لا ترتوي لأنّ فصل الصيف قد ارتشف القطرات التي تسيل من ضفيرة جدّتها، فنبضاتها لا ترتوي إلاّ مِن اختناق الشمس عندما تلتقيه في عناق طويل طويل.
هذا الديوان عبارة عن رسالة حبّ وشوق وتفجّر وتمزّق وتفجّر لشهوات مكبوتة، تعاني منها شاعرتنا أو أيّ من صديقاتها أو معارفها من الفتيات، اللواتي أرهقهنّ غياب فتى الأحلام وقد طال الانتظار، هذا مع أنّ شاعرتنا متزوّجة ولها أبناء، إلاّ أنّها قد لا تعني بكلّ هذا الحبّ وكلّ هذه الأشواق ذاتها، بل قد تعني أيّة فتاة أو تتخيّل أنّها تعيش هذا الجو من الحرمان، فتصبو إلى قرب الحبيب وإلى عناق الذي يروي ظمأ القلوب، إذن؛ إنّه الخيال الجامح الذي يلعب بمخيلة الشاعرة بشكل متطرّف، فيبدو ما تختلقه جميلاً ومُشوّقًا ومُثيرًا للغرائز في آنٍ واحد.
يذكر القارئ قصّة الشاعر الروسيّ الذي أصدر ديوان شعر، ذكر فيه حبّه وتعلّقه بفتاة أحلامه، ولم يذكر شيئًا عن الآخرين من عمّال وفلاّحين وكادحين، ولمّا أهداها إلى ستالين قائلا: طالما أن موضوع هذا الديوان خاصًّا بصديقة الشاعر فقط، إذن؛ كان عليه أن يطبع منه نسخة واحدة يُهديها إلى صديقته، وليبقَ سِرّ العلاقة مع فتاة أحلامه مستورا، لأنّ العلاقات بين الزوجين في الرباط المقدس يجب ان تكون مستورة ومخفيّة عن عيون الناس، وإلاّ أصبحنا بهائميّين في علاقاتنا العاطفيّة.
لكن هذا لا يعني أنّ الديوان ليست له قيمة، بل بالعكس من ذلك، فالديوان يحتوي قصائد جميلة فيها الشيء الجيد ودقة التعابير، ولكن لم أجد فيها تلهّفها على قضيّة الإنسان الفلسطينيّ، ولا ما تعانيه الشاعرة وزميلاتها العربيّات، ما عدا إلم غياب المحبوب ومعاناتها منه، ولهفتها على الوصال مع فتى الأحلام، ومع أنّه لا عيب في أن تحبّ كلّ فتاة شخصًا ما، إلا أنّه بدون الزواج تصبح العلاقة علاقة زنا بين الحبيبيْن، وهذا يتعارض مع القيم السائدة والتي تتحكّم في مصائرنا حتى اليوم.
“خطاب السماء في المساء”.. من أين جاءت تسمية هذا الديوان؟ هذه القصيدة ص 18 قد تكون التسمية مشتقة بشكل عفويّ، ومِن تلاعب بالحروف وترتيبها، وقد تكون التسمية لأنّ الأخت سماهر رأت أنّ خطاب المساء أكثر قبولاً، لأنّه يسبق النوم بالأحلام الذهبيّة، لذلك نجدها تتوقف قبل أن تصل درجة ذروة الحبّ الحقيقيّة، بل تكتفي بالحبّ المُحدّق بالعيون.
إنّها تكتب ما تكتب بنشوة خاصّة، وهي تشعر أنّها محاطة بالعيون الناعسات فتنتفض، ومع أنّ الشاعرة تعكس الآية في قولها: “أرتوي من غياب الدمع من ضياع الحلم”، ونحن نعرف إذا ما ضاع الحلم كثرت الدموع حزنًا على ضياع الحلم، إلاّ أنّها عكست الآية، لأنّ لديها دموعًا في ضياع الحلم. المُهمّ أنّ الشاعرة تذوب عشقًا في هذه القصيدة، والعشق يُلوّعها حتى احتراق القمر، فلماذا تحترق وما زال في قنديل حياتها زيت كثير، وقد تندم فيما بعد لأنّها تستسلم ليد القدر؟
في هذا هروب من مسؤوليّات الحياة ومن مشاكل الحياة، ولكن بشكل يُبرّر ضعفها، لماذا لم تواجه الشاعرة المجتمع الكابت والعنيف، وتقول كما قال نزار قباني في قصيدته “رسالة إلى رجل ما”:
واصِل.. تدخينك يُغريني/ رجل في لحظة تدخين/ ما أشهى تبغك والدنيا/ تستقبل اوّل تشرين والقهوة والصحف الكسلى/ ورؤى وحطام فناجين/ دخّن لا أروع من رجل تنضم أصابعه ويُغنيني/ من غير جبين/ أشعِلْ واحدة أخرى/ أشعِلْها من جمر عيوني/ فشرقكم يا سيدي/ يُصادر الأحلام من خزائن الفساد/ يصادر الرسائل الزرقاء/ يمارس الحجْر على عواطف النساء/ ويذبح الربيع والأشواق والضفائر السوداء/ وشرقكم يا سيدي العزيز/ يصنع تاج الشرف الرفيع من جماجم النساء
في القصيدة الثانية “أتعاطى الحبّ” تُصرّح الشاعرة أنّها تتعاطى الحبّ في كلّ مكان! فما معنى ذلك؟ هل تتعاطاه عندما تكون في السوق؟ في المعبد؟ في المدرسة؟ أم في الاماكن العموميّة وما إلى ذلك؟ بينما الآخرون يتعاطون الرذيلة والفساد، وتتعاطى شاعرتنا الإيمان بينما يكفر الآخرون، كذلك تتعاطى العنفوان في مدرستها الصغيرة، صحيح أنّ العنفوان يتعاطاها، إلا أنّها تختلف عن الأخريات، في أنّها لا تخاف من التصريح بهذا، بينما يمارس الآخرون حرّيّتهم بغباء.
