رواية “أميرة” في اليوم السابع
تاريخ النشر: 28/11/14 | 23:58القدس: 27-11-2014 بدعوة من مركز يبوس الثقافي في القدس، ودار الجندي للنشر والتوزيع، وندوة اليوم السابع الثقافية جرى في مركز يبوس حفل توقيع، ونقاش لرواية “أميرة” للأديب المقدسي جميل السلحوت، تقع الرواية الصادرة عام 2014 عن دار الجندي للنشر والتوزيع في 217 صفحة من الحجم المتوسط، ويحمل غلافها الأوّل لوحة للفنانة التشكيلية لطيفة يوسف.
بدأ النقاش ابراهيم جوهر مشرف ندوة اليوم السابع فقال:
أميرة) رواية النكبة)
تظل النكبة الفلسطينية الكبرى موضوعا قابلا للكتابة والمقاربة والتحليل للأعمال الأدبية والفنية لأنها الحدث الباقي بآثاره وإفرازاته الدامية. من هنا لم يستنفذ الكتاب الفلسطينيون ولا العرب الكتابة عن التاريخ والمرحلة رغم ما كتب حولها.
وتجيء رواية (أميرة) للكاتب المواظب (جميل السلحوت) صاحب مشروع التأريخ الأدبي لمرحلة التيه الفلسطيني في أعماله الروائية لتضيف أبعادا جديدة لما كتب فتتراكم المعلومة واللغة والفكرة لإيجاد تأويل جديد قادر على استيعاب ما كان ليرسم ما سيكون.
(أميرة) عنوان الرواية وإحدى شخصياتها المولودة في زمن النكبة تحمل دلالة الاسم لتضفيه على المكان، فتكون القدس أميرة ومثلها فلسطين كلها تلك الأميرة التي ينشغل الخلق جراها ويختصمون.
تؤرّخ رواية (أميرة) لمرحلة الكفاح الفلسطيني بقدرات عدد من رجاله الذاتية مقابل جيش مدرّب مستجلب وتحالف عدائي استعماري مهّد للمشروع الذي وعد به وزير خارجية دولته في العام 1917م.
والكاتب هنا يذكر أسماء قادة حقيقيين ويستعين بشخصيات من وحي الخيال الواقعي ولا تنقصه الذاكرة والمعرفة ليؤكد على ما كان من تاريخ وحركة تصد وهجرة ومواجهة وقمع وتهجير وغربة واغتراب . (أميرة) رواية قضية بناسها وبراءتهم وتاريخهم وسعيهم وأحلامهم وعاداتهم وتراثهم؛ إنها رواية شعب بثقافته الكاملة ونماذج من شخصيات تمثل شرائحه المتفاوتة.
لغة الكاتب في (أميرة) عالية في الوصف والتشبيه والسرد والقص المصاحب للتشويق في انتظار الحدث اللاحق، ورموزه المبثوثة في ثنايا الأحداث والأقوال لا تخفى على القارئ.
هذه رواية النكبة بامتياز.
وقال عبد الله دعيس:
ما زالت النكبة الفلسطينية هي الحدث الأبرز الذي يفجّر قريحة الكتاب العرب، فتجود أنفسهم بأفضل ما لديهم عندما يستذكرون هذه الحادثة الفريدة في تاريخ البشرية. فأن يُقتلع شعب من أرضه ليحلّ محلّه لمم من هنا وهناك، ويصبحون شعبا جديدا في أرض تلفظهم، لهو حدث جلل، لن تنضب الكلمات التي تصفه وتتحدث عنه. فالمأساة التي حلّت بالشعب الفلسطيني هزت وجدان كلّ من حمل قلما، وأشعلت فيه عواطف جامحة جعلت قلمه يخط بعضا مما حدث.
ومع اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه، تغيرت معالم الجغرافيا، فأزيلت قرى ومدن كانت عامرة بأهلها. وفي كل قرية عاش أناس؛ أناس عاديون، كانت لهم حياتهم وثقافتهم، وكانت لهم حسناتهم وسيئاتهم، كان لهم أحلام وآمال، كانوا بشرا، مثل أي بشر. لكنهم خُلعوا من جذورهم، وتبددت أحلامهم وتلاشت آمالهم. ومع كل إنسان منهم كانت هناك حكاية ورواية، وكان ألم وكانت حسرة، فأنّى للكتّاب أن يجمعوا كل هذه الحكايات ويودعوها متون الكتب! وأنّى لهم أن يصوّروا لنا كلّ قرية وكلّ مدينة، كل شارع وكلّ بيت وكلّ شجرة، وكلّ عائلة وكلّ فرد. فرحمُ النكبة ما زال يلد حكايات تُسَطَّر على الورق، فيندى لها جبين الإنسانية التي نصرت الظالم على المظلوم، وتُؤرق بقايا ضمائر في أولئك الذين تخاذلوا ولم ينصروا هذه القضية العادلة، بل تآمروا عليها وظاهروا عدوها.
يحذو الكاتب جميل السلحوت حذو العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، فيتناول نكبة فلسطين عام 1948، فيحكي لنا قصّة المكان وقصّة الإنسان، ويرسم ملامح فلسطين بأرضها وناسها قبل النكبة ثم الملامح الجديدة التي طرأت عليها بعد النكبة، فرواية أميرة هي حكاية الإنسان الفلسطيني العادي قبل وبعد نكبة فلسطين.
يخصص الكاتب ثلثي روايته تقريبا للحديث عن الحياة الاجتماعية في قرية بيت دجن وفي يافا والقدس قبل عام 1948، فيصف جميع جوانب حياة القرية، عاداتها وتقاليدها وعلاقاتها الاجتماعية، حياة الأغنياء وكذلك الفقراء والعلاقات المتبادلة بينهم، لحظات القوّة ولحظات الضعف. يصف مجتمعا متكاملا له جذور ضاربة في عمق التاريخ، وعلاقات بين جميع أبنائه: القرويّ والمدنيّ والمسلم والنصرانيّ، وحتى أولئك اليهود الذين سكنوا فلسطين قبل هجرة الصهاينة إليها. هذا النسيج الاجتماعي الفريد بحسناته وسيئاته، كان نسيجا متماسكا، يمثل صورة مجتمع متجذّر في هذه الأرض وليس طارئا عليها؛ فالحياة لها معنى والمجتمع له تفرده وشخصيته المميزة.
اعتمد الكاتب على الإسهاب في وصف هذا المجتمع الذي انهار فجأة، في غفلة عن ضمير الإنسانية وبتواطؤ منها، ليبين حجم الجريمة التي وقعت على الشعب الفلسطيني، فكان لهذا الاسهاب أثر أكبر بكثير من مجرد وصف لفظائع الحرب والتي قد تحدث في أي مكان في العالم.
يمرّ الكاتب بعد ذلك بعجالة على أحداث النكبة، ويعود ليصف الحياة الاجتماعية للأسر الفلسطينية التي تتشتت في أصقاع الأرض، ويترك هذه الأحداث، وهذا الشتات ليحكي آثار النكبة، فيتجلّى عِظَم الجريمة التي اقتُرِفت بحق هذا الشعب.
وإضافة إلى رسم صورة الإنسان الفلسطيني، يرسم الكاتب صورة الأرض الفلسطينية. يجعل القارئ يعيش في بيت دجنّ ويرى بياراتها وقصورها وبيوتها، ثم يعرّج على يافا ويرى شوارعها وأسواقها وبحرها، وينتقل إلى القدس يلج أسواقها العتيقةّ ويصل مسجدها الأقصى يصلي فيه، ويعود ليقضي ليله في بيت دجن. تكامل جغرافي فريد يماثل التكامل الاجتماعي. فهذا شعب له أرض، وهذا الشعب وهذه الأرض ممتزجان كالروح والجسد. ثم ينتزع الشعب من هذه الأرض تماما كما تنتزع الروح من الجسد.
في روايته، يشير الكاتب إلى كثير من الأحداث السياسية خلال الفترة السابقة واللاحقة لحرب 1948. فهو يشير إلى الدعم البريطاني للعصابات الصهيونية قبل الحرب وأثنائها ودورهم في تسريب أملاك الفلسطينيين لليهود؛ حتى يتسنى لهم إقامة كيانهم على أرض فلسطين. وكذلك يشير إلى الزعامات العربية والفلسطينية التي تحالفت مع الإنجليز وخذلت الشعب الفلسطيني، وأدّى تخاذلها إلى ضياع فلسطين. وبالمقابل يُبرز الكاتب دور القيادات الفلسطينية والمجاهدين الفلسطينيين والعرب الذين بذلوا كل ما بوسعهم؛ ليدافعوا عن بلادهم، لكن حجم المؤامرة كانت أكبر منهم، فلم يستطيعوا مواجهتها وإن كانوا أدركوها ووعوا أبعادها. وكذلك يتحدث الكاتب عن السجون في عهد الانتداب البريطاني وطبيعة حياة المناضلين الفلسطينيين داخلها. ويعرّج على الأخطاء التي كانت تقع فيها الثورة الفلسطينية، مثل إعدام أشخاص متهمين بالعمالة بمجرد الاشتباه أو الوشاية الكاذبة. وكذلك يشير إلى المواقف السياسية المختلفة للشعب الفلسطيني في تلك الحقبة، مثل موقفهم من الثورة وموقفهم من قرار التقسيم.
يُبرز الكاتب دور المرأة ومكانتها في المجتمع الفلسطيني قبل وأثناء أحداث النكبة الفلسطينية. فالمجتمع الفلسطيني مجتمع ذكوريّ يمجّد الذكر ويعطيه الأفضلية، لكن المرأة ليست مضطهدة وليست غائبة عن الساحة. تبدأ الرواية بالاحتفال بمولد أميرة التي يبتهج الجميع بقدومها ويحتفون بها. ثم تقوم النساء بدور كبير في الثورة الفلسطينية، فنساء القرية يخرجن ويعاينّ أجساد أزواجهن وأبنائهن الشهداء في ساحة القرية، ويكتمن لوعتهن وحزنهن، ويكتمن معرفتهن للشهداء حتى لا ينكل الإنجليز بالقرية وأهلها؛ هذه شجاعة منقطعة النظير. ثم يكون للنّساء دور فعليّ في الثورة، فيشير الكاتب إلى دور جمعية “زهرة الأقحوان” ومهيبة خورشيد في التصدي للصهاينة.
يعود الكاتب في نهاية الرواية إلى سرد للحياة الاجتماعية للعائلات التي تشتت في أماكن عدة، فعائلة عباس طاهر المحمود تتوزع بين القدس ومخيم الوحدات في عمان، ومخيم جباليا في غزة ومخيم شاتيلا في لبنان. لكن نسق الحياة يستمر وتستمر العائلات في تفاعلها وبناء حياة جديدة بعيدا عن الوطن، فالشعب الفلسطيني لن يموت ولو طال إقصاؤه عن أرضه.
الرواية واقعية في شخصياتها وأحداثها، فالمشهد الفلسطيني يزخر بالأحداث الحقيقية التي يمكن للكاتب أن يصيغها بطريقة فنية أدبية، فلا مكان للرمزية هنا في هذا الواقع الذي يفوق الخيال. لغة الرواية سهلة سلسة تقترب من اللغة المحكية، لكنها تحتفظ بسماتها الفصيحة. في الرواية عدد كبير من الأمثال الشعبية والأغاني والأهازيج التي كانت دارجة في تلك الحقبة من الزمن. إن الحفاظ على هذه الثقافة الأصيلة هو حفظ للهوية والأرض، وهذه ميزة تحسب للكاتب.
تبدأ الرواية بولادة أميرة وتنتهي الرواية بعودة أميرة إلى حضن والديها. فهل يعود الشعب الفلسطيني إلى أرضه كما عادت أميرة؟ ينهض التاريخ هنا ليجيب: نعم!
