أجراس انتحار زينب المهدي
تاريخ النشر: 23/11/14 | 7:20لم تنتحر زينب المهدي لأن لديها مشكلة شخصية، ولكن لأن مشكلاتنا أحاطت بها فكسرت قلبها ونشبت أظفارها في عنقها حتى قتلتها.
(1)
ظهر الاثنين قبل الماضي (10/11)، كانت الطالبة أسماء محمود منير تقف أمام كلية الدراسات الإنسانية الخاصة بالبنات والتابعة لجامعة الأزهر في مدينة نصر، إلا أنها فوجئت بمن أحاطوا بها ودفعوها إلى سيارة نقلتها إلى مكان مجهول. وحتى الآن لا يعرف أهلها ولا زميلاتها اين هي ولا من اختطفها ولا ما هو مصيرها. لم تكن أسماء شريكة في تظاهرة، لكن كل ما يعرف عنها أنها فقدت زوجها وشقيقها في فض اعتصام «رابعة»، وأن أباها رهن الاعتقال منذ عام، وأن أمها الطاعنة في السن تعيش وحيدة في المنصورة. أما هي فتسكن مع زميلات لها بإحدى شقق مدينة نصر، بعدما منعت من الالتحاق بالمدينة الجامعية.
الحادث على غرابته ليس الأول من نوعه، ولكنه جزء من ظاهرة برزت خلال الأشهر الماضية، ذلك أن حالات اختطاف الفتيات من قبل مجهولين ونقلهن إلى أماكن مجهولة يتعرضن فيها لاعتداءات مختلفة، ثم يعثر على بعضهن بعد ذلك بأحد الشوارع في حالة يرثى لها، في حين يظل مصير البعض الآخر مجهولاً. في الوقت ذاته، فإن أهالي العائدات يرفضون الحديث عما جرى لهن أثناء الاحتجاز، خوفاً مما قد يتعرضون له من عواقب. وكل ما يعرفه النشطاء الذين يتابعون الظاهرة أن مدنيين ملثمين اختطفوهن في سيارات مدنية، وأنهن نقلن إلى أماكن لا يعرفنها، وخلال فترة احتجازهن، فإنهن ظللن يتعاملن مع ملثمين آخرين. فلم يرين وجوهاً ولم يعرفن أسماء أشخاص أو أماكن، وإذ تبدو المعلومات التي يمكن البوح بها شحيحة للغاية بخصوص ما جرى لأولئك الفتيات، فإن المتابعين للملف لا تتوافر لهم سوى بعض، وليس كل البيانات المتعلقة ببلاغات الاختفاء. ذلك ان هناك أسراً ممن عادت بناتها تتكتم الأمر كلية، وتحرص على طي صفحة تلك التجربة المريرة، لكي تتفرغ لعلاج أعراض الانهيار والتشوهات النفسية والبدنية الجسيمة التي عادت بها أولئك الفتيات.
(2)
الظاهرة تحتاج إلى تحقيق للتثبت من ملابساتها ومقاصدها وتحديد حجمها والجهة أو الجهات التي تقوم بها، فضلا عن التكييف القانوني لها، وما إذا كان ما جرى يعد اختفاء قسرياً أم لا. إلى غير ذلك من العناصر التي يتطلب استيفاؤها بذل جهد خاص ليس بمقدور مثلي ان يقوم به لأسباب أحسبها مفهومة. لكن مبلغ علمي أن قانون الإجراءات الجنائية المصري في المادتين 25 و26 يجيز لكل من علم بوقوع جريمة مما يدخل في اختصاص النيابة العامة، ان يبلغ عنها. وهذا الجواز يتحول إلى وجوب حين يتعلق الأمر بالموظف العمومي المكلف بالخدمة العامة إذا وقعت الجريمة أثناء تأدية عمله أو بسببه.
أستند إلى هذه الخلفية في لفت الانتباه إلى ظاهرة اختفاء أعداد غير معلومة من الفتيات وإيداعهن أماكن مجهولة، ثم إعادة بعضهن بعد بضعة أيام في حالة يرثى لها، وبرغم شح المعلومات المتوافرة في هذا الصدد، إلا أن النشطاء الذين يتابعون الملف استطاعوا توثيق بعض الحالات التي منها ما يلي:
ـ علياء طارق.. الطالبة في «جامعة 6 أكتوبر» اختطفت عند الظهر من أمام الجامعة، وقدم أهلها بلاغاً للنائب العام باختفائها في 21 أكتوبر الماضي في نيابة شرق القاهرة، وحمل البلاغ رقم 21562. لكنها أعيدت بعد 17 يوماً إلى المكان نفسه الذي اختطفت منه، وأبلغت أهلها بأن الملثمين الذين اختطفوها أعادوها مغمضة العينين إلى حيث عثر عليها.
