لا عَيْشَ إلا عَيْش الآخرة
تاريخ النشر: 11/07/12 | 15:47كلما طغى الغذاء المادي على الغذاء الروحي، كلما انحدرت هذه النفس إلى الأرض.. إلى الطين، وكلما زاد الغذاء الروحي على الجسدي ارتقت هذه النفس وأصبحت شفافة سامية تعانق السحاب واقتربت من الملائكية، وهذا ما نشعر به في رمضان أكثر من أي وقت في العام، وللأسف كثير من الناس ينفق في رمضان أكثر مما ينفقه في عدة شهور ويُرهق نفسه وأسرته بالإسراف في شراء أنواع خاصة من الطعام والشراب وكأنه شهر للأكل والشرب!
كان سيدنا عُمر بن الخطاب جالسًا يتناول طعامه، فزاره حفص بن أبي العاص فقال له:” تفضَّل”، فنظر فرأى قديداً يابساً يأكل منه عُمر، فاعتذر شاكراً، فقال له: “ما يمنعك من طعامنا؟” فقال له: “والله إنه طعامٌ خشن، وإني راجعٌ إلى بيتي فأصيب طعاماً ليناً قد صُنع لي”، فقال عُمر: “أتُراني عاجزاً أن آمر بصغار الماعز فيلقى عنها شعرها، وآمر برقاق البُرِّ فيخبز خبزاً رقاقاً، وآمر بصاعٍ من زبيبٍ فيلقى في سَمنٍ، حتى إذا صار مثل عين الحجل صُبَّ عليه الماء فيصبح كأنَّه دم غزالٍ فآكل هذا وأشرب هذا “، فقال له حفص وهو يبتسم: “إنَّك بطيِّب الطعام لخبير”، فقال عُمر: “والذي نفسي بيده لولا أن تنقص حسناتي لشاركتكم في لين عيشكم، ولو شئت لكنت أطيبكم طعاماً، وأرفهكم عيشاً، نحن أعلم بطيب الطعام من كثيرٍ من آكليه، ولكننا ندعه ليومٍ تذهل فيه كل مرضعةٍ عما أرضعت، وتضع كل ذات حملٍ حملها، وإني لأستبقي طيباتي، لأن الله تعالى يقول عن أقوامٍ:” أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا”.
أيها الأحبة: صحيح بأن الله تعالى يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}. لكن سيدنا عُمر تعلّم من رسول الله عليه الصلاة والسلام الزهد في هذه الدنيا وكان مثالاً فريداً للتقشف فيها والتخفف منها.
تقول السيدة عائشة (رضي الله عنها): “إنا كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أُوقد في بيوت رسول الله نارٌ”. قيل: “فما كان يُعيَّشكم؟” قالت: “الأسودان: التمر والماء”. مع أن رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) لم يكن فقيراً فقد كان له خُمس الغنائم، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) ، فاستقبلنا جبل أُحد فقال: “يا أبا ذر” قلت لبيك يا رسول الله. فقال: “ما يسرني أن عندي مثل أُحد هذا ذهباً تمضي عليَّ ثلاثة أيام وعندي منه دينار، إلا شيء أرصده لدَيْن، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا” عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، ثم سار فقال: “إنّ الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا” عن يمينه وعن شماله ومن خلفه “وقليلٌ ما هم”.
كتب عُمر ذات مرة لعامله على البصرة عتبة بن غزوان، فقال له: “لقد صحبت رسول الله فعززت به بعد الذِلَّة، وقويت به بعد الضعف، وقد صرت أميراً مسلَّطاً، وملكاً مطاعاً، تقول فيُسمع منك، وتأمر فيطاع أمرك…تحوَّط من النعمة تحوُّطك من المعصية، فهي أخوفها عندي عليك أن تستدرجك، وأن تخدعك فتسقط سقطةً تصير بها إلى جهنَّم، أعيذك بالله، وأعيذ نفسي من ذلك”.
قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: “ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم (البحر) فلينظر بم يرجع”. ومع ذلك فقد تربعت هذه الدنيا الفانية على قلوب الكثير وأنستهم الآخرة الباقية!
م. عماد شحادة صيام , فلسطين
بارك الله بك ، وجعل الله هذا العمل في ميزان حسناتك. كم من الطمأنينه والراحه نجدها عند التمسك والتيقن بأن “ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم (البحر) فلينظر بم يرجع” {حديث نبوي شريف}. اللهم نسألك الثبات في الدنيا والآخره والحمد لله رب العالمين.