التناصُّ القرآني في شعر استقلال هيبي (بنت البروة)
تاريخ النشر: 19/07/12 | 9:32المقدمة: عندم قرأت ” العَكَم” كتبتُ للشاعرة: اسلوبك ساحر.. خلاّب .. جذاب خصوصاً عندما تستخدمين الاقتباسات من الأغاني الشعبية النسائية فتبدو حلوة المذاق:
..
“..على إمّ المناديل على إمّ المناديلي ..إمّك حبّت عشرة على حظّي وعلى ديني!..”… “..يا سايق عنزاتك ويا مروَّح عنزاتك ..وكلمة من كلماتك من القبر تحييني..”. هذه الترنيمة غير متداولة في المثلث. وسوف أحيل الأمر الى المعلمة سميحة التي كانت تعلم معي وتحفظ كل هذه الأغاني. ذكّرتِني ” بالصادق” السادك” الذي عاش في حارتنا وكان كفيفاً عبقريا فأهديك هذا النص: كذلك الصورة ” كابوت” أمتعتني بين النحلة والنعجة والمرأة والكابوس!
لكي أُذيقكم شهد القصيد، دعوني أستفتح وإياكم بهذه النفحات من قصيدة ” بنت البروة” ، ذات المذاق الخاص. فإذا أطربكم الشعر فقد أطربكم النقد الرزين وقد بُلّغنا الأرب. ” …قلبي مرج أخضر..نسخة طبق الأصل عن مرج بن عامر.. بلادي تتوغَّل في صميمي.. بل تسير في شراييني وتجري نيابةً عن دمائي…” ولتعلموا أن هناك حقيقة بِتُّ استشعرها في كل كتاباتي النقدية وهي أنه كلما ارتفع مستوى الشاعر الذي نحن بصدد تحليل قصائدة ونقدها، ارتفع مستوى النقد وازدهى، وزاد استمتاع الناقد بالكتابة واستمتاع القراء كذلك، حتى لتبدو كلمة الناقد قطعة فنية واحتفالاً مستوحى من عالم الشاعر السمفوني الرائع. ولتعلم عزيزي القارئ أن للشعر مهمة خطيرة، ورسالة عظيمة، كما هي للنقد الذي أعتبره مسؤولية عظمى ورسالة أشد خطورة. وقد شعرت بعد كتابتي لهذا المقال أنني انتقائيٌّ متحيّزٌ الى جانب الشاعرة، حيث كان همّي امتاع القراء ، فاخترتُ القصائد الجميلة على ذائقتي، مبحراً في قصائد بنت البروة، وتجاهلت مجموعة هائلة من القصائد التي قد تمدنا بصورة أخرى، وقد ركزت في مقالتي على تعريف القارئ بالتناصّ، وهو تداخل النصوص، وذلك لأنني وجدت شاعرتنا مولعةً بهذه الظاهره الأدبية. كذلك الشعر الملتزم ، حيث تكتب شاعرتنا في كل المناسبات الوطنية، وتحاول أن تبدو غير احتفالية أو خطابية ومباشرة، وغير مفتعلة ، كما في قصيدتها ” احتجاج ” التي تقول في نهايتها ” بينما دوسة موسيقيّة واحدة على فوّاحة أرض بلادي نفيسة, لا تُقدّر بأيّ ثمن!”
وفي قصيدة : ” إشارة على طريق العودة ” ، تقول: فرس أنا عائدة لحصاني الوحيد !
وفي قصيدتها الإنسانية ” أسير قد تحرّر، فبقي أسيراً للذكريات!” تقول:
السّلام لا يكلّفك شيئا
سوى (تشريع)أبوابك
الحرب لا تكلّفك شيئا
سوى (تشريح)أحبابك..
تعريف القصيدة عند بنت البروة
تقول في تعريفها الإبداعي للقصيدة: ” القصيدة ليست اختراعا ،انّها لوحة أدبيّة تتشكّل من كلمات “مألوفة”، قابلة للصّياغة في كل مرّة من جديد، شرط انتقاء الكلمات الأولى فيها بحذر شديد،فتتوهّج من اللّوحة صورة “غير مألوفة” لأمر”مألوف”.. وهل رأيتم حجارة صمّاء تسدّ مياه الوادي؟!
بعد زحزحة الحجارة من مكانها تتدفّق المياه في الوادي جريانا جريانا.. هكذا شأن القصيدة لمّا تنساب فتؤثّر..ولا يبقى في الوادي غير حجارته!
وهي تقول هذا شعراً:
“هذه شكواي التي تسمعونها يا سادة
لم تُدَوَّن في أطروحاتٍ
أو ورقْ
هذه ذبذبات قلبي
ودمي على شعبي احترقْ
الرمز والتناص الديني في قصائد بنت البروة
التناص في المفهوم الاصطلاحي المبسّط هو تداخل النصوص وأساسه التفاعل والتشارك بين النصوص، وهذا يقتضي الحفظ والمعرفة السابقة ومخزون من الحافظة للنصوص السابقة. وأعتقد أن المبدع أساساً لا يتم له النضج الحقيقي إلاّ باستيعاب الجهد السابق عليه في مجالات الابداع المختلفة.ولذلك كان النقّاد ينصحون الشعراء الناشئين بالحفظ من الشعر الكلاسيكي .