ـ الدكتورة أسماء خلف شندين عبدالمجيد.. اختطفت من أمام مقر عملها في مستشفى سوهاج، ولأن أهلها فى أسيوط، فقد حرروا محضرا باختفائها في قسم أول أسيوط بتاريخ 15/4/2014. كما قدموا بلاغاً إلى النائب العام في 25/6 تحت رقم 13226، وبلاغاً ثالثاً إلى المحامي العام في 6/7 تحت رقم 10108، ولم يظهر لها أثر حتى الآن. وقد تعرض أبوها لأزمة قلبية جراء ذلك.
ـ عُلا عبدالحكيم.. الطالبة في جامعة الأزهر فرع الزقازيق، كانت قد ذهبت من بلدتها مشتول السوق للتعرف على نتيجة امتحاناتها في الزقازيق يوم 3 تموز، لكنها لم تعد إلى بيتها فتقدم أهلها ببلاغ إلى النائب العام أثبت الحالة في 4 تموز، وحمل البلاغ رقم 21067، لكن الفتاة لا تزال مختفية إلى الآن، ولا يعرف أهلها عنها شيئاً.
ـ مِنَّة الله جمال منصور.. طالبة تدرس اللغات والترجمة في «جامعة 6 أكتوبر»، وقد اختطفت يوم 8 تشرين الأول في سيارة «ميكروباص» مدنية من أمام الجامعة في رابعة النهار وتحت أعين رجال أمن الجامعة. وقد نقلت إلى أحد الأماكن المجهولة حيث تعرضت للتحقيق والضرب وهي مغمضة العينين. وبعد 36 ساعة، حملتها سيارة وألقتها وهي مغمضة العينين أيضاً في ميدان جهينة في المنطقة ذاتها، وآثر أهلها عدم الحديث في موضوعها، ولم يقدموا أي بلاغات بخصوصه إلى الجهات المسؤولة.
هذه مجرد نماذج للحالات التي أمكن توثيقها في ملف الفتيات المخطوفات. وهناك سيل آخر من المعلومات التي بحاجة إلى تدقيق وتوثيق، تدور حول الظروف التي مرت بها فتيات أخريات وصور الاعتداء التي تعرضن لها في الأماكن التي نقلن إليها. هناك شق آخر يتعلق بأوضاع الفتيات اللاتي عدن إلى بيوتهن والقصص التي نقلنها إلى أهاليهن، وتلك التي رفضن الإفصاح عن تفاصيلها، وحالة الصدمة والانهيار التي حلت بالفتيات والرعب والخوف الذي أصاب الأسر بعد الذي جرى لبناتها.
هذه المعلومات كانت تتجمع أولا بأول أمام النشطاء الذين تابعوا الملف. الأمر الذي نقل إليهم الشعور بالصدمة والخوف. الصدمة إزاء ما عرفوه، والخوف من تعرضهم للأذى جراء محاولتهم جمع المعلومات والإمساك بخيوط القضية. ذلك ان المعلومات التي تجمعت لديهم فتحت أعينهم على عالم من الأهوال لم يخطر لهم على بال، حتى أدركوا أنهم يخوضون غمار مغامرة لا قبل لهم بها، فلا هم قادرون على احتمال ما يرون أو يسمعون. ولا هم قادرون على استيعابه وتصديقه، ولا هم قادرون على إيقافه أو احتوائه.
(3)
لقد شاءت المقادير أن تكون زينب المهدي ضمن فريق النشطاء الذين حملوا ملف الفتيات المخطوفات وتابعوا تفصيلاته الصادمة التي نقلت إليهم الخوف والتوتر، وسربت إلى بعضهم الشعور بالإحباط واليأس.
كانت زينب ضمن الفتيات اللاتي شاركن في «ثورة يناير» 2011، عاشت أحداث الثورة قبل تخرجها من قسم اللغة العربية بكلية الدراسات الإسلامية التابعة لجامعة الأزهر. وظلت ضمن النشطاء حين تخصصت في التنمية البشرية. بدأت مع «الإخوان» ثم انفصلت عنهم والتحقت بحزب «مصر القوية» وانضمت إلى حملة الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح حين ترشح لرئاسة الجمهورية. ارتدت الحجاب ثم خلعته، وتغيرت في حياتها أشياء كثيرة لكن الوحيد الذي لم يتغير فيها كان ولاؤها لـ«ثورة 25 يناير» وإصرارها على الدفاع عن أهدافها. حين ضاقت الآفاق أمام شباب الثورة، انضمت إلى فريق العمل الذي كرس نفسه للدفاع عن الفتيات اللاتي تعرضن للاختفاء أو الاختطاف. شأن آخرين من زملائها، فإنها عانت الكثير من المتاعب خلال مرحلة ما بعد «ثورة 25 يناير»، واشتدت معاناتها بعد الأحداث التي تلاحقت في أعقاب تحولات ما بعد«30 يونيو». أما الذي صدمها وهزمها حقاً، فكانت وقائع ملف الفتيات المختطفات. ذلك انها حين اشتركت مع أخريات في حراك الثورة وفاعلياتها، لم تتوقع ان ذلك له ثمنه، ولم تتصور أن الثمن يمكن ان يكون بالصورة التي وقعت عليها. بمضي الوقت أدركت زينب ان آمالها تخبو شيئاً فشيئاً، وأن الأفق يضيق وينسد أمام ناظريها حيناً بعد حين، الأمر الذي ألقاها في بحر اليأس الذي لا شطآن له. فكتبت على صفحتها تقول: تعبت واستهلكت ولا فائدة. كلهم أولاد … (شتيمة)، ونحن نحرث في البحر. حيث لا يوجد قانون ينصف ويحق الحق. فنحن نؤدي ما علينا، وكل ما نفعله ان نحاول أن نؤدي ما علينا بكلمة حق، لكي لا نبصق على وجوهنا حين نطالعها في المرآة. لا يوجد عدل. أنا متأكدة من ذلك، وليس هناك نصر نتوقعه في الأفق. لكننا نضحك على أنفسنا كي نستمر في الحياة. (الرسالة كتبت بالعامية لكن آثرت صياغة كلماتها بالفصحى).
