“هذيك الأيّام” سليمان جبران: كيف صرت معلّما!
تاريخ النشر: 20/11/14 | 11:42في الأيّام البعيدة تلك، كان النجاح في البجروت؛ شهادة إنهاء الثانويّة، مفخرة ومأثرة . خصوصا إذا كان البجروت كاملا، “شليم” في العبريّة؛ لا يشمل علامة خمسة من عشرة في أيّ موضوع من المواضيع. أعرف أنّ ذلك يبدو اليوم مضحكا. لكن تلك كانت حالتنا ومفاهيمنا يومها. أذكر أنّ سبعة فقط من صفنا، البالغ أكثر من ثلاثين تلميذا، نجحوا في البجروت. إي والّله!
كان لي صديق من قريتنا، وكان من صفّنا. في كلّ يوم كان ينتظر وصول البريد، مشغولا مهموما. تأخّر وصول نتائج البجروت، فكان الصديق المذكور ينام ليله و”فراشه أبَر”. أنا أيضا كنت في انتظار النتيجة، مثل زميلي المذكور طبعا، لكنّي كنت أعمل مع أهلي في الأرض؛ في قطف الدخّان وشكّه، والثانية أمرّ وأدهى وأطول، فأنسى ما نحن في انتظاره، ساعات طويلة من النهار. ربّ ضارّة نافعة؟ تأخّرت النتائج، لكنّها وصلتنا أخيرا، بعد أن طلعت روح الصديق المذكور في انتظارها.
نجحنا في البجروت، بحمد الله وتوفيقه (!) فقدّمنا طلبا للعمل في التعليم. حامل البجروت، في تلك الأيّام، كان يُعتبر مثقّفا، ولا عمل للمثقّفين إلا التعليم في المدارس الابتدائيّة. الأعمال قليلة والموارد شحيحة، وحامل البجروت “مثقّف” لا يمكنه طبعا أن يعمل في غير مهنة القلم!
بالإضافة إلى النجاح في البجروت، كان من مؤهّلات المتقدّم بطلب للتّعليم يومذاك أن يكون “حسن السيرة”، مرضيّا عنه من السلطات، من الشين بيت يعني، أو غير مغضوب عليه على الأقلّ. وأنا كان مغضوبا عليّ، لكنّ “القدر” كان إلى جانبي. كان في قريتنا “قطبان” للمخابرات، وكان أبي مؤيّدا لأحدهما، بحكم عدائه للآخر، أو بحكم عداء الآخر له، بتعبير أدقّ. ألا تقول الحكمة الشعبيّة “تلابطت البغال، من حظّ المكاريّة”؟ هذا ما حدث فعلا. فقد صدّقت المخابرات رجلها، حليف الوالد في السياسة المحليّة، بأنّ المذكور ولد صغير السنّ لا يفهم في السياسة شيئا. فصرت معلّما!
في تلك الأيّام البعيدة، كلّ شيء كان مختلفا. روى لي مرّة أحد الأصدقاء من المديرين المخضرمين أنّ سبعة فقط من العرب الباقين بعد 48 كانوا يحملون شهادة المترك. متريكوليشن في الإنجليزيّة. أمّا المفتّش يومها فكان يحمل شهادة بي إي، في الريّاضيّات والفيزياء؟ وكان مفتّشا على المدارس العربيّة وحيدا أوحد! لذا كان الأستاذ الطيّب الذكر مفتّشا دونما “مؤهّلات” سياسيّة. لم يكن واهن الحال، لا علميّا ولا مادّيّا، فعيّنوه مفتّشا من غير “جميلة”. ما زال في البال جوابه المسكت لي حين شكوت له تعييني في منطقة بعيدة عن منطقتنا، وفي قرية لم يعرف كاتب الحاكم العسكري في منطقتنا أين تقع فعلا، وهل أحتاج إلى تصريح لوصولها. “ولك اسكت، منيح اللي عيّنوك !”، قال لي المفتّش حين شكوت له تعيين “الغربة” المذكور، في قرية لم يعرفها كاتب الحاكم العسكري نفسه. هكذا رضينا بالتعيين الميمون، عملا بنصيحة المفتّش المذكورة، وفي قريتين بعيدتين عن قريتنا والشمال كلّه.
