غسان كنفاني هل يستحق أن نقرأه من جديد أو نقرأه أولا

بقلم نافذ الرفاعي

غسان كنفاني في ذكري الأربعين عاما على رحيله نقف أمام سؤالنا :هل اخذ حقه منا ام أعطيناه ما يستحق ؟؟

شاركت في لقاءين عن غسان ولم يفاجئني نوعية وكم الحضور الذي لا يقارن بالمشاهدين لمطرب او مغني لا يتمتع بمقومات فنية يصرخ بلا صوت ولا كلمات، والتساؤل والمقارنة للحضور ما بين المناسبات الثقافية والمناسبات الفارغة المضمون والمعنى، وانا انحاز الى المثقفين في موقفهم بعدم الاكتراث بكثافة الحضور، لأنهم دعاة وعي وذوق وإبداع، وهم يدركون جحود ونكران المجتمع لهم والذي قد ينتظر ما بعد موتهم ليكيل لهم الثناء والتكريم .

ومع ذلك ينقسم الحضور إلى جهتين، إحداها جاءت وفاء للانتماء الحزبي ولفصائلي لغسان كنفاني، اما أنا وآخرين فأسباب حضورنا لها علاقة بالأدب والفن، علما إنني كنت احمل الخصومة السياسية للرجل، لقد كانت علاقتي به فصائلية حيث انني كنت في سنوات الاعتقال في الثمانينات تتحكم بي مدرسة الممنوع، ممنوع قراءة اليساريين والشيوعيين والإسلاميين، وقد خضعت من سجاني الاحتلال الى عقوبة حبس انفرادي، وادخل لي مامور المكتبة حسب طلبي كل الممنوع من الكتب منعا ذاتيا من الحركة التي انتمي اليها، بل من مدرسة التخلف التي كانت تفرض رؤيتها على الحركة في ذلك السجن والذين كانت تحكمها النظرة أحادية الجانب وتغلبنا عليهم لاحقا.

وعندما أمسكت بنصوص غسان كنت أتوقع نصوصا يسارية راديكالية، فيها نزعة وديع حداد وتعبر عن الغضب اليساري القومي، فاجئني غسان عندما اكتشفت انه كاتب وأديب تربطني به علاقة الأدب أكثر مما تبعدني عنه السياسة، وجدت ان التناقض والاختلاف السياسي لا ينعكس في نصوصه الروائية، وأن غسان الأديب المبدع ، قد يكون الكثير مثلي سلكوا ا نفس المنحي في الابتعاد عن قراءة الرجل موضوعيا، بل ان البعض قادهم اختلافهم وتناقضهم السياسي الى عمى بصيرتهم الأدبية، ويبدوا أنهم لم يعطوا الرجل ما يستحقه من قراءة وتحليل.

قد تكون أسبابا أخرى حالت دون تلك القراءة وأهمها عدم الاصطدام مع رفاقه الحزبيين في تلك المرحلة والذين وضعوا حوله حصانه من النقد الأدبي، من الممكن ان بعض المناضلين محصنين أحيانا من النقد وبالتالي الابتعاد عن نصوصهم أولى من الاقتراب ودفع ثمن اختلاف الرأي مع جبهة شمولية لا تؤمن بتعدد الآراء في حينه،علما ان الفصائل أخذت رائيا مغايرا انطلاقا من تعبئة سياسية نقيضة.

وألان وبعد مرور أربعين عاما على رحيل غسان، هل تغيرنا؟

ام ما زال البعض يرى غسان كنفاني فصائليا كعضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ويحضرون ذكري غسان لأنها مناسبة فصائلية .

أرى اليوم غسان كنفاني الكاتب والروائي، انه حالة خاصة لم تندرج الكثير من الدراسات حوله مع انه يخوض في الوعي تماماً بل تنبأ وحلل وكتب، ولم يكن نصه السردي وعظي التوجه، بل يسمو الي ما فوق ذلك، ومنذ ان قرأت غسان كنفاني بتمعن شديد وكانت كتبه رفيقة زنزانتي التي منحتني فرصة ان أعد فيها الحروف.