وكتبت نزهة أبو غوش:
أميرة رواية، أحداثها تاريخيّة تعود للفترة الزمنيّة لعام 1948 أي لعام النكبة. عبّر بها الكاتب عن مدى تواطؤ الدّول العظمى في بناء كيان يهودي جديد على الأرض الفلسطينيّة، وتهجير أصحابها خارج الوطن. تلاحقت الأحداث الحدث تلو الحدث، وكأنّنا نشعر بأنّ الكاتب يجري ويلهث، ولا يدع لنفسه مساحة ورقيّة يبتعد بها عن الأحداث؛ من أجل أن يعبّر فيها عن مكنوناته النّفسيّة والعاطفيّة، والاجتماعيّة، والفلسفيّة، من خلال الشّخصيّات الرّئيسيّة في الرّواية.
وقف الكاتب جانبًا محايدًا ينظر إِلى الرّاوي الّذي يعرف كلّ شيء، ويسرد الأحداث من خلال الشخصيات نفسها بضمير هو، حيث تتحاور الشّخصيّات، وتناقش، وتسأل، وتتذمّر وتبكي، وتتألّم و…
أودّ أن أُحلّل عناصر الزّمان والمكان، والعاطفة في الرّواية.
عنصرا الزّمان والمكان في الرّواية:
في رواية السلحوت كان المكان ضحيّة للزّمان. الأعوام الّتي سبقت النّكبة،عام 1945-و1946-1947- حتّى 1948 كانت تسيطر على المكان الّذي احتلّه الثوار، على المساجد الّتي استهدفها الانتداب الانجليزي، بسبب الاحتماء بها وسبب التّجمع، الّذي يخافه الانجليزي المحتلّ. الزّمان الخفيّ، كان نقطة لانطلاق الهجرة اليهوديّة من الدّول الأوروبيّة عبر البحر إِلى فلسطين. ماذا حدث للمكان؟ ضاع مكان المهاجر اليهودي حيث كان يعيش، واستبدله بمكان آخر، هو أرض فلسطين. السّجن…أصبح مكانًا للثوّار والمجاهدين. وماذا حدث للمكان، أرض الآباء والأجداد؟ الّذي يقطنه المواطن الأصلي؟ ضاع المكان بغدر الزّمان، وبحث فيه المهاجر عن مكان بديل يُسمّى ” المخيّمات الفلسطينيّة للاجئين”. زمن 1948 هزَم المكان بقوّة، وبقسوة. الأمكنة الملموسة المعروفة. البحر والبرّ. يافا، حيفا، بيت جبرين، القدس ، ومئات المدن والقرى، تحوّلت موطنًا آخر لآخرين.
قصر طاهر المحمود في الرّواية، القصر الّذي أبدع الكاتب بوصفه، من حيث العمار والحدائق، والّذي يحلم الكثيرون أن يشاهدوه، أين ذهب؟ استبدله أصحابه بفعل الزّمن – حرب 1948- ببيت آخر في البلدة القديمة في حارة اليهود. البيّارات أين ذهبت؟ شاطئ البحر ومرسى السّفن، والمنارة و…
تغيّر كلّ شيء، وسيطر الزّمان على المكان.
تحوّلات الزّمن في الرّواية كانت سريعة ومتلاحقة، تحمل بين ثناياها الكثير من الأحداث: زواج عبّاس من سعديّة، ولادة أميرة عام 1945، ظهور الثّوار، استشهادهم، مقتل حمدان الفالح ظلمًا، وجنون أحمد خلف ، ابن عمّه. فتح السّجون للثوّار. سجن طاهر، أبو عبّاس، ولادة حفيد له، ثمّ مصالحته مع زوجته. ثمّ الحرب، ثمّ الهجرة، مقتل طاهر، وضياع أميرة والتّشتت، ضياع فلقاء، ثم لقاء أميرة بعد غياب سنوات.
العاطفة في الرّواية:
العاطفة هي بعد حيوي في الرّواية، فهي تعبّر عن مكنونات انسانيّة بحتة، ارتبطت باليأس، والفشل والهزيمة، وضعها الكاتب السلحوت، في قالب روائي اجتماعي. كان الألم، والتّعاسة، والقهر أبطالها.
عاشت عائلة أبي عبّاس حياة الألم اثر هجرتها عن أرض الوطن، أصابها الحزن والقهر لفقدان العزّ والجاه الّذي عاشته ما قبل الهجرة. تسرّب الألم إِلى العائلة بعد فقدانهم لأميرة وعدم معرفتهم أين مكانها؟
قسوة الظّروف الّتي عاشها المهجّرون في جنوب لبنان، والأردن، وغزّة…سبّبت لهم المزيد من التّعاسة، والحزن.
العاطفة العامّة، هي القهر والألم والتّحسّر، الّتي أصابت الشّعب الفلسطيني بأسره إِثر مقتل شهدائه وضياع أبنائه، ووطنه. عاطفة الخوف والقلق على المصير والمستقبل.
عاطفة القلق والاضطّراب، الّتي أصابت عبّاس بطل الرّواية، الّذي اكتشف خيانة والده لوالدته، والأبلى من ذلك ظنّه بتعامل والده مع الانجليز، وخيانتة للوطن.
عاطفة الآباء تجاه الأبناء، حبّ الأُسرة لأميرة كان مميّزًا. حبّ الابن الذّكر وتفضيله على الأُنثى. وأكبر حبّ هو حبّ الوطن الّذي سحبه المحتلّ من تحت أقدامهم.
عاطفة الشّوق، وحبّ عبّاس وسعديّة.
عاطفة الفرح المسروق وسط الظروف القاسية، نحو اقامة الزّواج بدون الأغاني والعزف.
عاطفة القسوة المصحوبة بالعنف ونوبات الأنانية الّتي عبّر بها المحتلّ نحو الشّعب المحتلّ.
وقالت نسب أديب حسين:
الكاتب جميل السلحوت يطلّ علينا بروايته “أميرة”، الصادرة عن دار الجندي للنشر والتوزيع في أيلول 2014، في 217 صفحة من القطع المتوسط.
نشهد في هذه الرواية محاولة أخرى من الكاتب تأريخ القضية الفلسطينية من خلال القالب الأدبي الرواية. فقد قدم الكاتب جميل السلحوت خلال الأعوام الثلاثة الماضية خمس روايات وهي سلسلة، تبدأ في مرحلة ما بعد النكبة وحتى ما بعد النكسة تدور أحداثها في منطقة السواحرة في القدس. ونجده هنا يبحر الى فترة زمنية أبعد لرصد النكبة منتقلا الى قرية بيت دجن القريبة من مدينة يافا، والتي هُجّر سكانها عام 1948. لتمتد فترة الرواية الزمنية خمس سنوات من عام 1945 وحتى 1950.
يسلط الكاتب الضوء على سعي اليهود لشراء الأراضي والمصانع من الفلسطينيين وبحماية بريطانية. كذلك على دور الفقراء في الدفاع عن الوطن، والذين يبيعون الغالي والرخيص في سبيل شراء بندقية للدفاع عن أراضيهم، بينما الأغنياء مستعدون لبيع أراضيهم والرحيل بما تبقى لهم. رغم أنّ بطلي الرواية الغنيين الحاج طاهر وابنه عباس لا يرضخان للضغوطات.. وعندما يغادر عباس بيته يهتم بعائلتي العاملين لديه سعيد وفايز كما لو كانا شقيقيه.
ما زال الكاتب يحاول الحفاظ على الموروث الشعبي من الأغنية الشعبية، فنراه يسجل الكثير من الأغنيات التي تتردد في الأعراس، وعند ولادة مولود جديد. كذلك عادة الاحتفالات عند العائلات الغنية.
يحاول الكاتب أن يشدد على التآخي الديني وتقبل التعددية بين أفراد المجتمع الفلسطيني، خاصة العلاقة الوطيدة بين عائلة عباس المسلمة، والمحامي حنا اندراوس المسيحي. كذلك عندما تُهجر والدة عباس مع ابنته أميرة الى بيروت برفقة عائلة المحامي حنا اندراوس يتكفلان برعايتهما، ويعاملان أميرة ابنة عباس بعد وفاة جدّتها كما لو كانت ابنتهما. كذلك يشير الى التكافل الاجتماعي بعد النكبة، ومحاولة الناس مساعدة بعضهم بعضا نلحظ هذا بشكل واضح ما بين عائلة عباس ومساعديه ووالدة منصور الفالح، وتقاسمهم السكن ومحاولة مساعدة بعضهم بعضًا.
في الرواية وجه الكاتب بعض النقد للثورة، في حادثة اعدام الشاب منصور محمود الفالح صفحة 93، بعد وشاية من أولاد عمه به على أنّه عميل للانكليز، فلم يستمع القاضي لشكواه أو يحاول تقصي الحقيقة.
اللغة والأسلوب:
اللغة سلسة مفهومة بعيدة عن التعقيدات اللغوية. الراوي هو راوٍ كلي عالم بخبايا شخصياته، المعلومات في معظم الأحيان لم تكن مثقلة على القارئ، وأحداث الرواية شيقة.
في الفصل الأخير وآخر صفحتين بالذات نجد الأحداث فجأة تنزلق بتسارع غير معهود، فيتنقل البطل عباس بين رام الله والقاهرة وبيروت في صفحتين، في سبيل للوصول الى حلِّ العُقد المتبقية في الرواية، فجأة فقد الكاتب نفسه الطويل، وقرر أنّه حان الوقت للإنهاء، لكنّها سرعة جارفة أثرت سلبًا على الرواية.
العنوان:
جاء عنوان الرواية أميرة على اسم ببنة أحد أبطال الرواية الرئيسيين، والتي تولد في الفصل الأول ويختار لها والدها عباس طاهر المحمود الاسم “لتكون أميرة قلبه”، هذه العبارة الأخيرة والتي ظهرت على الغلاف الأخير للرواية، أعطت المزيد من الأهمية لشخصية الفتاة، مما أوحى للقارئ بأنها إن لم تكن بطلة الرواية فستكون من الأبطال الرئيسيين في الرواية. لكن أميرة الطفلة كانت ما تزال في السادسة من عمرها عندما انتهت الرواية، وعدا عن كونها المولود الأول الذي يُرزق به البطل، وترحيلها مع جدّتها خديجة وعائلة المحامي حنا اندراوس الى بيروت، لا تظهر أحداث أخرى مهمة حول شخصيتها. الأمر الذي يبعث علامات الاستفهام حول العنوان والسبب الذي دفع بالكاتب لاختياره.
ختامًا نقف أمام عمل روائي مهم في رصده ما مرّ به الشعب الفلسطيني في فترة النكبة، وما لحق به من معاناة.
أمّا رشا السرميطي فقد كتبت:
أميرة؛ الطِّفلة التي حملت اسمها رواية الكاتب -جميل السلحوت-، الصَّادرة عن دار الجندي في (222) صفحة، وقد استخدم في غلافها لوحة للفنَّانة الفلسطينية: لطيفة يوسف. ما هي إلاَّ رواية ممتدة للعديد من الرِّوايات المنشورة في الأدب الفلسطيني، حول حقبة تاريخيَّة، باتت مشهورة المعالم لدى المعظم من سكان العالم. فالنَّكبة التي أصابت أرض فلسطين عام 1948م وما قبلها وبعدها، قصص روايات وأحاديث وقصائد شعريَّة لا أجدها، حتَّى اليوم، مكتملة. ربما لأنَّ المنطقة جغرافيًا ما زالت تقع تحت النَّكبة، وربَّما لأنَّه يوجد تقصير لدى الكتَّاب الفلسطينيين في توثيق التَّاريخ من منظور ثقافي.
