سرقة اللحظة
تاريخ النشر: 02/12/14 | 19:45وسط كم من الضباب والضوضاء البصرية، تقف لتنبش بين ثنايا اللحظة عما تستطيع أن تسرقه من ربع الوقت أو اقل، فقط لا غير. هكذا، صغرت أحلامك لتتمحور حول بعض السرقات المحببة، أو ربما بمنطق هذا الوقت، «المحللة»، لا وفق أي دين أو مذهب سوى دين حب الحياة، والشغف باقتناص اللحظة عندما تحضر بقوة! ففي اقتناص اللحظة من بين ذاك الضجيج القاتل شكل من أشكال السرقة ولكنها ليست ككل السرقات. هي بمذاق التناغم الاول أو النظرة الاولى أو الرعشة المغمسة في الشهد!
لا وقت للقيلولة ولا لغفوة سوى هناك، حيث دفء الحضن في ذاك الزمن الذي يبدو شديد البعد الآن. لا عمر ولا وقت مخصص للسرقات. بل هي هناك تقف عند حافة الزمن تناديك عبر نسائم الصباح الأولى، وتردد عليك: هل نسيت أن على هذه الارض ما يستحق الحياة، كما قال درويش ورددناه من بعده. حتى ذاك الطفل الرضيع في مدن فلسطين كلها يقف أمام دباباتهم، وعيناه منفتحتان على دنيا تبدو أبعد من الرصاصة الاولى والقتل المتكرر. هو الآخر يعرف أنه يحب الحياة حد تقديم سنواته الأولى ثمناً لها!
السرقات تتنوع عندما تتسلل من زحمة النقاش البيزنطي، فتحلق بعيداً حيث مدن لم تزرها وبحار لم تغتسل بمائها وسفن كنت تحلم بها طويلاً، ومذاق لم تعرفه ونسمة برائحة الحرية التي تفتقدها مدننا المتعبة المنغمسة في تحليل تفاصيل الخطوة ووضع اليد عند الصلاة وكيفية الوضوء وغسل الأسنان في رمضان و.. القائمة تطول وأنت تبعد اكثر فأكثر في ذاك البحر اللازوردي، حيث تراقص حور العيون ملائكة الجمال والرحمة. حتى الملائكة عندهم هي لنشر النور. أما عندنا فهي فقط لتسجيل السيئات والعقاب والحساب لا غير!
السرقات تأتي عندما يطيل أحدهم في شرح المشروح وتفسير المفسر. هناك، عند تلك اللحظة، تهرب أنت الى الأطراف البعيدة. تقف على حافة الارض رأسك مدفون في الغيمة البيضاء ورجلك في السماء الزرقاء. تنظر من بعيد لهم جميعاً وترى كيف ان الحياة من أول صرخة حتى آخر نفس قصيرة جداً جداً. فيما نضيع الكثير منها في نثر الكلمات فحسب، من دون حساب أو معنى. تعود فجاءة الى اللحظة مع بدء الأسئلة، ليس خوفاً من الحرج من أن تبدو الأكثر بلاهة في الحضور، بل مراعاة لمشاعر الشارح والمشروح!
وهناك، عندما يحاول أحدهم أن يجذبك وبقوة الى عالمه الارضي شديد الصغر، ذاك الذي يبدو من بعيد كنقطة في بحر هنا، تنفصل عن عالمهم وعالمك وتعود لسرقة اللحظة بذاتها. تهرب بعيداً عن ذاك الحوار المستمر من داخل الخيمة المظلمة، وتخرج بحثاً عن بعض من الأوكسجين وكثير من النور. لا يمكن أن ينمو عشب الحب في ارض الظلام والتكفير. لا يمكن.
وفيما يعبث الجميع بهواتفهم النقالة، تحاول تقليدهم أو التمثيل بحرفية عالية لا تعرف من أين أوتيتها. وترحل بهاتفك الى عوالم واسعة. تذهب الى جزر اقرب لك من كثير منها ومنهم، وترقص على أنغام زوربا ثم تمر فوق البوسفور، فهذا ليس لهم وحدهم ولا لدولة العثمانيين الجدد فقط، بل هو لكل البشر كما الهواء والماء والأوكسجين، لا رقيب عليه. هو مشاع لنا ولهم ولهن!
وأنت تغير صفحات الأجندة، تسقط ورقة منها. هي مما تسرقه أيضاً من بين الاوراق المبعثرة. تحمل كثيراً من تعبك وبعض هواجسك وقلبك المتعب وحزنك المعتق في الأيام الطويلة وتبتعد. هي سرقة معلنة بعض الشيء، ولا تخجل عندما تعود الى الورقة التي تليها، سواء كانت يوماً أو أسبوعاً أو شهراً، فتردد أنك كنت هناك وكان الزمن اكثر عذوبه وللريح صوت الموسيقى وللبحر انغام «اليامال» التي كان أجدادك يرددونها في رحلاتهم لصيد اللؤلؤ شديد النقاوة والملتصق بك منذ الطفولة. ذاك الذي قالت لك أمك يوماً إنه سيكون عقدك الأول، ترتدينه في تلك الليلة البهيجة. رحلت الليالي كلها وبقي العقد حبيس علبته، فلم تأتِ ليلة البهجة الموعودة كما وصفتها جدتي!
آه كم بقي من الوقت لتكثر سرقاتك البريئة. كلما بعدت الايام بك وشاب الشعر كثيراً وأضيفت بعض التجاعيد على مساحة الوجه المتعب، أوقفت انت الزمن ورحت تبحر في سرقاتك التي كانت، وتلك القادمة لا محالة.
خولة مطر – السفير