الذين اطلعوا على الرسالة لم يخطر على بالهم أن زينب كانت قد فقدت الأمل في الحاضر والمستقبل، وأنها كانت تطلق زفرتها الأخيرة بعدما تمكن منها اليأس مختلطاً بالغضب. ولم يأخذوها على محمل الجد إلا حين ذكرت صحف الصباح أنها شنقت نفسها في بيتها بحي «روض الفرج». أما أغبى حوار جرى بعد ذيوع الخبر فقد كان ذلك الذي ترك أزمة البلد التي أوصلتها إلى تلك النتيجة، وانشغل بما إذا كانت زينب قد خرجت من الملة بسبب انتحارها أم لا، وبما إذا كان مآلها في الجنة أم في النار!
(4)
أول ما يخطر على البال أن هذا الذي ذكرته يحتاج إلى تحقيق يتولى تحرير ما جرى واستجلاء وجه الحقيقة فيه نظراً لخطورته التي لا يمكن السكوت عليها. ولا أرى سبيلا إلى بلوغ ذلك إلا من خلال المنظمات الحقوقية المستقلة، إذ بغير ذلك لن نطمئن إلى حياد أي تحقيق آخر. وخبراتنا في تقصي حقائق أي ملف أقنعتنا بأن أي مؤسسة تشكلها الحكومة في الوقت الراهن لتحري انتهاكات حقوق الإنسان أو تقصي حقائق ما جرى في المجال العام ستعبر في النهاية عن رأي الداخلية وتحمي النظام بأكثر مما تدافع عن الحقيقة والمجتمع والوطن.
إن التحقيق المحايد والنزيه صار مطلباً ملحاً لإشاعة الثقة والاستقرار وحماية السِّلم الأهلي. ذلك ان اللغط حول الانتهاكات الحاصلة أكبر وأخطر مما يتصوره كثيرون. وفي غيبة الشفافية وندرة المعلومات الموثوق بها، فإن المجال صار مفتوحاً لإطلاق الشائعات والترويج للروايات التي لا يعرف نصيبها من الحقيقة أو الادعاء. وقصة الفتيات المخطوفات تشكل فصلاً واحداً من ذلك السجل المثير والحساس. ذلك ان المحامين والحقوقيين يتحدثون عن فصول أخرى لا تقل إثارة. منها ما يتعلق بالسجون السرية المقامة خارج القانون. ومنهم من يتحدث همساً وبحذر بالغ عن مفقودين لا يعرف أحد مصيرهم ولا عددهم. بعضهم مفقود أثناء «ثورة 25 يناير» 2011، والبعض الآخر فقد في المرحلة الانتقالية تحت حكم المجلس العسكري (2011 ـ 2012) وهناك آخرون فقدوا بعد «30 يونيو» 2013.
ذلك كله مسكوت عليه لأسباب غير مفهومة، وأخشى ما أخشاه إذا ما استمر الصمت والتغييب أن يتمادى البعض في الانتهاكات بدعوى قمع الإرهاب والرد عليه بإرهاب مماثل، الأمر الذي يؤدي إلى انفلات العيار وإلى وقوع تجاوزات لم تكن في الحسبان، وهو مما يشين النظام القائم ويعيد إلى الأذهان فظاعات وجرائم تصور الناس أن الثورة تجاوزتها وطوت صفحتها. بل كان ذلك من أهم أهداف الثورة.
بقيت نقطة أخيرة تتعلق بحالة الانكسار والهزيمة التي يستشعرها شباب الثورة الذين تحولت أحلامهم إلى كوابيس تؤرقهم في اليقظة والمنام. وتلك مسألة كثُر دق الأجراس للتنبيه إليها، ولكننا لا نكاد نلمس وعياً كافياً بها ولا سعياً جاداً للتفاعل معها. ولا أعرف إن كان رنين انتحار زينب المهدي يمكن أن يشكل لحظة فارقة في هذا المسار أم لا، لكني أتمنى ذلك.
بقلم فهمي هويدي – السفير