حمل الغلاف صورة لامرأة فلسطينية المظهر، بدت باكية والحزن يلوِّن ملامحها، معها باقة مكونة من ثلاث زهرات، وهذا النَّوع من الزُّهور يسمى “شقائق النُّعمان” وهي مشهورة جدًا في فلسطين. أما عن رمزيَّة ذلك: الكاتب ربما كان من خلال هذه الصورة يعبِّر عن بكاء النِّساء الفلسطينيات، واستشهاد رجالاتهن إبَّان الحرب، والخراب الذي عمَّ أنحاء المكان. لكن؛ هل هذه المرأة هي أميرة؟ أمَّا عن عدد الزهور، فمن المتعارف عليه في عالم الورود أن العدد (3) منها يحمل معنى الأمل، والاستفهام عن موعد لقاء جديد، وكذا اللون الأحمر المشتعل يعني الفقد والوعد بلقاء آخر. وهنا؛ بدأت التساؤلات لديّ، منذ اللحظة التي قلَّبت بها الكتاب من الخارج: من أميرة؟ ما قصتها؟ وبمن تنتظر؟ وقد استندت بتلك الأسئلة على ما كُتب على ظهر الرِّواية:” سيسمِّيها أميرة؛ لأنَّها ستكون أميرة قلبه”.
بعد قراءة الرِّواية، وجدت العديد من الشَّخصيات التي ملأت بأحداثهم أوراقها. وقد كانت البطولة لمعظمهم في أدوار طويلة وأخرى خاطفة ضمن التسلسل الزَّماني، أذكر منهم: عبَّاس طاهر المحمود، زوجته سعدية، والده الحاج طاهر ووالدته، العاملان في البيَّارة فايز وسعيد وزوجتاهما، زليحة والدة سعدية، نبيهة أخت عباس وزوجها عارف عبد الكريم، حنا وجورجيت أندراوس، مهيبة خورشيد، الشيخ ياسين، بهجت أبو غربية، عبد القادر الحسيني، سميح شتيوي، أميرة، محمد عيسى، وغيرهم الكثير. ممَّا جعلني، كقارئة، أتيه أحيانًا في ربط الأسماء، ما بين الشخصية والمكان والزمان، رغم التركيز على شخصيَّة عباس المتسائل وفايز المجيب الفاعل.
مضمون الرِّواية: الرِّواية تحكي عن وجع الشَّتات الفلسطيني، وجرم العالم العربي والغربي في رد الظُّلم عن الفلسطينيين، وتكشف بعض دلائل عن تواطؤ الفلسطينيين أنفسهم، وكذا العرب مع اليهود في السيطرة على الأرض، تحت ظل الدُّول الاستعمارية القاهرة آنذاك.
أحداث الرِّواية باتت متسلسة: بدأت تحكي عن الفترة الزمنية ما قبل حرب 1948م وقرية بيت دجن وجمال يافا وبحرها، وقد امتدّ ذلك في أول (137) صفحة، وهو الجزء الأكبر من الرِّواية، الذي يفترض بالكاتب أن يوظفه للحديث عن مجريات الأحداث مع أميرة، من صفحة (138- 155) تابع الكاتب سرد الأحداث عن التهجير والإبعاد، وشلالات الدماء التي أريقت في فلسطين مارًا، مرور العابر، على المذابح التي حدثت، والشهداء الأبرز في تلك المرحلة. في صفحة (156) تحدث الكاتب، بشكل مقتضب، عن المخيمات التي لجأ إليها المهجرون وذكر بعض المناطق الجغرافية، كما قدَّم ومضات عن دور وكالة الغوث والعراق في تزويد الفلسطينيين بالغذاء والماء، أما صفحة ( 176) فبدأ السيناريو المفرح، وخطبة فايز وسميح، وأحداث ربما كانت حقيقية أو من نسج خيال الكاتب، بدت عاطفية ومألوفة، لكنَّها ليست بحرارة البداية التي كانت بها أميرة.
ملاحظات عامة حول الرِّواية:
– الزَّمان: حيث امتَّدت أحداث الرِّواية في الفترة ( 1930- 1948م) تقريبًا، وقد مرَّت الرواية عن أحداث تاريخيَّة بها، حدثت في تلك الفترة، دون شرح مسهب عنها، إذ كان بإمكان الكاتب توظيفها لإثراء الرِّواية بأحداث عظيمة، خاصة في فترة الحرب والإبادة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني.
– المكان: القصر الذي بني عام 1778م في بيارة الحاج طاهر المحمود في قرية بيت دجن، انطلاقًا ليافا، حيفا، القدس، مرورًا بقلنديا، وهنا وجدت الكاتب قد قصَّر في ابراز هوية هذه الأماكن، كان بإمكانه تدعيم موقفه “الثقافي” من خلال الأدلة الإحصائية، وإبراز المعالم الباقية بعد تهويد المكان. إلا أنني وجدت الكاتب، بمروره المكاني، خاطفًا لي كقارئة؛ ولم أعثر على المكان بعمق جزئياته داخل الرِّواية نفسها، لأنَّ الوصف كان ضئيلا. وقد حدث منعطف مفاجئ في صفحة (138) عندما وجدت الحاجة خديجة صارت في ميناء صيدا؛ بشعرها المنكوش، وهلعها على مصاب الحرب عام 1948م، فلم يمهِّد الكاتب لذلك ولو في صفحة واحدة.
– الشَّخصيات: فقد أشار الكاتب بأنَّها وهميَّة، عدا ذكر أسماء القادة، كان موفقًا بها، إلاَّ أنها كثيرة فكانت مضللة أحيانًا في الرَّبط، وربما قصد من ذلك كاتبنا تعميم الفكرة وربط ما تعرض له المسلمون والمسيحيون إبَّان فترة حرب 1948م. وكنت أتوقع منه تسليط الضُّوء على دورهم النِّضالي بشكل أعمق مما كان في روايته.
تحليل رمزيَّة بعض الشخصيَّات في الرِّوايَّة:
عباس؛ المتسائل ابن الثَّراء والعزِّ والدَّلال، يعكس صورة الفساد بتواطؤ بعض السكان مع الإنجليز وانخراطهم، فاسدين، في قضيتهم، لتمشية مصالحهم على حساب دم الشُّهداء. إلاَّ أنه، رغم الطريق العاثر الذي مشى به والده واستلذاذه بالنساء والمحرمات، وجدت الأرض كما طرحها الكاتب، من المحظورات في اللهوِّ عنده، فقد كان التحوُّل في حياة والده الحاج طاهر بعد حادثة مصنع البلاط في يافا، ورفضه لبيعه للتاجر الخواجا حاييم اليهودي.
– فايز؛ المجيب، كما سميته، فقد شعرت من خلال الكاتب بأنَّه صوت الشعب، وليس الفرد. وتحليل لمجريات الأحداث في ذلك الوقت وليس شخصًا، وإنَّما مجموعة أشخاص تحت اسم فايز. كان له الدَّور الأكبر في هذه الرِّواية، وكان الحضن الذي ضمَّ المهجرين من أهل بيت دجن في ذلك الحوش القريب من المسجد الأقصى.
– الحاج طاهر؛ المستهتر بماله، والغني عن أخلاقه وعرضه، فقد آثر اللهو والمحرمات على إقامة شعائر الله، رغم نعته بالحاج، وموقفه الديني الذي كان ينافق به، ومعرفة العديد من جلدة قريته بأنه فاسد أخلاقيًا، ولم يمنعه تشوه داخله عن العبث مع أرملة شهيد، واستذلالها بسلطته وماله. فجأة تحوَّل بعد سجن 6 أشهر لرجل صالح يتقي الله في زوجته وبيته ووطنه! وهنا وجدت تناقضًا، لا أدري هل كان ضربًا من تخيل الكاتب، أم أنَّ الصحوة قد تباغت الانسان في فترة زمنية قصيرة، ليغير مجرى حياته بالكامل.
– الحاجة خديجة؛ صورة للمرأة العربية السَّخيفة، التي ترى زوجها يجور بها فتسكت، ويكذب عليها فتصدقه، وثرثراتها حول كنّتها وأمُّها زليخة، وهي صورة لامرأة موجودة في القرى، وذلك الوقت تحديدًا، فقد وُفّق جميل السلحوت في استنساخ صورتها، وتبيان موقفها في الأحداث الاجتماعية في الرواية.
– أميرة؛ الشخصية الأقل حظًا، رغم حملها عنوان الرِّواية، إلا أنَّني توقعت لها دورًا أكبر من رفضها الحياة مع والديها، واستبدال جورجيت وحنا، أسرة لها، كأن تكون حاملة شراع العودة ومتمكنة من قضيَّتها.
– “محمد عيسى”؛ شخصية بلا دور، ربما قصد الكاتب منها توحيد الصفوف المسلمة والمسيحية في محاربة اليهود.
– سعديَّة؛ توقعت لها دورًا نضاليًا، خاصة عندما مرَّر الكاتب اسم مهيبة خورشيد، فقد ظننتها ستلتحق بالثورة وتبرز دور النِّساء في تلك الفترة التاريخية.
– الدلالات القرآنية؛ لم أجد الكاتب وفِّق في ذكر تلك الدلالات القرآنية بغزارتها ومواضعها وتنسيقها الوارد في الرِّواية.
– الأهازيج الشعبية والشعرية؛ كان جميلا من الكاتب تمرير الأهازيج الفلسطينية التي تقال في محافلنا الاجتماعية، لأنَّ ذلك من موروثنا الشعبي والتراثي، لكنَّه قد تجاوز حدود اللَّباقة الثَّقافيَّة في تطرُّقه لأهازيج مخجلة، لا ضرورة من توثيقها في كتبنا ومكتباتنا، لأنَّ بناتنا وأبناءنا ليسوا بحاجة لتلك العادات القبيحة، وقد ورد منها في صفحة (91-92)، ومما فاجأني أنَّ جميل السلحوت قد نشر تلك الأهازيج في كتب سابقة، فما جدوى إعادة نشرها في هذه الرِّواية؟
– الكوفية والطربوش؛ أعجبني ما طرحه الكاتب عن هويَّتنا الفلسطينية بلبس رجالنا للكوفية، التي يخطئ الكثيرون ويظنونها خاصة بتنظيم فلسطيني، وهي موروث ثقافي وتراثي، وبالمقابل أوضح موطن الطربوش المصري الذي انتقل لنا في فترة حكم الدولة العثمانية.
بالرغم من أنَّ الكاتب جميل السلحوت له العديد من الإصدارات، الخاصة والعامة، إلا أنَّ روايته – أميرة- لم تسلم من وجود الأخطاء الإملائيَّة والنَّحويَّة، وكذا التشكيل وتقسيم فقراتها، وفي هذا مأخذ على دار الجندي للنشر، التي قامت بطباعة العمل، إذ كان حريًا بهم تحرير الكتاب قبل طباعته وإخراجه كما يليق. عدا عن غزارة استخدام الكاتب لحرف العطف ( الواو ) مما يؤكد عدم تحرير مادة الرِّواية وتجزئتها، فقد ورد حرف ( الواو ) في صفحة (20) ما يقارب 21 مرة في صفحة واحدة! كما كانت هناك أخطاء متعددة في استخدام الحاصرتين، الأقواس، وضع الهمزات، وغيرها، وهنا أرجو من الكاتب العناية بإخراج نسخ الرِّواية محررة.
ختامًا؛ جميل السلحوت يطرق أبواب الأدب من زوايا تختلف عن غيره، لكنَّ الأسلوب يحتاج لرعاية خاصة.
ومن قطاع غزة كتب الأديب عمر حمّش:
“أميرة ” السلحوت .. رواية النكبة
عن دار الجندي للنشر بالقدس صدرت مؤخرا رواية
” أميرة ” للكاتب المقدسي الشهير جميل السلحوت، لتأتي إضافةً جديدةً، في سلسلة إصدارات طويلة للكاتب ..
كنتُ سعيدَ الحظ باضطلاعي على الرواية، وكان لي – أثناء تناولها – شرفُ الانبهار .. وكذلك الفرح والفخر معا!
الفرحُ .. بالعودةِ إلى سرد الزمن الجميل، من غير استعصاءٍ، أو نتوءات تعترض الذائقة، بحجج الحداثة،
و” جماليات ” الرمز، والتركيب .. لقد مارس الكاتب هنا الرسم بحذقٍ، فكانت رواية المشهد السينمائيّ المتحرك باقتدار، مع تضاريس النكبة، بجغرافيتها، وتاريخها .. ومع القراءة عاد للقلب الوجعُ المتواري، والبلادُ عادت ثانية بين يديّ تبكي، والأهل أمام ناظريّ رجعوا يغادرون، مع الروايةِ تحسُّ أن النكبة اليوم حدثت .. من بعد أن شتّت أقلام، وتاه كثيرون من الكتّاب في مسارب الحياة ومضامينها .. !