هذا الإصرار على تعاطي الحبّ، والتصريح الجريء عن الاستعداد والإعلان عن تعاطي الحبّ في كلّ مكان، معناه أن تنفلت في المشاعر لدرجة الخزي، لذلك نجدها تتوقّف قبل أن تصل إلى درجة ذروة الحبّ الحقيقيّة.
في قصيدتها “لن نقدر” تتحدث الشاعرة عن عود الندى، فهل هناك عود للندى؟ أعتقد انّها قصدت عود الندّ، فالندّ مأخوذ عن الفارسيّة، وهو عود يتبخّر به عند الفرس من أجل تعطير الجوّ، وفي هذه القصيدة تُمْعِن الشاعرة في الغيبيّة كقولها ص 24:
تدنو من أشلاء الرواية المختبئة/ تتهدّل الاوتار دمعًا ودما/ تفيض رائحة الغياب في أرضٍ تروي القصّة
أمّا قصيدتها “الرقص” ص 38-39 فتحلّق الشاعرة مع كلّ نوتة موسيقيّة، ومع كلّ هزّة خصر ومع كلّ إيقاع ساحر، لأنّه حتى الملائكة يختصّون بالعزف عند الرقص، فكيف بالصبايا العذارى عندما تلتف أيدي الشباب الجميلين على خصور العذارى، ويبدأ الرقص والإيقاع؟!
إنّه وصف جميل للعلاقات الإنسانيّة التي تجمع الجنسيْن، تجمع الشباب بالصبايا من اجل التعارف أوّلاً، ثمّ من أجل تمتين علاقات الحبّ بين الفريقيْن، وذلك من اجل بناء الحياة الزوجيّة بين الشباب والشابات، وهنا تحلّق الشاعرة بعيدًا في جوّ الرقص والراقصين والراقصات، فتُعرّف الرقص بلغة ساحرة جميلة بقولها ص 39:
الرقص هو التقاء الأنفاس/ ولقاء الرؤى/ بين العين والعين/ دعوة الحبّ للجسد/ عند اشتعال الدفء/ فوقه روح القمر/ وبقربه وهج النهار/ وحدقة القلب والعبث
جميل جدًّا هذا الوصف، لأن الشاعرة هنا تنقل بالكلمات أحاسيس عندما ترقص بنشوة الحبّ، فاللقاء بالحبيب في حلقة الرقص يُلهب المشاعر عند اشتعال الدفء في قلبَي المُحبّيْن، لذلك فالموسيقا التي هي غذاء الروح، تنتقل مع الرقص كي تعود الآلهة وترقص مع البشر، وأنا اعتقد انّ عشق الفتاة الشاعرة ليس عشقها وحدها، ولكن عشق الدنيا كلّها، ورسائلها إلى حبيبها مكتوبة إلى رجال العالم العاشقين، خاصّة عندما تكون الفتاة شهيّة كالعسل صافية كالماس ومذهلة كليلة القدر، فالشاعرة تؤكّد في مطلع القصيدة ذاتها قصيدة الرقص ص 38: حين يحاور الجسد/ الموسيقا تعزف الملائكة”.
وتعود الشاعرة في قصيدة “غفوة” تعيش لوعة الهوى والحقيقة زمن الانتظار، ومن التأمّل والشهوة، ومن الرقص والعزف، امّا العشق فعلى الرغم من كلّ الشوق والمتعة الجسديّة، فهو يعشق الذات لروحها، فأيّ عشق هذا؟ إنّه عشق الحرمان، لأنّ الحبيب لم يأتِ بعد، فغاب كلّ الجَمال واللهفة ودفء اليد وروعة ألحان الهوى، وهكذا تعيش شاعرتنا حالات من اليأس والإحباط، فتتمرّس أنوثتها بالخجل حتى تتهاوى خطواتها في غفوة، وتفقد عندئذ كلّ شيء، وحتى الحلم الذي كانت تتمنّاه، كلّ هذا يذهب في غفوة.