من حسن حظي أنّ أحد أبناء قريتنا، ابن صفّي وصديقي، كان رفيقي إلى المجهول. صحيح أنّ تعيينه كان في قرية واحدة، على سفح جبل الطور، حيث استأجرنا غرفة سكنّاها معا، وأنا في قريتين بعيدتين عنها، إلا أنّ الرفقة تسلّي، حتى في السجن!
من لوازم المعلّم في تلك الأيّام، كانت الشنطة. سوداء عادة، يسافر بها مضطرّا، حتى إذا لم يحتج إليها في سفرته. الشنطة مهمّة طبعا، تميّز المعلّم، والمثقّف عامّة، عن عامّة الناس. والناس رُفعوا فوق بعضهم طبقات ودرجات !
من لوازم المعلّم أيضا كانت البدلة. غامقة على الأغلب، يشكّ المعلّم بجيبها فوق صدره قلم حبر، أو قلمين أحيانا، ويتحمّلها مرغما في حلّه وترحاله. لم نشكّ الدواة في زنّارنا، مثل مارون عبّود التلميذ. تغيّرت الأيّام والرموز، لكن لا بدّ من العلامة الفارقة! كيف يعرف الناس في الشارع أنّك معلّم؟ هكذا سافرنا أنا وصديقي، شريكي في الغرفة والغربة ، إلى الناصرة. إلى خيّاط معروف، وفصّلنا بدلة غامقة تليق بالمقام. بالتقسيط طبعا، لكن الخيّاط في أمان، لأنّ القسط مضمون في الأوّل من كلّ شهر. وهل يمكن لمعلّم رفيع المقام التأخّر عن الدفع في أوّل الشهر؟!
عملي في القرية القريبة من مكان سكنانا كان سهلا عليّ. أخرج إليها في الصباح، وأعود منها بعد انتهاء الدوام. لم تكن الطريق تحتاج إلى أكثر من نصف ساعة، مشيا على الأقدام طبعا. هل المشي نصف ساعة في الصباح، ومثلها بعد الدروس، صعب على من اعتاد الخروج قبل الضوء إلى “المرج”، مشي ساعة، والعودة إلى البيت، بعد ساعة أو أكثر من العمل في قطف الدخّان.
أربعة أيّام كنت أعمل في البلدة القريبة المذكورة، وفي اليوم الأخير، يوم الخميس، أشدّ الرحال إلى القرية البعيدة عن مكان سكنانا. حوالى 12 كيلومترا. طبعا لا يمكن الوصول إلى القرية هذه على الأقدام. لابدّ من السفر إليها بالسيّارة.
يوم العمل الأوّل في القرية المذكورة ما زال ماثلا في ذهني، وعلى لساني أيضا! سافرت إلى القرية تلك في الصباح الباكر، لئلا أتأخّر عن أداء الواجب. سألت عن بيت المختار، ودخلته. للتعرّف على القرية وموقع المدرسة، أو تعريف القرية ومختارها على المعلّم الجديد القادم إليهم، من أقاصي الجليل. وصلت بيت المختار، فوجدته محتبيا بقمبازه على الفرشة، وأمامه القهوة المرّة بعدّتها الكاملة. سلّمت بصوت لا يخلو من اعتداد المعلّم الجديد بنفسه، وعرّفت المختار على الموفد الجديد إلى قريتهم. رحّب بي الرجل ترحيبا “عربيّا” طويلا، ففرحت من كلّ قلبي أنّ المختار فاهم، يقدّر الرسالة الجليلة التي يحملها معلّم قادم من أقاصي الأرض، لنشر العلم والمعرفة في تلك الناحية النائية. صبّ المختار، بعد السلام والكلام، فنجان قهوة من الغلاية أمامه، ليقدّمه للمعلّم الجديد، مرحّبا مؤهّلا. لكن كيف يشرب معلّم غريب الدار فنجان قهوة مُرّة على الريق؟ المختار أيضا يعرف الأصول. تناول ملعقة صغيرة عن الصينيّة أمامه وملأها بالسكّر حتّى الجمام، لتحلية فنجان القهوة، وتقديمه للمعلّم الجديد. شربت أوّل شفطة، فتمّنيت لو كان المختار أبقى قهوته على مرارتها الأولى. لكنّ المعلّم الجديد يعرف الأصول، ويعرف المعاني الرمزيّة للقهوة إذ تقدّم للضيف. هكذا شربت فنجان القهوة ذاك على مضض، لكنّ طعمه الغريب ما زال على لساني حتّى هذا اليوم!
سليمان جبران