جميل السلحوت يعودُ إلى نبع أقلامنا الأول ” تبع النكبة ” يُعيد يافا وريفها، وكذلك حيفا، واللطرون، والقدس، وأريحا، مرورا بغزة، ومخيمات لبنان، في نسيجٍ درامي مترامي الأطراف بحجم ترامي أطراف زمان نكبتنا، وأمكنة نزوحنا!
والفخر .. وأنا مع الرواية يراودني الابتسام، مع شخوص الروايةِ وهم يتحركون، وينطقون، حتى لكأنني رأيتهم؛ يحركون الوسطى لملوك إسرائيل، وسمعتهم؛ يخبرون حكماءهم: أنَّ حروبكم هباء، وأنّ النكبة مهما طال بها الزمان؛ لن يجديّكم فيها الوقتُ نفعا . وعار رؤوسكم أيّها السارقين لم يزل يخيم!
والفخرُ أيضا .. لأنَّ رواية ” أميرة ” لن تقوى على قصفها الطائرات، وأن الذاكرة ما زالت على لهب ما جرى؛ تتقد!
الفخرُ .. لأنّ أصل الصراع بين رواية المسروق في تصديه لرواية السارق .. وها نحنُ لم نفارق .. وإن تهنا ولو إلى حين، نعاود الرويّ، بأجمل مما كان، وبألوانٍ أزهي سحرا!
لقد أمتعني جميل السلحوت .. وهو يطوفُ في ربوع البلاد المُضيّعة .. مكانا، وزمانا، وشخوصا .. رأيته … وهو لا يترك شاردة .. من النعيم الذي كان، ولا من فجيعة حدثت في نكبة المكان، بتصويرٍ هاديء .. ماتع، وإن كان مُدميا أحيانا!
هذه رواية ما جرى .. رواية النكبة باقتدار .. هديّةٌ قلم السلحوت إلى صبياننا، وهي أيضا مبراةٌ لذاكرة الكبار!
أهنئك صديقي على روايةٍ … تمنيتُ لو كنت أنا كاتبها!
ومن ندوة الخليل الثقافية:
كتبت خولة سالم العواودة:
أميرة السلحوت رواية النكبة بامتياز
رغم متابعتي اليومية لما يكتبه الأديب جميل السلحوت على الشاشة الزرقاء ومواقع التواصل الاجتماعي، الا انني لم أحظ طوال الفترة السابقة بقراءة رواية كاملة له، وهذا تقصير مني بحق قلم أنتمي اليه فكرا وروحا ،الى أن حصلت على رواية “أميرة” من اصدارات دار الجندي لهذا العام 2014، بواقع 222 صفحة من القطع المتوسط وبتصميم غلاف للفنانة الفلسطينية “لطيفة يوسف” .
فالرواية تجسد حكاية الفلسطيني أينما حل وارتحل ، أحداث متلاحقة لنكبة عام ثمانية واربعين وتهجير سكان يافا ،الرملة ، حيفا ، وقرى حول القدس منها بيت دجن ،عمواس ، وادي النسناس ، مرج بن عامر ، وقرى محيطة بالقدس .
يجسد الكاتب النكبة في شخصية الرواية الرئيسية “أميرة” ابنة “عباس طاهر المحمود” من عائلة عريقة تسكن بيت دجن، معروفة بجاهها وحسبها ونسبها وكيف أن الأميرة الصغيرة منذ أن أتت للدنيا، وهي تصارع نكبات عدة يعرج فيها الشيخ على كونها مولود أنثى لعائلة تنتظر ابنا ذكرا يرث ويحمل اسم العائلة، ثم معاناتها من جراء كونها أنثى وما تسمعه من كلمات تشعرها بالدونية منذ صغر سنها ، ويحدث مرة أن تحاول-من باب غيرة الأطفال- خنق شقيقها “محمد عيسى” ويتم اكتشاف أمرها، ويتم انقاذ الطفل بآخر لحظة، يتنبه الأهل لضرورة الانتياه لها أكثر، والعناية بها كي لا تقوى مشاعر سلبية بداخلها تجاه أخيها، وتشاء الأقدار وينزح الاهل قسرا بل يهجرون ويكون نصيب الأميرة الصغيرة ان تغادر فلسطين الى بيروت مع من رُحّلوا من عائلتها عبر سفن في ميناء حيفا، أعدّت خصيصا لتهجير الفلسطينيين بعد قتل بعضهم وارهابهم ، وتحظى برعاية جدتها ، يستشهد الجد قبل مغادرة الميناء بطلقة من سلاح الانجليز ، وتبقى في رعاية عائلة مسيحية صديقة للأسرة ، ثم تشاء الأقدار ان تفارق الجدة الحياة فتبقى الطفلة تحت رعاية أسرة المحامي حنا اندراوس صديق العائلة، فرعاها هو وزوجته كابنهم “اميل”.
يكابد والدا “أميرة” غيابها، ولوعة وشوقا لعناقها وعودتها ، ويعيشون لوعة الفقد كونهم لا يعرفون ان كانت على قيد الحياة أم هي من ضمن من قتلوا في مجازر تكررت في أكثر من قرية ، فمجزرة دير ياسين شاهد على فقد الكثيرين جراء مجازر تقشعر لها الأبدان .
تتطور احداث الرواية فيعرج المؤلف على معاناة اللجوء والفقر والحرمان، حيث الحرب افقدت الاهل كل ما يملكون فبعد ان كانو اصحاب الارض أصبحوا يسكنون الخيام ويستجدون ماء وتمرا للبقاء على قيد الحياة ، كما يعرج على صفحات مشرقة من النضال لاسترداد الارض بشتى الوسائل المتاحة ، والجهاد المقدس ومحاولاته لاسترجاع البلاد من قبضة المحتل ، تتوالى الاحداث بوتيرة وتسارع موجعين للروح .
يعرج الكاتب على أحياء القدس ويصفها بدقة، وأسلوب مشوق جذاب، فهي القدس مهجة القلب وقبلة الروح ،وما ان تهدأ الاوضاع بعد حرب 1948 حتى يعلم الأب بمكان وجود ابنته، وانها لا تزال على قيد الحياة فيبادر بالسفر لاحضارها من بيروت الى القدس لتقيم مع عائلتها في بيت اخر في القدس – غير بيت العائلة الذي هجرت منه – حيث تم استئجاره عبر الاوقاف الاسلامية للاقامة فيه لحين العودة لبيت دجن، وكحال أيّ طفل يُبعد عن أسرته ويعيش مع أسرة أخرى لعائلة، يتربى في اجواء مختلفة تعاني، الأميرة الصغيرة من فراق العائلة المربية والحاضنة، والعودة لأحضان أسرتها التي فارقتها رغما عنها، وأصبحت لا تنتمي اليها الا في الاوراق الرسمية والجينات الوراثية .
يمكن اعتبار الرواية توثيقية لفترة زمنية معينة ففيها من التواريخ والمواقع واسماء القادة ما يعتبر تاريخا حقيقياً ، كما ان فيها من الاهازيج الشعبية ما تطرب له الآذان وتستحضره الذاكرة بفرح وشموخ ، وفيها من النصوص الدينية ما يربط قضية فلسطين بالسماء فتشعر وانت تقرأها انك امام واقع فلسطيني بامتياز.
وكتب أمير الطردة:
ما زالت لم تدرك أميرة ماهية المكان الذي ولدت فيه، ولا كيف تنقّلت بين الأماكن، حيث كانت المسافات مليئة برائحة البارود، وبقايا الدموع والخوف متروكة على نوافذ المنازل العتيقة.
كانت أميرة بداية الزغاريد في حضرة وصولها النّدي، وبداية الرواية التي عادت بنا لحكاية الثوّار الذين ناموا تحت دمائهم، وودّعتهم الأمهاتُ بأصواتٍ تردد للوطن والكرامة.
الرواية فيها رجوع للتاريخ القديم، وأحداثه المضرّجة بالتعب والحسرة والوجع، وكيف نمَت الأرواح القادمة من بعيد في أرضٍ كبُرَت على أنفاس أهلها وأحاديثهم وأغنياتهم. ورغم ذلك كانت الأحداث في الرواية على مضضٍ تشيرُ إلى من كان يبني أشياءه ببيع ضميره، ودثر الكرامة والناس وكل شيء، ولباس معطف (إطعم الفم، تستحي العين)، هذا اللباس المعتّق الذي ما زال حاضراً بشراهة.
وفيها انعكاس لواقع ملطّخ ٍ بالأطماع والفساد، وأصحاب الحضور الشّرير في الحياة على اختلاف جوانبها، فكثيرون هم الذين ” يقتلون القتيل ويمشون في جنازته ” وليس القتل بمعناه المُجرد فقط، وإنما القتل في التصرف ودسائس الليل، وجلسات الحبكة والأفكار الشريرة.
كنتُ أقف على شاطئ يافا الذي كان صوت نوارسِه يجوب السطور، وكنتُ أسلّمُ على البحر الذي لم يشهد نمو الكثيرين الذين يعيشون بالقرب منه، ولا يستطيعون الوصول. كنت أتنفس هواء الشمال من حروف الرواية، رغم الأرض الغارقة في الوجوه الغريبة هناك، شعرتُ حينئذٍ بدفءٍ جديد، وعرفت لماذا يقال في التراث والدّلعونا، بأنَ “الهوا الشمالي غيّر اللونا “.
حنينٌ كثيف لأراضي الشمال وُلدَ لدي، لذلك ازدادَ حزني عليها وعلى حيفا حينما بدأ الهجوم عليها في أحداث الرواية، وكيف تضرّجت بتلك الوجوه الغريبة، وسكتَ ضوء البُرتقال على أعتابها.
جلستُ في الشوارع الأولى للبلاد، الشوارع التي رسمَتها الرواية حجرا حجرا، وخطوة خطوة، عشت تفاصيل الحياة القديمة، شاهدت النّاس يمرّون من جانبي والذعر يملأ عيونهم من هجمات المحتلين وأصوات رصاصهم، كانوا يحملون أطفالهم وبقايا أشيائِهم ويتّجهون إلى أي مكان يكونون فيه بعيدين عن شباك الرصاص، وتكون فيه رائحة الدم أقل.
كنت أشاهد كيف تبكي الأشجار بصمت، كنت أشاهد بقايا الجثث الساكنة يعبر فوقها الهاربون جثثا متحركة، ثم تجوّلت في هدوء الليل في شوارع الرواية، وعرفت ماذا يعني أن يكونَ البيت خيمة أو يكون السّقف (زينكو)، وكيف لا تأبه بأن تُغلقَ باب البيت عليك، فلا شيء في الداخل سوى سعادة مؤجلة ودعوات للسّماء.
وهذا ما حصل مع والد أميرة، حينما عادت إليه، عادت أميرة بدموع طفولية تبكي على أم حفظت وجهها وابتسامتها، إلى دموع فقدٍ لأمّ زغردت لأول الولادة، وما زالت أميرة لا تدرك ماهية الأماكن سوى احتياجها لكلمات الأم الدافئة في كل مساء.
هل ستدرك أميرة يوما ما، بأن الأرض أمٌّ أخرى..؟ سألتُني، ثم أغلقتُ الرواية على سطرها الأخير.
وكتبت انتصار عطية:
أميرة لغة : اسم علم مؤنث عربي مذكره أمير. وهي من ولدت في بيت الملك وأبوها ملك. ويسمون به بناتهم لتكون الآمرة الناهية في منزلها، تحببا بها.