قصيدة الشوق: هذه القصيدة هي بيت القصيد في هذا الديوان، فالقصيدة تبدو لأوّل وهلة قصيدة عاشق ولهان ومتيّم بلوعة الشوق، لا بل يثقله الشوق إلى لقاء الحبيب ولمسة شفاه، فكيف نفسّر هذه اللمسة، إنّها قبلة خجولة يطبعها الحبيب على شفة الحبيبة، والاستعارة هنا واضحة، حيث استعمل كلمة الشفاه بدلاً من كلمة قبلة، وفي هذا كثير من الجَمال.
الوطن قد رحل دون قصيدة، وبعد ان ارخت شعرها عزفت ما توهّج عن كثب ملء الدمع وملء العين، فماذا يعني الشوق لشاعرتنا، إنّه شوق إلى حضن ولحن ونغم، إنّه الشوق إلى المقلتيْن عندما يكون المشتاق أسيرًا بين القضبان، وذلك عندما يرتطم الدم في عيون شاعرتنا، فينادي حضن المحبوب وعذاب الأفق في عيني فتى الأحلام، وهنا تأتي المفاجأة، فبينما تسترسل شاعرتنا في وصف الشوق والحنين إلى مَن تحبّ، يتّضح لنا في آخر كلمة أنّ شوقها وألحانها وحنينها هو لحبيبة القلب الأمّ، فأيّ غزل رقيق هذا، وأيّ عشق كبير لهذه الأمّ، وهذا الانعكاس من محبة لفتى أحلامها في الظاهر إلى محبّة الأمّ في النهاية، فيه الكثير من الذكاء والتلاعب بمشاعر القارئ، وذلك لا يمكن أن يأتي إلا من شاعر ذكيّ وعبقريّ، يُجيد الكلمات وتوجيهها في كلّ اتجاه، والمُهمّ عندها في هذه الحالة بلوغ الهدف، الا وهو دخول قلب القارئ أو المستمع الذي انساقت عواطفه، وتمشي مع الشاعرة نحو شوقها وكما ترغب.
هذه أنا: في هذه القصيدة يشتعل شوق الشاعرة إلى الحبيب وقبلاته، وهي توظّف طيور أيلول المهاجرة كمرسال لها إلى قلب الحبيب، وإذ تبعث إليه بالدمعة أوّلاً، فلأنّها حزينة على بعده وهجرانه، وتبعث إليه القبل وتنتظر قبلاته، وترجو طيور أيلول أن تنقل له مدى لهفتها وانتظارها لعودته، وأنّها سوف تكون بانتظار عودة هذه الطيور، وسوف تسجّل عدد القبلات التي بعثها لها الحبيب مع هذه الطيور.
أما في قصيدتها “شوق” فتبدو أكثر صراحة، فتنطلق وبحُرّيّة حيث تناجي الحبيب بقولها: “قل لي كلمة لم تنطق بها الحروف/ قصيدة لم يقلها شاعر/ فلن أنسى أنّي أحببتك وأحببت الحبّ بك”
هكذا إذن تعزف شاعرتنا اجمل موسيقا وأعذب ألحان ولكن بالكلمات، حيث تعيد اناشيد الحبّ والأمل وتطلب عشق الحبيب، وهو أمر مشروع، فأيّ حبيب هذا الذي لم يترك للشاعرة سوى بسمة ورسالة، فأين من جمال الذكريات الأخرى؟
إنّ الإمعان في قراءة قصائد هذا الديوان يثير لدى القارئ العاديّ الشيء الكثير من الشوق والشبق لمَن يحبّ، هذه الإثارة لا تأتي إلا إذا كان الشاعر أو الشاعرة على مستوى فنّيّ، يعرف كيف يتلاعب بالكلمات ولأيّ هدف يريد. وفي نهاية الديوان نجد أنّ الشاعرة تبعث إلى ابنها وابنتها بوصيّة، تدعو كليهما إلى أن يلتزما بالحبّ وعشق الحب، هذه هي وصيّتها التي خلصت بها لإنهاء ديوان الحبّ والعشق هذا، ولو شئنا أن نُعرّف هذا الديوان لقلنا، إنّه رسالة حبّ وشوق ولوعة ودعوة إلى الحبيب كي يأتي، فالانتظار صعب، وليس للحياة قيمة أو معنى من غير الحبّ، فهنيئًا لك أيّتها الشاعرة العاشقة بهذا الحبّ.
ثمّ كانت مداخلات وإضافات الزميلات والزملاء، ومن ثمّ كلمة المحتفى بهما الشاعرة سماهر نجار والشاعر نسيم الأسدي في قراءة مختارة لقصائد من أجواء الديوانيْن، وكلمة تلخيص وشكر واختتام.