ألفرّان..وعبد الناصر..والحاكم العسكري
تاريخ النشر: 07/12/14 | 12:39• لم يكن “الفرّان”..فرّانًا!
يمكن أن يكون الرجل العجوز كل شيء..إلا أن يكون فرّانًا!
لا علاقة له بالأفران أو المخابز أو الطوابين من قريب أو بعيد..
ومع هذا فقد كان “فرّانًا” بأربعة وعشرين قيراطًا..غير أن لها مذاقًا آخر يختلف عن باقي الفرّانين في المدينة!!
أما أن يكون “فرّانًا” ويبيع الجريدة وينادي بصوته الذي يمتد عذبًا حتى يطال السماء..ويكون الصديق الحميم لعبد الناصر..فتلك حكاية غريبة!
وكيف كان ذلك؟
إسمع يا محترم!
عرفه الناس في الناصرة باسم “الفرّان”..أو “عمّي جريدة”!
ولم تربطه صلة بالصفدي أو قعوار أو زعرب أو رمضان..أو غيرهم من أصحاب المخابز في المدينة..ولا أحد يعرف من أين وكيف حل عليه والتصق به هذا اللقب! وكثرت الروايات..ولا سيما ما غصّ به كتاب “فهرس الألقاب والأعلام”..لصاحبه العلامة أحمد بن عليّ بن ناصر بن سلام.
نحيف طويل..محدودب الظهر قليلا..يبرز من وجهه أنف معقوف..وتغطّي رأسه طاقية بيضاء مخرّمة..تطلّ منها نوافذ وشرفات تشرف على الجهات الأربع لتهوئة الصلعة الصلعاء. تغطي الطاقية مساحة نصف رأسه أو أقل من النصف..مثلها يضعه على رؤوسهم المتقدمون في السنّ عادة أو المتدينون..ويرتدي شروالا أسود..يزنّره بالشملة..على عادة أهل الشام وأهل الشمال في وطننا ولا سيما القرويين..
• “ألبُوم”..و”ألأوباء”..
لم يكن “الفرّان” فرّانًا..غير أنه كان يبيع “الخبز” الصحافي على شكل صحيفة يومية اسمها “اليوم”!!
كان بائعًا متجولا للصحف المحليّة..
وكان اختصاصه بيع صحيفة “اليوم” الراحلة غير مأسوف على شبابها أو شيبتها وعيبتها..وهي الصحيفة الهستدروتية الحكومية التي كانت تفرض على الموظفين ولا سيما المعلمين ومديري المدارس..”يدفع” هؤلاء الغلابى مقابل اشتراكهم فيها خصمًا من رواتبهم..ورغمًا عنهم! وإلا..فأبو كلبشة يتربص بهم من وراء الكواليس..لينقضّ على رغيف خبزهم..وقوت عيالهم..ويصادره من أفواه أطفالهم!!
وأبو كلبشة هذا غبيّ أحمق..لم يكن يعرف أن قطع الأرزاق من قطع الأعناق! لم يقرأ التاريخ ولا يعرف شيئًا في علم التاريخ..وينتمي إلى فصيلة غزاة لا يقرأون!
وذات يوم..رحلت صحيفة “اليوم” ووُوريت التراب..غير أنها ما لبثت أن نهضت من بين الأموات..فبعثت من جديد..وهلّت علينا في زيّ جديد!
جاء في أمثال الشعوب “أنها السيدة نفسها..هي هي..بزيّ جديد”..وعلى جبيها لافتة كتب عليها “الأنباء”!
يروي علماء الآثار أنهم نقّبوا وحفروا في قلوب الغلابى المغلوبين على أمرهم..وأنهم وجدوا على جدران القلوب عبارة محفورة بأحرف من نار “لا أهلا..ولا سهلا..ولا مرحبًا!”.
جاءت صحيفة “الأنباء” لكي تكمل المسيرة التي بدأتها “طيبة الذكر”..اليوم!
ويطيب للقريحة الشعبية أن تتفتق عن ابتكار ألفاظ جديدة..وأن تلجأ إلى البلاغة العربية..وتحط رحالها في فن التصحيف..فتفتح الأبجدية العربية صدرها لاستقبال أسماء جديدة..
تصبح “اليوم”..”ألبُوم”!
وتصبح “الأنباء”..”ألأوباء”!
وفي كلتا التسميتين كان للأسماء من أصحابها نصيب!