آمره وحاكمة وملكة وذات أصل شريف
هذا الاسم يفتح أمامي تساؤلات كثيرة :
من هي أميرة ؟ وما علاقتها بأحداث الرواية؟ ومن هي تلك الحاكمة والآمرة والناهية ذات الأصل الشريف، ابنة الحسب والنسب؟
أهي المولود البكر لعبّاس طاهر المحمود لتكون أميرة قلبه؟
هذا ما تبادر لذهني عند قراءة الصفحات الأولى للرواية، فهي الطفلة الصغيرة التي أنجبتها سعدية، ذات الخصلات الذهبية التي تكاد تغازل خيوط الشمس اللامعة في جمالها وحسن محياها. هي تلك الطفلة التي نزلت على يد الداية كاترينا في ليلة من الليالي الجميلة التي عاشتها تلك العائلة الثرية، فرح الجميع بأميرة ابتداءً بوالدها وصولا إلى عمال السيد طاهر المحمود، فايز وسعيد حتى عوائلهما، ذبحت الذبائح ووزعت الهدايا، كوفئت القابلة ” الداية ” بليرة انجليزية ذهبية مطوقة مع سلسالها وبعض الجنيهات. عمّ الفرح جميع أرجاء هذا القصر الفاخر، باستثناء قلب خديجة جدّة الطفلة أميرة، وأمّ عباس فقد أصابتها غصة وانزوت في برندة غرفتها تداعب خرزات مسبحتها، فقد عكر عباس صفوها عندما أطلق على المولودة اسم أميرة، ولم يسمها على اسم جدتها خديجة، ظنا منها عدم محبة ابنها لها وأنَّ زوجتَه سعدية و أمها زليخة هما من حرضتاه على فعل هذا الأمر .
عمّ الفرح، أُقيمت الاحتفالات الكبيرة على شرف المولودة الجديدة، وتم دعوة الكثير من أهالي قرية بيت دجن اليافاوية، أما طاهر المحمود فقد دعا صديقه حنّا اندراوس المحامي وزوجته جورجيت، و صديقيه اسحاق مردخاي ويعقوب عوباديا تاجرا الحليب ….و إن دلَّ هذا على شيء إنما يدل على العلاقة الطيبة القائمة آنذاك بين العرب واليهود من سكان فلسطين في تلك الحقبة، اسمحو ا لي هنا …إذن الشعب الفلسطيني تعايش مع الديانات الأخرى وخاصة المسيحية واليهودية فلم تكن مشكلته اليهود أبدا كما يدعي أرباب الصهيونية باستمرار، فنحن كشعب له أرضه ووطنه ننبذ الصهيونية المقيتة بجميع مجالاتها ولا عداء لنا مع الديانة اليهودية، فقد عاش اليهود في كنف الدولة الإسلامية منذ عهد قديم وقد عوملوا بأحسن المعاملات دون اضطهادهم كما تدعي الصهيونية المقيتة.
إذن، من هي أميرة جميل السلحوت؟
تفتح أميرة نوافذ الماضي المشبع بشهقات وآلام هذه الأرض وما عليها من أناس وشجر وحجر حتى هوائها قد لُوِث، استجدى الخلاص ولكنه ما نالهُ، قبع يبكي ترياقه، لعله يرشده إلى قبس من نور، ولكن كف القدر كان له بالمرصاد .
هذه الرواية سلطت الضوء على أوضاع وهمّ الشعب الفلسطيني، الذي ما لبث أن تنفس من ظلم الأتراك إلى أن يقبع تحت نيْر احتلال همجي حقير مسميا نفسه ” انتدابا” مخلّصا لهذا الشعب من الاضطهاد العثماني، ولا سيما المجاعة التي عاشها هذا الشعب في تلك الحقبة الزمنية العثمانية، وما عاناه من تخلف وفرض سياسة التتريك العثمانية واضطهاد مسيحيي البلاد ومسلميها، فعملت بريطانيا على فتح المدارس وإدخال التكنولوجيا إلى فلسطين بشتى أنواعها آنذاك .
ولكن هيهات ، هيهات …فهناك مأربٌ استعماريٌّ دنيء ومؤامرة قد حيكت بليل ضد هذا الشعب المسالم، ابتداءً من معاهدة سايكس بيكو مرورا بوعد بلفور المشؤوم، وتسهيل الهجرات اليهودية إلى فلسطين، وتدريبهم على السلاح من قبل بريطانيا وتجريد أبناء الشعب الفلسطيني من أي سلاح يذكر، تسهيل بيع وشراء الأراضي و العقارات للصهاينة اليهود، تمليكهم الكثير منها عدوانا وقصرا، وذلك كله تمهيدا لإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، تحت شعار ” إقامة وطن لشعب لا وطن له على أرض لا شعب لها ” وهكذا سقطت فلسطين وهجّر أبناؤها واستشهد الكثير الكثير منهم، وذلك عند إعلان المندوب السامي البريطاني خروج بريطانيا من فلسطين في الخامس عشر من أيار سنة ألف وتسعمئةٍ وثمانٍ وأربعين ميلادية. لتدخل العصابات الصهيونية كما خطط لها وتفعل بأهل فلسطين الأفاعيل ابتداءً من مجزرة دير ياسين وقرية الطنطورة والدوايمة وغيرها الكثير لبثِّ الرعب في قلوب سكانها كي يهربوا ويهجروها تاركين وراءهم كنزا عظيما ثمينا لبني صهيون …و انتهاءً بنكبة 1948 ميلادية …وهكذا ضاعت البلاد .
لنكتشف الويلات تلوَ الويلات ، والتآمر العربي قبل الغربي على هذه البلاد وأهلها ..فما حيك قد أتمت حياكته بحنكة ودهاء …ولازلنا نقبع تحت نير الاحتلال وهمجيته الغاشمة على أبناء هذه البلاد …..
أما بالنسبة للعناصر الأدبية في هذه الرواية فنبدأ بالعنصر الأهم :
* الشخصيات : فالشخصيات تعددت وتنوعت، فطاهر المحمود وابنه عباس وزوجته خديجة وكنته سعدية، كانوا مترفي الحال يعيشون في القصور، وثراء فاحش وبيارات ومصنع للبلاط الذي كان محط أنظار اليهود الصهاينة والغنيمة التي لا تنال إلا بالغصب والعدوان، فقد رفض طاهر المحمود بيع المصنع أو شبر واحد من أرضه مع كل المغريات المادية، والاضطهاد الذي لحق به عندما رفض ذلك، فقد قبع ستة شهور إدارية دون سبب يذكر إلا أنه رفض التفريط بأرضه وعرضه ….
شخصية أبي عباس من الشخصيات النامية في القصة، فقد تبدل حاله من الانتهازية والإقطاعية والقيام بالعلاقات غير الشرعية، و عدم حبه للسياسة وأهلها، و نظرته للثوار ” نظرة رجعية ” فإن انتصروا فالعز للجميع وإن استشهدوا فلهم الجنة ولنا الرياء والنفاق مع أصحاب المصالح من بريطانيين وغيرهم، فهو مع الواقف كما يقول. إلى شخصية مختلفة تماما بعد هول ما رأى في سجن عكا …فقد تبدّل حاله وتاب لله وأعلن توبته لزوجته وإخلاصه لهذا البلد …وكذلك زوجته فهي من الشخصيات النامية أيضا فمن الحب إلى الكره بسبب الخيانة والانتقام من الحياة والتنكيد والعبوس، ثم من الكره إلى الحب بعد أن أعلن طاهر المحمود توبته عن أفعاله المحرمة أمامها مخلصا لها وللوطن، حيث أصبحت العلاقة بينهما حميمة جدا ..ومن هنا يدل ذلك أن الزوجة لا ترفض زوجها إلا لذنب اقترفه بحقها .
عباس طاهر المحمود أيضا تبدل حاله ونمت شخصيته ليتعرف على الثورة وأهلها من خلال فايز العامل في البيارة، الثائر ..الذي يتحلى بكامل المروءة والرجولة، المتزوج من فاطمة وعنده عدد من الأولاد، فلم يتوانَ لحظة عن الالتحاق بمجموعة الجهاد المقدس بقيادة عبدالقادر الحسيني، ومحاربة قوات الانتداب، كما أنه رجل عصاميٌّ صامت ..يعمل بالخفاء لمساعدة الجميع دون انتظار مقابل من أحد …تبدل حاله بعد النكبة ليصبح عاملا في وكالة الغوث الدولية ومساعدة اللاجئين في المخيمات الفلسطينية ….أما زوجته فهي مثال للزوجة العاقلة الرزينة، المرأة الفلسطينية الثائرة مع زوجها …فقد زوجته صبحة زوجة الشهيد سعيد صديقه الذي كان يعمل معه في البيارة ليعيلها ويعيل أطفالها بعد ما فقدوا معيلهم …ومن هنا يتبين لنا أن الهمّ الفلسطيني واحد ..وتآزر الشعب الفلسطيني مع بعضه البعض وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية …
نعود إلى عباس الذي تشبَّع دروسا من صديقه الثائر فايز، فقد تبدل حاله ليساعد الثوار قدر المستطاع بالمال و شراء السلاح، وتحسسه لأخبار الثورة والثائرين ..ليفقد والده شهيدا في عام النكبة، ويحرم من ابنته أميرة التي هربت مع جدتها خديجة وصديق العائلة حنا اندراوس إلى لبنان بعد الهجوم البريطاني الصهيوني على حيفا وتشريد أهلها …أما عباس فقد نزح مع زوجته سعدية وابنه محمد عيسى إلى الضفة الغربية ليستقر أخيرا في القدس بجوار المسجد الأقصى مع فايز ومجموعة من العوائل الفلسطينية المهجرة من قرية بيت دجن.
لينتهي به الحال للعمل مدرسا للغة العربية في مدرسة تابعة للأوقاف الإسلامية.
أما زوجته سعدية فهي من الشخصيات الجامدة التي بقيت كما هي دونما تغيير يذكر.
حفلت الرواية بمجموعة كبيرة من الشخصيات الرئيسة والثانوية…كما ذكرت أسماء لشخصيات ثورية حقيقية مثل :
عبدالقادر الحسيني وأسماء الضباط البريطان أيضا، الشيخ ياسين البكري، مهيبة خورشيد، بهجت أبو غربية، احمد علي العيساوي، الشيخ عبدالفتاح المزرعاوي …وغيرهم .
كما ذكرت بعض الأسماء اليهودية: اسحاق مردخاي..ويعقوب عوباديا وغيرهما أيضا
وشخصيات مسيحية منها: المحامي الذي يسكن وادي النسناس في حيفا حنّا اندراوس وزوجته الدكتورة جورجيت ذات الصوت الغنائي الجميل.
أما منصور حمدان فهو شخصية ثانوية في هذه الرواية، ولكن من خلاله سلط الكاتب الضوء على شريحة معينة من الشعب الفلسطيني، والعداوة الشخصية التي تؤدي إلى الانتقام بطريقة شرسة، فقد قاما ابنا عمّ منصور الحمدان بالوشاية عنه للثوار بحجة أنه عميل للبريطانيين، وذلك انتقاما منه ولسلب أرضه أيضا، حيث شكلت بهذا الخصوص محكمة ثورية للحكم عليه جزافا دون التثبت من الوشاية المتهم بها، وإطلاق الحكم مباشرة دون إعطاء فرصة حتى للتوبة والرجوع عن فعلته كما يزعمون، فحكم عليه بالرمي بالرصاص من قبل قاضي الثورة “الحاج محمد” اللامبالي من أحكامه الجائرة …فهذه شريحة أخرى من الشعب.
* اللغة: في الرواية سردية يتخللها الكثير من الحوار …سهلة واضحة لا غموض فيها ..ذكر كثير من المصطلحات الفلسطينية الشائعة آنذاك وإلى يومنا الحاضر مثل الفاردة، الطابون، الحنتور والهودج الفلسطيني وغيرها.
تخلل الرواية تسليط الضوء على الأهازيج الشعبية الفلسطينية في مختلف المناسبات، فلكل مناسبة ترويدة وأهزوجة تناسبها …فهناك الأغاني الشعبية للعروس وللعريس وإطلاق النساء الزغاريد تعبيرا عن فرحتهن ..وأهازيج الختان للذكور…إلى أهازيجٍ للطفل الذكر والمبالغة في تفضيل الصبيان على الإناث .