ويظهر التناص الديني في عدة قصائد لدى شاعرتنا ، حيث وُظّفتْ في هذه القصائد الرموز الدينية توظيفاً جميلاً منحها مذاقاً خاصاً، ويبرز فيها شغف الشاعرة بالتناص الديني ” Intertextuality المباشر أي بذكر مفردات وجمل دينية كما هي أو بتحريف بسيط يتناسب والسياق اللفظي والمضموني
ففي قصيدتها : صورة الموت غزّية تحويرٌ واضح لكلمات سورة الشرح: ألم نشرح لك صدرك… ألم نبحشْ لكَ قبرك؟!
بسم حكومتنا الكريمة
ألم نبحش لك قبرك؟!..
وكسرنا لك ظهرك؟!..
وبالبوسفور الأبيض أمطرناك..
لَغْمَطْناك وحرقناك؟!..
قطعنا لك ساقيك وابتهلت للسّماء يداك؟!..
مزّقنا صفحة أهلك ،ليلا،ومن ثم رَمَيناك؟!
في قصيدتها : عروس التركمان
عن سوريا الوطن والشعب
اقتربوا اقرأوا سورة الرّحمن!”
جُنّ القوم،
صُعِقوا،
انهزموا وولّوا الدّبر من حولها مثل الجرذان
فرّ أحدهم مِنْ أَخِيهِ
وآخرٌ من أُمِّهِ وَأَبِيهِ
وأخيرٌ من صَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ
***********
ظنّوه الخبير يناديهم
ظنّوها الآزفة أزفت وهم يلهون
إنّ يوم القيامة آتٍ لكن
ليس في هذا الزمان
فهي هنا تكاد تستخدم الآية القرآنية : إن الساعة آتيةٌ لا ريبَ فيها..
أخذت محبّتك بمجامع قلبي
وأنا أغدِقٌكَ
بحُبّي يا وطن
وأنت تطمع “هل من مزيد!؟!”
وهي مأخوذة من الآية القرآنية : يوم نقول لجهنم هل امتلئتِ وتقولُ هل من مزيد.
وفي قصيدتها: غياب الوجع: حضور الفرح ، تُقدّم للقصيدة بآيةٍ من القرآن الكريم لها دلالتها المعبرة حيث تعود بنا الى التاريخ الاسلامي مذكّرةً بحادثة الهجرة والتهجير الذي وقع على مسلمي مكة من قبل كفارها. وهي تريد بذلك المشابهة لما حدث في عصرنا.
” الذينَ أُخرِجوا من دِيارهم بغيرِ حقٍ …. ”
وفي عنوان لقصيدة: “في الذكرى المئويّة ( أربعة عشر قرنًا): تبّت أياديهم!”
تناص ناجح مع الآية القرانية: ” تبّت يدا أبي لهب وتب”
وفي قصيدة عن أمها تقول:
قلب أمّي جنّة عدن
طافح بورود الكلام
تجري الأنهار من تحته
ومن فوقه
وتحت قدميها
جنّة أخرى
غنيّ عن الكلام!
اللغة العامية في شعرها
( ممصوعة)
شخصوا بإبصارهم باكين إذ
وجدوها معلّقة بالأحبال
رقبتها ممصوعة وجسدها يلوح
في الهواء مثل عروس التّركمان
الفعل ( نبْحش) بمعنى نحفر، ولغمط
” ألم نبحشْ لكَ قبرك؟! ”
أمي لغمطتْ لي خدادي.
( يا طُرمان!)(يا هُبلان)
صاحت بهم:” يا طُرمان!
أين تهربون؟
هذه أنا التي أناديكم
المشنوقة فوقكم يا هُبلان
مهلا أيّها الجهنّميون
إنّ الحبل مرخى والآيات في” نظام
الانتقال الحاد من العامية الى الفصحى
إن الانتقال الحاد من العامية الى الفصحى يحدث زلزلة في القصيدة، ولو أن الشاعرة لجأت الى تفصيح العامية لكان هذا الانتقال سلساً رائقاً، كأن تقول: تَهبّلوا تهبّلوا
فإن كلمة الجهنميون كلمة حادة جداً، ويكفي أنها منسوبة الى جهنم وبئس المصير.
لغة الطيور
عروس التركمان
الحمامة
أحنّ إلى شبهي
إلى حمامة على
عامود كهرباء نائحة!
**************
أُصدِّق العصافير تحلِّق حُرَّةً في السَّماء
دون جواز سفر
في النهاية
أخيراً دعوني أصبُّ لكم من دنان خمرتها المترعة ما يثمل الروح زهواً ونشوةً
نظّف الحبُّ نفوسَ البشر
هذه الثّلجة قلب إنسان
هذه الجداول شرايين أُخَر!
بات الاثنان يردِّدان هذه الدَّندنة بهمسٍ منخفضٍ تدريجيٍّ والأُم تمسح جبين طفلها بخدّيها.. وشفتيها..حتّى سرقه النّومُ.
وكلُّ ما هو حولي حُبّ..حُبّ..حُبّ، استرقت نظري عبر ثغرات الباب المُحايد لأرى الطّفل يطبق عينيه على “حُبٍّ” فتساءلتُ في حيرةٍ – كيف من نام على “حُبٍّ” استفاق كرهانا كرهان؟!!
فخووووورة أنا بك دومااااا