أدهشتني روايته” عائد إلي حيفا” وأيقظت في أسئلة ما زالت حتى الان تعتمل في فكري، وعودة سعيد وزوجته بعد عشرين عاما الي بيتهم في حيفا بحثا عن خلدون، يقفون امام بيتهم، لم بتغير شيء، قدم الجندي الإسرائيلي دوف ، انه هو نفسه الابن خلدون الذي تركوه خلفهم طفلا عمره خمسة أشهر، سألهم لم تركوه! انه الآن جندي إسرائيلي، في حوار مريع مليء بالتساؤلات يطرح غسان أسئلة فلسفية عميقة ” حول الإنسان موقف” والإنسان قضية.

لقد بقيت هذه الأسئلة المعلنة محل بحث ، وما زالت مفتوحة على مصراعيها لأهل الفكر ليحللوا ويعلقوا,

وفي الرواية يقدم ابن اخر لهم وهو خالد في عملية فدائية قد يلتقي الإخوة الأعداء ويقتلون بعضهم، أيضا يكثف غسان رهبة الموقف والقضية.

ولكن السؤال الذي يحتلني هو أعمق ما أثاره غسان، حيث رمز له بان كل شيء في البيت بقي على ما هو إلا أن ريشة نعام واحدة اختفت، وهنا بعمق السؤال فلسفيا عن الفارق بين أن تكون خلدون الفلسطيني أو دوف الإسرائيلي.

يعبر بنا إلى الحد الواهن ما بين ان تكون أنت أنت، أو أن تكون أنت هو؟؟؟؟.

انه سؤال يدق أعناقنا ، لقد تعمق هذا السؤال في زنزانتي ما بين البحث عن ريشة النعام المفقودة ما بين ان يتحول الإنسان إلى موقف أو بين أن يكون الإنسان قضية

ريشة النعام تحولت إلي هاجس واكتشفت لاحقا إنها السؤال الفلسفي العميق، سؤال باهر صعب الإجابة، لقد تغاضى عنه رفاق غسان كتفاني ولم يدركه الخصوم السياسيين وتلافاه أهل الأدب.

واليوم في ذكراه الأربعين عاما اطرحه من اجل ان نقرأ غسان قراءة واعية وعميقة موضوعية من منظار أدبي محض او رؤيا فكرية ناضجة.

وأنا احضر لان غسان كاتب يستحق الوقوف عند نصوصه التي كتبها برؤية كاتب يثير قضايا ذات بعد إنساني مختلف بل اقوي من موقفه كثائر يساري راديكالي .

واليوم لا بد من إعادة قراءة نصه في رجال في الشمس، حيث مع زخم العطاء البشري يبقي للمبدعين كلمات في التاريخ، وما تبقى من زنوبيا عبارتها الشهيرة” بيدي لا بيد عمرو” .

ويسجل غسان للتاريخ مقولته” لماذا تقرعوا جدران الخزان” بمفهومها الثوري التغييري

المقاوم.

وأبو الخيزران يمثل الرجل المخصي انعكاس التردي العربي السياسي والاقتصادي والفكري والثقافي، ويثر سؤالا كبيرا!

هل يوجد قائد فلسطيني يستطيع أن يحمل فصيله أو القضية الفلسطينية الي ما فوق التردي، أن ينهض بحزبه او حركته بمجملها، أم أن الخراب يجره ليتماهي معه، وهذا ينسحب على الوضع العربي.

وهل يوجد مفكر او شاعر او قائد يستطيع النهوض بالوضع العربي فكرا او اقتصادا او ثقافة او سياسة؟؟؟؟

ابو الخيزران المتكرر عربيا ،اين البديل الضد؟؟؟؟

هذا سؤال غسان وعلينا انة نعيد قراءته من جديد ، وبعد أربعين عاما على اغتياله، وما زلنا لم نقرا الرجل جيدا، وهذا دليل علي تردي الوضع، طالب احد الحاضرين: يجب ان تقرأه السلطة” وضحكت وقلت: انه يستحق ان يقرأه جيل جديد ذو أحلام كبرى لان غسان يبشر بشيء ما.