ولكن…كان الأحرى بكاتبنا السلحوت عدم ذكر بعض المفردات والأهازيج الواردة بتفضيل الذكر على الأنثى، فلها مرادفات كثر لا تخدش الحياء من أمثالها :
وها الصبي صبوله.
شو ما طلب حطوله
وإن طلب خبزة وزبدة قومي
يا أمه يا عبده
ويوم قالولي بنية انهدت الحيطة عليه
طعموني البيض بقشره يا
ميت ويل عليّه
ويوم قالولي غلام انسند قلبي وقام
وطعموني البيض امقشر مع زغاليل الحمام
فهذه المفردات أولى وأفضل مما ذكر في الرواية بخصوص هذا الموضوع، ولا سيما أنّ الموضوع يتحدث عن هم وطني ومصيبة جلل وتاريخ حافل، وإن أردت تدريسها أو إعطائها لسن مراهق حرج لا أستطيع أن أدعها في متناول الطلاب بسبب هذه المفردات ..ونحن سيدي الفاضل قد تعلمنا من رسولنا الكريم أن نتحاشى ألفاظ وعبارات تخدش حياء الفرد المسلم وهو خير معلم لنا .
الاهتمام بالأمثال الشعبية الفلسطينية ، التي تنسجم مع الوضع القائم آنذاك، مثل المكتوب على الجبين بتشوفه العين
راعي مالك من عيالك
النساء وديعة الأجاويد
اطعم الثم تستحي العين
والكثير الكثير من أمثالها
– حفلت الرواية بالصور الفنية وجمال التصوير والتشخيص والحذق في تصوير المشهد المعاش الواقعي ببراعة فائقة: على سبيل المثال لا الحصر بالنسبة لجمال التصوير
“أشعة الشمس تتهادى على سفح الجبل…الجبل يخلع رداءه الليلي من قمته… ينزلق الظلام هاربا من أشعة الشمس التي تطارده.
أما بالنسبة للحوار فقد حفلت الرواية بنوعيه …
– المونولوج ” الحوار الداخلي للشخصية ” وذلك عندما استغرقت سعدية بذكرياتها الجميلة قبل النكبة، وكذلك عباس وغيرهما من الشخصيات التي حاورت داخلها المكنون .
– الديالوج ” حوار الشخصيات مع بعضها البعض” وهو كثير جدا .
اتسم الحوار بالتسلسل والنمو …واللغة الفصيحة وقليل من اللغة العامية الفلسطينية .
* الأحداث متسلسلة نامية متدرجة من الأحسن إلى الأسوأ بسبب ما ألمّ بالمواطن الفلسطيني من تهجير وتشريد .
*المكان ، تعددت الأمكنة في الرواية، فمن بيت دجن إلى مدينة يافا، وادي النسناس في حيفا، حي العجمي بيافا، اللد، الرملة …حيث ذكرت الكثير من المدن والبلدات الفلسطينية وأحياءها تقريبا…ولا سيما القدس وحاراتها و أبوابها.
– ذكر مخيمات الشتات الفلسطيني :
مخيم شتيلا في جنوب لبنان، مخيم الأمعري ، مخيم قلنديا في رام الله ، مخيم الوحدات في الأردن، مخيم جباليا في قطاع غزة .
* الزمن حسب ما ورد وفُهِمَ من الرواية وبالذات عند زواج سعدية وعباس، في عام 1944 ميلادية، قبيل النكبة بأربع سنوات، وتنتهي الأحداث قبل عام النكسة 1967 ميلادية ما بين 1944__1967 ميلادي
وأخيراً أستاذنا جميل السلحوت …
لم أكن أعلم أنَّ أميرتك ستبكي مقل العين، وتجشم صدري ضيقا فوق ضيق، اختنق النفس في حَنجرتي، انسَّلت روحي مني، غابت وسرحت مع أميرتك هذه في دهاليز الأسى والحزن على وطن ضاع ويضيع، بسبب خنوع العرب والمسلمين ، لأننا نسينا ذواتنا ومن نحن، نسينا عراقتنا وأصالتنا وعروبتنا…غابت الروح في حكاية بلا نهاية ولا حتى بداية ..للحظات عادت الروح أدراجها لتصافح الحروفَ من جديد وتهيمُ معها عبر ماضٍ سحيق …
ولازلنا نندب حظنا ، ونبتهل أن يعود صلاح الدين وحقيقة كلنا صلاحا، إن صلح الحال، وتعاضد الكتف مع الكتف، ورصت الصفوف، عندها فقط سينهض صلاح ويتمترس في مقدمة الخيول والجيوش ليبزغ الفجر العتيق وتخرج الغزالة من وكرها وتضيء الطريق…
وكتبت فاطمة حوامدة:
وعى الكاتب الفلسطيني الأهمية الكبيرة للمكان والزمان ودوره في العمل الروائي، وفي بناء الشخصية الروائية، وتأثيرهما في حياته، وفي حركة الأحداث. فانطلق في تعامله معهما من خصوصية الواقع الفلسطيني الحافل بالأحداث والتطورات والتحولات، فجسد ذلك برؤية فنية تتسم بالصدق والواقعية.
رواية أميرة تفتح نافذةً على الماضي الذي يتشح بالسواد والحسرة على وطن ضاعت ملامحه وأغتصبت هويته، وانتهكت حقوقه وسلبت أراضيه ومدنه وقراه وبياراته وبحره حتى تسمية شوارعه وازقته التي كانت عليها قبل نكبته ونكسته.
في هذه الرواية ثمة تركيز لا يخفى على عنصري المكان والزمان، إذ نلحظ ومنذ استهلال الرواية أن قرية بيت دجن في فلسطين المحتلة بوصفها الميدان المكاني للرواية، والمنطلق لكل شخصياتها… حيث أن المناطق التي أصبحت مهجرة الآن في فلسطين المحتلة هي مسرح الأحداث بل ان بيت دجن بالتحديد هي الحيز الذي تتحرك فيه الشخوص في الرواية.
وبما أن الزمان والمكان هي المكونات الأساسية للرواية فسـأتحدث يايجاز عن البعدين التوأمين في رواية أميرة.
البعد المكاني: كان مسرح الأحداث الروائية في كثير من الأحيان يجري على أرض بيت دجن في فلسطين، وعن فلسطين عامة منذ ما قبل عام 1948 م بمدنها وقراها وشوارعها وأحيائها وبيوتها ومينائها وبحرها. وأحيانا أخرى في مخيمات الضفة والقطاع، أو الشتات في ما بعد النكبة.
وقد حرص الروائي على تقديم شخصياته، وهي تتحرك في وسط اجتماعي معيّن، تبدو فيه خصوصية المكان والزمان. وعمل أثناء تشكيله للفضاء المكاني الذي ستجري فيه الأحداث، على أن يكون بناؤه منسجما مع مزاج وطبائع شخصياته، وأن لا يتضمن أية مفارقة، وذلك لأنّه من اللازم أنْ يكون هناك تأثير متبادل بين الشخصية والمكان الذي تعيش فيه، أو البيئة التي تحيط بها، بحيث يصبح بإمكان بنية الفضاء الروائي أن تكشف لنا عن الحالة الشعورية التي تعيشها الشخصية، بل وقد تساهم في التحولات الداخلية التي تطرأ عليها.
أما البعد الزماني للرواية فيتجلى في العناصر الروائية كاملة، وتظهر أثاره على ملامح الشخصيات وطباعها وسلوكها والاحداث الذي يسردها الكاتب والشخصيات التي جسدها في الرواية، كلها تتحرك في زمن محدد يقاس بالأيام والشهور والسنين، وقد تم عرض هذه الأحداث وفق تسلسل زمني منطقي طبيعي .. من قبل 1948م وحتى بعد النكبة بخمسة أو ستة أعوام على الأقل.
لعب المكان دورا بارزا في الرواية التي ارتبطت بمراحل الصراع الصهيوني الفلسطيني والزمن الفلسطيني في صعوده وهبوطه ونكبته وشتاته وويلاته.
أبرز الكاتب أيضا طبيعة الحياة قبل النكبة في فلسطين من خلال حياة طاهر المحمود وترفه وبيته، والتي كانت محور الرواية التي تدور تفاصيلها في قصر طاهر وزوجته وابنه عباس وزوجته والخدم وزوجاتهم بشكل رئيسي.
حيث تناول التفاصيل بدقة متناهية، ووصف المكان بطريقة مفصلة ليتسنى للقارىء ان يراها في مخيلته كأنها أمامه، وأنه يشاهدها بكل ماهي عليه بدءا بوصف القصر وشكله الهندسي المعماري وشرفاته المطلة على بيارات البرتقال والليمون، وحدائقه وبيوت الخدم التي لا تبعد بضع أمتار عن القصر وبواباته الرئيسية، وكل الزوايا والغرف والأثاث والأحداث التي دارت فيه من ترف وضيافة وكرم وولائم وحفلات ولقاءات وزيارات.
رواية أميرة هي رواية توثيقية أكثر منها عاطفية أو روحانية أو خيالية أو غير ذلك .. بل هي حكاية وطن بكل ماتحمله فلسطين من ويلات ومجازر وشتات وتهجير وعذاب وحسرة على ماض لن يعود.
حرص الكاتب على توثيق الأحداث بتواريخ حقيقية، ويظهر ذلك في أسماء المجاهدين وتواريخ استشهادهم، والمجازر والقرى التي قتلوا من فيها وهجروا من نجا من أهلها والمعاهدات التي تآمر على عقدها العالم أجمع تمهيدا لإقامة وطن جديد على أرض فلسطين.
كما ان الرواية تزخر بالعديد من الاشارات.. الإشارات الى بعض العادات والتقاليد والأهازيج والمهاهاة والتراويد الشعبية ومراسيم العرس الفلسطيني قبل النكبة وأشعار الفرقة والنواح على ما آلت اليه الظروف فيما بعد النكبة.
وإضافة جانب التراث الفلسطيني على بعض الشخصيات ليست بالصدفة العابرة عند الكاتب، بل هو تأكيد للطابع الشعبي لهذه الشخصيات، وترسيخ التراث الشعبي مع الجانب الثقافي الرسمي السائد في المجتمع الفلسطيني.
ومن الأمور المهمة التي يلحظها القارىء في رواية أميرة المكانة المقدسة والروحانية لمدينة القدس، حيث أخذت اهتماما بارزا في الرواية بوصف أسواقها وأزقتها وحاراتها وأسوارها، وبوابات المسجد الأقصى وساحاته، ومشهد المآذن والتحامها مع الكنائس في مشهد تهفو اليها الروح، كما وصفتها سعدية وهي تناظر المكان بعد عودتها من قلنديا الي القدس وهي تقف من أعلى سطح البيت التي سكنته في حارة الشرف.
وظهر ذلك بأهمية بالغة في أكثر من مرة في الأحداث التي تناولتها صفحات الرواية… تحدث عن المسجد الأقصى في صفحة 213 وقال ان له رونق وبهاء قل مثيله .. القداسة ترخي أذيالها على المكان .. الفن المعماري الأصيل يشي بتاريخ مجيد .. اتساع الساحات والباحات متنفس للنساء والأطفال الذي أعياهم الحشر خلف الأبواب المغلقة… دخلوا المسجد العظيم من باب السلسلة والأطفال يتراكضون فرحين، يتهادى الندى على قبتي المسجد القبلي والصخرة المشرفة هاربا من أشعة الشمس .. النساء يمشين ببطء ودلال وكأنهن يردن التهام المكان.
صورة رأئعة يجسدها الكاتب بناء على تأثره بالمكان ومدى تعلقه بالقدس التي ارتبط بها ارتباطا وثيقا، وربما كان قاصدا ان ينهي عندها مجريات الأحداث للشخوص في هذه الرواية.