كانت الأولى “بومًا” ناطقًا بلسان السرايا..فرفورة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط..بل في العالم قاطبة!
وكانت الثانية “أوباء” ترعرعت في المياه الآسنة..وراحت توزع “عطورها” الباريسية “الفواحة” التي تزكم الأنوف وترشها على الشعب الباقي في وطنه!
**
“ألفرّان” يحرث شوارع الناصرة وحواريها وأزقتها حرثًا..ويدبّ الصوت دبًّا..مدلّلا على بضاعته الكاسدة..جريدة “اليوم”!
– جريدة “اليوم” عمّي جريديييييي..أهمّ الأخبار عمّي..جريديييييييييييي..
ويروي مُريدوه أنه لم يكن يعرف القراءة..كان أمّيًا..لا يقرأ ولا يكتب!
لا أحط على ذمّتي..وأعترف أنني لا أعرف..ولم أكلف خاطري للبحث عن الحقيقة!!
ويروي الرواة أن أحدهم كان يقرأ له العناوين الرئيسية في “الكزوطة”..فيسجلها في الذاكرة..ثم يجلجل صوته عاليًا..ويشقّ سماء الناصرة:
– ابن غليون (أي بن غوريون) ينسحب من سيناء..عمّي..جريدييييي!
– ثورة في العراق..نوري السعيد يهرب في لباس امرأة..عمّي..جريديييي!
– ألفرنسيون المحتلون يعذبون جميلة بوحيرد بطلة الأوراس..عمّي..جريديييييي!
**
ويتفنن في لفظ كلمة “جريدة”..فيمطها..ويموسقها..ويرفعها عاليًا عاليًا..”جريديييييييي”!
يدوّي صوته..ويشق عنان السماء!
وتكون اللازمة الموسيقية التي نسمعها كل يوم مئات المرات..
يشق الرجل طريقه من عين العذراء..مرورًا بالبابا بولص السادس..وانتهاء ببئر الأمير..وهناك يحط رحاله..فيلجأ إلى الراحة في الواحة..ثمّ..خلفًا دُر!
يترك الأميرَ وبئره..ويشد الرحال نحو الشمال..فيمر بالبابا بولس السادس..ويلقي عليه التحية..ويتابع المسيرة حتى يصل عين العذراء..فينزل في باحتها..ثم يعبّ ماء زلالًا من عينها..وينعم بشرب الراح من راحتها!
**
• بن صفي..وابن صفية!
ذات صباح تناقلت الإذاعات والصحف ووكالات الأنباء نبأ انتخاب إسحق بن صفي رئيسًا للدولة الفتيّة..
ويصيح الفرّان بصوته المميّز:
“بن صفي رئيس دولة..عمّي..جريديييي!
جريدة “اليوم” عميّ جريدييييييي!
أهم الأخبار عمّي..جريدييييييي!”
ويستمر في معزوفته اليومية المميزة التي تهتدي إليها من بين آلاف المعزوفات!
وفي لحظة معينة تخرج الذاكرة إلى تقاعد مؤقت..ثم تعلن إضرابًا..ثم تتعطل نهائيًا!
فقد وقعت الواقعة..ونسي اسم رئيس الدولة!
يلتقي “الفرّان” بشاب عابث عابر..ولكنه ملعون وماكر..ويتحلى بدرجة عالية من الخبث والدهاء..فيستعين به ليقرأ له بعض أنباء الصباح..ويذكّره باسم رئيس الدولة!
ويتحول “بن صفي” بقدرة ماكر إلى..”ابن صفيّة”!
وعائلة صفية كانت تسكن في حارة “الميدان”..وهذا “الميدان” ظل ميدانًا للألعاب والمباريات الرياضية إلى أن حلت محله سينما “ديانا”..وما لبثت “ديانا” أن غابت عن المسرح واختفت في الأرشيف النصراوي..وأصبحت أثرًا بعد عين!
فلا ملعب ولا “ديانا”!
وكان بين الفرّان وبين “بني صفية” شأن..فقد مرّ فأر أسود بينه وبينهم..وكثرت حول هذا الفأر الروايات والحكايات!!
يخطر الرجل أمام بيتهم..ويصيح بأعلى صوته:
“جريدة اليوم عمّي..جريدييييييي!”