رواية أميرة قد تأخذ منحنى أخر لدى القراء بعيدا عن النقد والبعد الفني وقد يُقيمها على النحو التالي .إذ نجح الناشر في اختيار لوحة الغلاف، تلك اللوحة الفنية للفنانة لطيفة يوسف بهذا الوجه العابس، الذي يعبر عن مضمون الكتاب بالكثير من البؤس والأسى لهذه السيدة التي تقطب حاجبيها تعبيرا عما تضمره في نفسها أو عما أصابها .. رغم أن الدحنون الأحمر بلغتنا العامية يعطي مسحة جمالية رغم العبوس الظاهر على ملامحها.
وإن نجح الناشر في إختيار لوحة الغلاف فان الكاتب أخفق في إختيار إسم الرواية، حيث أن إسم أميرة لم يتناسب مع ما تناولته الرواية من احداث وتطورات وتفاصيل… فهي ليست محور الحديث في الرواية حتى لو بدأت بها بالزغاريد لميلادها، وانتهت ايضا عندها بصرخاتها في هذه الرواية.
وأضيف أن الرواية افتقرت لعنصر التشويق وهو المحفز الأول للقارىء لمواصلة القراءة دون ملل .وربما اسلوب الكاتب في السرد يجعل القارىء يبتعد عن مساره في القراءة او التركيز، فتأخذ منحنى مشتتا نوعا ما، وهو يتابع الأحداث فيجد نفسه متابعا لقصة اخرى كحكاية فرار المساجين الأربعة من سجنهم، وعودته الى تفاصيل الحكاية الأصلية بعد سرد مطول.
وتطرقه الى تفاصيل اخرى لا تقدم ولا تؤخر في مجريات الأحداث مما يزيد من عنصر الملل.
لكن بالمجمل لايمكن ان تُقَيّم الرواية على انها رواية غير جيدة، بل هي غنية بالمكونات الأساسية للرواية الفلسطينية التي تتجلى فيها مهمة التوثيق، واحياء ذاكرة الأمكنة التي يحاول الاحتلال طمسها وتهويدها.
هي قضية شعب وأرض هجر قسرا عنها أهلها، فهي تحمل قضية الوطن بأكمله، وان تبتعد كثيرا أو قليلاً\ عن المجرى الخطّي للسرد، لكنها تعود إلى الوراء لتسترجع أحداثا تكون قد حصلت في الماضي. أو على العكس من ذلك تقفز إلى الأمام لتستشرف ما هو آت، أو متوقّع من الأحداث. وفي كلتا الحالتين نكون إزاء مفارقة زمنية، توقف استرسال الحكي المتنامي، وتفسح المجال أمام نوع من الذهاب والإياب على محور السرد، انطلاقا من النقطة التي وصلتها القصّة. وهكذا فتارة نكون إزاء سرد استذكاري… وتارة أخرى نكون إزاء سرد استشرافي .
أمّا دعاء عليان فقد كتبت:
لدى سماعي لاسم الرواية “أميرة” للكاتب جميل السلحوت لأول مرة، أصبت بحالة من الفضول لقراءتها من أجل معرفة أميرة. أردت أن أعرف أأميرة قصر هي أم أميرة قلب؟
“أميرة” هي العمل الأول الذي أقرؤه للكاتب جميل السلحوت، وأظنه لن يكون الأخير. فلقد وجدت في الرواية من بساطة السرد ودقة الوصف إجمالا ما لفت انتباهي وجذبني إليها، جاعلا إياها رفيقتي صباح مساء، لأتم قراءتها متعمقة في تفاصيل “أميرة” ومكتشفة لماهيتها. ذلك أنني أفضل من الكلام أبسطه، ومن الأسلوب سهله الممتنع، ولقد وجدت هذا في بعض التشبيهات والصور الفنية التي استخدمها الكاتب في روايته.
افتتحت الرواية بوصف جميل لميلاد أميرة ابنة عباس ابن طاهر المحمود. أميرة، الابنة الكبرى لعباس، تخيلتها أنا، وإن لم أكن حظيت بما حظيت به من حسن الاستقبال وعظيم الاحتفال. فإن كانت أميرة أميرة قلب والديها ، فأنا – الابنة الكبرى لعائلتي- أميرتها أيضا. ولا أخفيكم هنا أنني لم أستطع منع الدمعة من القفز من بين أهدابي أثناء قراءتي للجزء المتعلق بميلاد أميرة.
جاءت أميرة إلى الدنيا، رسمت البسمة على الشفاه، وأعطت للحياة معنى في ذلك القصر الجامد الذي احتضنها إلى جانب والديها وجدّيها. ثم مرّت الأيام، وفارقت أميرة القصر لتعيش حياة ما اعتادت عليها يوما. حيث شاء لها القدر أن تكون بعيدة عن والديها، كما الطير مكسور الجناح وإن وَجد من يحتضنه. ودارت الأيام لتعود أميرة إلى حضن والدها الذي سينقلها إلى حيث كانت، أقصد إلى حيث فُرض عليها أن تكون. وبين هذا وذاك، تدور أحداث الرواية. ولا ننسى أن أميرة غادرت طفلة وعادت طفلة، أي أن كل ما جرى وأصاب شعبها وغير حياتها وحياة أهلها، كان خلال مدة زمنية قليلة. وصدق من قال: “دوام الحال من المحال.”
لقد رأيت في “أميرة” حكاية شعب ووطن، ومرآة للحياة الاجتماعية والسياسية في فلسطين خلال حقبة تاريخية مفصلية. وفيما يلي، سأتطرق بإيجاز إلى بعض الأمور المتعلقة بهذه الجوانب.
أولا: الناحية السياسية:
لا يخفى على قارئ الرواية أنها حافلة بالعديد من الأحداث السياسية التي مرّت على الشعب الفلسطيني، بعضها ذُكر بشيء من التفصيل، وبعضها الاخر أشير إليه إشارة عابرة تحمل بين طياتها الأمل والألم. ولكن ما يجمع الشيئين هو إعطاء القارئ الفرصة ليتذكر أنه كان له وطن ينتقل فيه المواطن من يافا إلى القدس، ومن الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب دون قيود أو حدود.
فلو أخذنا قصر أبي عباس كمثال ، نجد أن الكاتب وصفه بدقة وذكر أن مقتنياته وصخوره وأثاثه أحضرت من مناطق مختلفة، منها بيت جالا وسفوح جبل الكرمل الغربية والشام والقاهرة وبلاد فارس وغيرها. هنا تتجسد الوحدة والروح العربية في حيز مكاني صغير مهما كبر . وينبعث في النفس شيء من الحنين لشيء لم نعشه نحن أبناء هذا الجيل، لكننا طالما وددنا لو شعرنا به. ولتخيل شعور ذاك الذي يعيش في قصر كل شيء فيه أحضر من بقعة من وطنه، تذكر نفسك عزيزي القارئ وأنت تستمتع بصدفات بحرية جئت بها من بحر يافا أو شاطئ عكا بعد رحلة من العذاب.
وتاريخ الشعب الفلسطيني وتأريخه للأحداث الشخصية بات إلى حد مات مرتبطا بالأحداث السياسية. فانظروا معي عندما سأل المأذون عن عمر سعدية يوم زفافها، قال والدها : (عندما أعدم الإنجليز الشهداء الثلاثة محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي، كان عمرها ثلاثة أيام.”
ومن الأحداث التي ذكرها الكاتب في روايته أيضا هي المواجهات التي دارت في الثاني من شهر تشرين الثاني لعام 1945 في ذكرى وعد بلفور. وكذلك الأسلوب القذر التي كان يُتبع في التحقيق مع الفلسطينيين من أجل استفزازهم وإجبارهم على الادلاء باعترافاتهم أو التنازل عن ممتلكاتهم. إضافة إلى الإشارة إلى مذابح دير ياسين والطنطورة واستشهاد عبد القادر الحسيني وغيرها، ووصف المذابح الإسرائيلية وحال الفلسطينيين بعد التهجير من قراهم.
وكذلك تعرض الكاتب إلى دور المرأة في النضال الفلسطيني. فعلى سبيل المثال، سعدية – زوجة عباس – هي من اقترحت عليه المشاركة في النضال وشجعته على ذلك لتكون سببا من أسباب التغير المفصلي في شخصيته، وليقول لاحقا لقاسم بينما كانا في ساحات الأقصى:”لن أكون إلا شجرة زيتون في هذا الوطن.”
وأشار الكاتب أيضا إلى المرأة الفلسطينية القيادية مثل السيدة مهيبة خورشيد من جمعية زهرة الأقحوان بيافا ودورها – كما غيرها- في مسيرة النضال الفلسطيني وجمع التبرعات ونحوها.
وتجسد دور المرأة المناضلة أيضا في مساعدة الجرحى والمطاردين، كما فعلت إحداهن في مساعدة مصطفى عندما خلعت غطاء رأسها وأعطته إياه لتضميد جراحه. وكذلك لا ننسى والدة مختار قرية دير الأسد وحنينها على مصطفى، حيث كانت بمثابة أمّه التي لم تلده.
ويعتبر اقتراح زوجة فايز بتزويجه لأرملة الشهيد سعيد مثالا على تضحية المرأة الفلسطينية واتساع مداركها وعمق تفكيرها. ويبقى السؤال: هل تركت لنا هذه المرأة من يشبهها في هذا التفكير؟
ويرتبط بقسوة الوضع السياسي آنذاك ، وعلى الطرف الآخر من المعادلة، ما يسمى بالحسّ الوطني والذكاء الحربي، وهما مرتبطان إلى حد كبير بالتكافل الاجتماعي والحنكة السياسية التي بموجبها يرفض الفلسطيني السماح لعدوه بالنيل منه. ذاك الحسّ الذي يوازن المعادلة ليدب الأمل في أرواح الفلسطينيين وقلوبهم. ولنأخذ إنكار معرفة الشهداء كمثال. فرغم صعوبة الموقف، أي أن يمر أحدهم على سبيل المثال بأحد أقاربه أو أصدقائه شهيدا ملطخا بدمائه وينكر معرفته له، فذلك والله شيء عظيم، وموقف ينتصر فيه العقل على العاطفة. ومن أمثلة ذلك في الرواية إنكار طاهر المحمود معرفة أي من الشهداء الذين أُحضر للتعرف عليهم رغم أن صهره كان من بينهم.
والعدو الجاهل يظن نفسه ذكيا. حيث نراه في الرواية يتعمد إلى إحضار النساء للتعرف على الجثث ظنا منه أنهن الأضعف، ولكنه ما درى أن نساء فلسطين الذكيات الصابرات الصامدات أذكى من ذلك. حيث كان من ذكائهن تعمدهن عدم النظر إلى تلك الجثث مباشرة، إضافة إلى التحلي بالصبر والإيمان، سلاحهن القوي المتوارث عبر الأجيال.
وللوحدة الوطنية أيضا حضورها القوي حيث يتطلب الأمر. فالكاتب يذكر لنا كيف أنه في إضراب 1936، ” اتفق أعيان المدن وقرروا خلع الطرابيش واعتمار الكوفيات كي لا يميز العسكر ابن القرية من ابن المدينة.”
ويثير الكاتب تساؤلا منطقيا على لسان عباس حين قال: ” فهل سعادتنا على حساب دماء الاخرين؟”
فلو نظرنا إلى واقعنا الذي نعيشه، للاحظنا أن التاريخ يعيد نفسه. فهناك دوما في حركات التحرر الوطنية في كل أرجاء العالم من يركنون إلى فئة معينة؛ لتولي مهمة النضال بينما يجلسون هم – أصحاب المناصب المختلفة- يرقبون الوضع من بعيد متعطشين للحرية والثراء الذين يضمنان لهما السعادة والبقاء.
وعادة ما يكون أولئك المتكاسلون من أبناء الطبقة الثرية الذين يخشون على مصالحهم وأموالهم، فيسقطون في مستنقع الفساد بأشكاله، والذي أكثره عمقا وقذارة هو السياسي.
وللعملاء حكاية أخرى. حيث يتضح من خلال الرواية كيف ساهموا في اغتيال بعض الشخصيات، وكيف أنهم –وإن ارتدوا قناع البراءة طويلا-سيكشفون وتبان وجوههم الحقيقية، وستكون خاتمتهم سيئة. حينها سيخسرون كل شيء، كل شيء.
ومما ذُكر في الرواية أيضا من واقعنا السياسي ، ومن القديم المتجدد، هو ظاهرة بيع الأراضي لليهود. وما عائلة سرسق في الرواية إلا مثال على ذلك. وها هو الحال يتكرر في سلوان بالقدس هذه الأيام وإن اختلف الزمان والمكان والأشخاص.
ولقد كان لنشيد الحماس الوطني الدور الكبير في بث الروح المعنوية في نفوس الفلسطينيين ومساعدتهم على التغلب على قسوة أوضاعهم التي يعيشون. ذاك النشيد الذي ما كان ليرى النور لولا ما عاشه أبناء شعبنا من ويلات وما قاسوه من نكبات. فكان هذا الشعر والنشيد سلاحا معنويا من أسلحة الروح في حربها ضد الظلم.وما” يا ظلام السجن خيّم” إلا مثال من بين عشرات الأمثلة على ذلك.
والقدس الجريحة حالها كما هو. فعندما ذهب عباس وفايز لاستكشاف القدس وأحيائها وشوارعها بعد أن هجروا إليها، وجدوها تئن وتبكي رغم شموخها اللامحدود. وما حصارها اليوم بمختلف عما كان يومها إلا قليلا.
ومما تجدر الإشارة إليه أن أحد الشخصيات الثانوية في الرواية والتي ذكرت في جزء بسيط منها، ألا وهي شخصية ” أبو طارق العيساوي” لفتت انتباهي للوهلة الأولى. حيث أنني كفلسطينية شابة عاصرت اعتقال البطل سامر العيساوي ونضاله الطويل في سبيل حريته، بت أنجذب لكل ما يتعلق بعائلته من تفاصيل؛ لأن ثمة شيء حدثني أن لهذه العائلة حتما مسيرة نضال طويلة. وبعد سؤال الكاتب عن الشخصية أجاء ذكرها محض صدفة أم أن أنه فعلا جد سامر العيساوي؟ أكد لي الكاتب الأستاذ جميل السلحوت أن المذكور هو أحمد علي العيساوي، وهو جد سامر العيساوي.
ثانيا:الناحية الاجتماعية:
ربما يكون الجانب الاجتماعي في الرواية أحد أهم عوامل الجذب التي شدتني إلى الرواية. ففي “أميرة” وجدت البساطة الاجتماعية والعفوية والجمال الذي نحنّ إليه في أيامنا هذه. وفي هذا القسم، سأعرض سريعا بعضا من الجوانب الاجتماعية في الرواية.
بداية، كانت “الداية” تمثل جزءا مهما من النسيج الاجتماعي الفلسطيني باعتبارها قادرة على دخول بيوت الناس من كافة الطبقات، وعلى يديها ولد الكثيرون، الآباء وأبناؤهم أحيانا. ولأنها كذلك، لأنها بعد إذن الله ومشيئته سبب في بعث الحياة في بيوت طالما اتسمت بالهدوء، وجب تقديرها وإكرامها، كما يتضح من إكرام عائلة المحمود لكاترينا.
على يدي كاترينا جاءت أميرة لتعطي الحياة معنى مختلفا، ولتضيء ذلك القصر الذي كان فاتحا ذراعيه لمولود عباس الجديد.
ما لفت انتباهي وأثار تساؤلاتي هنا هو حجم الاحتفال الذي حظيت به أميرة لدى قدومها. ففي مجتمعنا الفلسطيني عادة ما ترغب العائلة بأن يكون أطفالها من الذكور، خاصة حين يكون المولود الأول للابن الوحيد كما هو الحال مع عباس. ولكننا في الرواية نجد أن عباس وأباه رحبّا بأميرتهما أجمل ترحيب، وأقاما لأجلها الاحتفالات والفعاليات. وكأنهما كانا يشعران بما ستعانيه!
أما سعدية والتي وضعت مولودتها للتوّ، فقد تمنت لو أنّها أنجبت ذكرا، فقط لتتجنب ما ستسمعه من هنا وهناك، وكأن الأمر بيدها! وحماة سعدية “أم عباس” لم يرق لها عدم تسمية حفيدتها باسمها، وهذه عادة اجتماعية لا تزال قائمة في بعض قرانا حتى اليوم.
أبو عباس بدا رجلا عاقلا متفهما عند ولادة حفيدته. وقال ” “البيوت بدون أطفال تكون خرابا”. هذه الفلسفة التي راقت لي تعكس جانبا اجتماعيا مهما، ألا وهو الحاجة الدائمة إلى وجود من يبث الحياة في أرجاء البيت، ولن يكون غير طفل أو طفلة.
ولأن أبا عباس رجل عقلاني كما يبدو، فقد تجرأ العامل سعيد ودعا له بأن يعمّر بيته بالصبايا والبنات. الجميل حقا ومجددا هو ترحيب المدعو له بالدعاء.
ومن المواقف الاجتماعية التي اتضحت لدى ميلاد أميرة نظرة الأمّ إلى حماة ابنها، حيث أن أمّ عباس ظنت ظن السوء في أم سعدية، وظنتها سبب منع عباس من تسمية ابنته باسم أمّه. وهذه المواقف المرتبطة بـ “كيد النساء” لا تزال حاضرة في حياتنا وظاهرة للعيان، وإن لم تكن تمثل الحالة السائدة.
وللاحتفالات الفلسطينية خاصة في مواسم الأعراس وطهور الصبيان طقوسها المميزة، والتي تتجلى واضحة في الأغاني الشعبية الفلسطينية و”المهاهاة” في مواسم الأفراح. وقد أورد الكاتب غير قليل منها في سياقات مختلفة.
والمهاهاة، هي ذلك الجزء الذي يتحول إلى الجزء الأبرز في الأعراس، وذلك حين تهاهي أمّ العروس لابنتها يوم زفافها، فترد أمّ العريس بمهاهاة لابنها مستبدلة اسم زوجته باسمه، أو العكس. وأنا من الأشخاص الذين يحبون هذه الفقرة لأنني أستطيع من خلالها قراءة الكثير عن الطرفين من ناحية، وأستمتع بكلماتها من ناحية أخرى.
ومن العادات الاجتماعية التي أشار إليها الكاتب في روايته هي طلب العروس لعريسها عند ميلادها، كما حصل مع أميرة. صحيح أننا لا ندري هل زفت أميرة أم لا؟ هل وصلت بلدها بسلام أم لا؟ وإن زفت فإلى أيّ الرجال زفت ومتى، ولكننا ندرك جيدا أن هذه العادة الاجتماعية ظلت قائمة إلى زمن غير بعيد في بلادنا.
وكذلك أشار الكاتب إلى عادة طلب يد الأرملة إلى شقيق زوجها. فنبيهة مرت بهذه التجربة، حيث ألقى حموها عباءته عليها في إشارة بأنه يطلب يدها لشقيق زوجها الشهيد بعد انتهاء فترة العدة الشرعية.
ولسحر الأطفال وتأثيرهم على آبائهم حضوره في الرواية. حيث استطاعت أميرة أن تعيد البسمة لوجه أبيها لحظة انفعال وغضب بعد أن سمع من فايز كلام أهل القرية عن أبيه. فيا ربّ لا تحرم أحدا نعمة الأطفال.
وأورد الكاتب كذلك تفاصيل تتعلق بالتغير الذي يحدث في الأسرة عند قدوم المولود الثاني واصفا “العدائية” التي يحملها الطفل الأول للثاني. فغيرة أميرة من شقيقها “محمد عيسى” كادت أن تودي بحياته عندما حاولت خنقه.
أمّا بعد الهجرة القسرية لشعبنا، وبعد أن تفرق أبناء الأسرة الواحدة في بلدان مختلفة، فقد اتخذ التواصل بينهم شكلا آخر يتمثل في استخدام المذياع لإيصال رسائل تسمعها أذن الآلاف لتنقلها إلى أصحابها. ما أصعبه من موقف! وما أجمله حين يخترق أذنيك صوت من تحبهم وتشتاقه!.
ثالثا:الأمثال الشعبية الفلسطينية
استخدم الكاتب في روايته غير قليل من الأمثال الشعبية الفلسطينية التي ساهمت في تعميق الفكرة أحيانا، وتوضيحها أحيانا أخرى. وفيما يلي أذكر ما ورد من أمثال، آملة بأن لا يكون قد فاتني منها شيء، فلكل منها دلالته وأهميته في السياق الذي قيلت فيه. وما ذكرها هنا إلا لتبقى حاضرة في أدمغتنا التي أثقلتها التكنولوجيا و”الأمثال” المرافقة لها.
– طب الجرة على ثمها بتطلع البنت لأمها.
– ما أغلى من الإبن إلا ابن الإبن.
– فلانة ما بتخلي مركب ساير.
– ولاد الحرام ما خلوا لاولاد الحلال مطرح.
– الموت مع الجماعة فرج.
– السكوت علامة الرضا.
– اللي ايده في النار مش مثل اللي يتدفا عليها.
– الكف ما بناطح المخرز.
– لكل بيت مزبلة.
– ذنب الكلب أعوج.
– – ابعد تحلى.
– العين بصيرة واليد قصيرة.
– عشان عين تكرم مرج عيون.
– اللي استحوا ماتوا.
– نومي غُزلاني.
قطعت جهينة قول كل خطيب.
– اطعم الفم تستحي العين.
– خذ فالها من أطفالها.
– اللي يتزوج أمي هو عمي.
– موت الفقير وتعريس الغني ما حدا يتكلم فيهن.
– أجت الحزينة تفرح ما لقت لها مطرح.
– المكتوب على الجبين تشوفه العين.
– بيت السبع لا يخلو من العظام.
– كالذي يقتل القتيل ويمشي في جنازته.
– الدم ما بصير ميه.
– ياما تحت السواهي دواهي.
– إذا راحت الدار فلا أسف على الخبايا.
رابعا: لحظات مؤثرة
لا تخلو الرواية بطيعة الحال من بعض اللحظات والتشبيهات والأسماء المؤثرة إنسانيا وعاطفيا واجتماعيا. ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
– “لفحته رائحة البرتقال فانتعش قليلا”
لقد أثر فيّ هذا الوصف أشد التأثير. فلقد خلت برتقال يافا متدليا أمامي ورائحته تعطر المكان، فانتعشت روحي حد الإدمان.
– “تبخترت السحوب على رمال الشاطئ كما العروس”
هنا تمشي العراقة بثقة وكبرياء. ما أجمله من وصف!
– محلات أبو العافية في يافا.
لا تستغربوا!
فلقد كنت في زيارة إلى يافا في منتصف أيار الماضي. وتناولت وجبة غدائي في محلات أبو العافية. حينها قال لي بعضهم: “السمك لذيذ. ليتك تناولته بدلا من تلك الوجبة السريعة.” فقلت : “لا أحب السمك.”
ولمن لا يعرف محلات أبو العافية، فهي ذات بناء قديم تفوح منه رائحة الأصالة. تعمل فيه عائلة عربية تتكلم العبرية حيث يقتضي الأمر. وإنني أؤكد أن تناول وجبة هناك أمر لا ينسى.
– “يمّة يا أميرة”
دمعة أخرى انهالت على خدي عندما قرأت هذه العبارة. فسعدية تسمع أخبار ابنتها من ذاك المذياع، وبينهما مسافات. ما أصعبه من موقف وما أدقه من وصف!
ومما أثر في أيضا هو لقاء سعدية بأمّها في ساحات الأقصى من بعد طول غياب.
وددت لو:
للحظة ما وددتُ لو أن لــ “أميرة” نهاية أخرى أراها فيها، لكنني بعد قليل من التفكير وجدت أن هذه النهاية المفتوحة هي الأفضل. ولنرسم ما شئنا من نهايات لما بعد عودتها.
وشارك في النقاش عدد من الحضور منهم: عماد الزغل، محمود شقير، عزّ الدّين السّعد، رائدة أبو الصويّ، طارق السيد، وراتب حمد.