ثم يدعس بنزينًا.. فيشتد عزمه ويجلجل صوته منطلقًا من قراقيح قلبه ثم من أعماق حنجرته فيصعد عاليًا عاليًا:
“الدنيا آخر وقت عمّي..إبن صفيّة صار رئيس دولة..عمّي..جريديييي!
إبن صفيّة “المقلعط” صار رئيس دولة..عمّي..جريدييييييي!”
**
هذه الحكاية يرويها بعض ظرفاء الناصرة..والله أعلم!
**
• عبد الناصر..لن يقصر!
وعن “الفرّان” تروى حكاية أخرى..
فقد كان لا يملّ من ذكر اسم عبد الناصر في نداءاته المتكررة..بمناسبة وغير مناسبة!
كان يحلو له أن يلفظ اسم جمال عبد الناصر..ويعيد ويكرر ويستمتع ويزداد تألقًا واستمتاعًا..ولا تتعب الأسطوانة الفرّانية!
“عبد الناصر عمّي جريديييييي!
عبد الناصر أمّم القناة..وطرد الإنجليز..عمّي جريديييييي!”.
لقد أحبّ عبد الناصر..وكان يلفظ اسمه بفرح وفخر..
يصل الفرح أوجه..فتتدفق دماء الشباب في عروق الرجل..ويعود الشيخ إلى صباه!
**
ذات يوم يمرّ “الفرّان” من ساحة المدينة التي يكثر فيها السياح الأجانب..
كنيسة البشارة الجديدة والكازانوفا وحوانيت بيع التذكاريات..طه محمد علي وفيصل محمد علي..وحانوت عطية للسمانة ومكتب باصات “الجليل” وصبحي ونقولا جرجورة وسليم فرح وحنا شومر..وتاكسيات “أبو العسل” والحكيم ومطعم “أبو نصار” ومقهى “السلام” للحتاحوت.. ومكتبة “الشعوب” لتوفيق سليمان وسينما “أمبير” وبرهان وعثمان كنج..إلخ..
هذه هي أبرز العناوين في هذه المنطقة السياحية الصاخبة.
**
ألدنيا نار..
ففي تموز..يغلي الماء في الكوز..وتفتح جهنم أبوابها..
وفي مركز المدينة الذي يجاور كنيسة البشارة الجديدة..تجد بحرًا بشريًّا يهدر بناس من جميع الأجناس.
تطير العصافير من الدول الأوروبية الباردة لتحط في مدينة البشارة..وتتدفأ بصيفها الشهي..
ألمشهد ينغل بالسائحات الأجنبيات الجميلات..واللابسات من غير “هدوم”!!
الفتيات كاسيات عاريات..الأجساد البيضاء متعطشة لأشعة الشمس اللاهبة..ترسل الشمس أشعتها الذهبية..فتلفح الأجساد البضّة..ويسري الدفء في الدماء..فتتململ البراكين..وترفع راية التمرد لتتحصّن في قلعتها في ما تبقى من بقايا بقايا الثياب..
ألصدور تدكّ الحصون..وتشدّ انتباه عابري السبيل..شيبًا وشبّانًا..وتنظر الفتيات اليعربيات العابرات إلى هؤلاء الأوروبيات..فتبتسمن على حياء!
يصيح الفرّان:
الدنيا ولّعت..عمّي..جريدييييييييي!
أهم الأخبار عمّي..جريدييييدي!
عبد الناصر عمّي..جرييييييدي!
يتقدم أحد الشباب العابثين الماجنين من الرجل العجوز فيهمس في أذنه:
-غدًا سيأتي عبد الناصر..”ويتزوج” جميع هؤلاء الفتيات..ولن يقصّر!
فتشتعل النيران في الدماء..ويردّ الفرّان بصوته الرفيع الذي يملأ سماء الناصرة:
– شو بدو “يلحّق تا يلحّق” عمّي..جريديييييي!
عبد الناصر عمّي..جريدييييييييي!
**
هذه هي المدينة الطيبة!
وهؤلاء هم زنّادوها وظرفاؤها وماجنوها!
**
• عبد الناصر..والحاكم العسكري..الخواجا دوف!
“عبد الناصر..عمّي..جريدييييييي”!
هذا النداء..كان النشيد القومي اليومي على لسان “الفرّان”.
في ذلك اليوم..تعبت “اليوم” من الحملات اليومية التي كانت تشنها على عبد الناصر فلجأت إلى استراحة المقاتلين..
ففي ذلك اليوم لم يكن هنالك خبر في “اليوم”..لم يكن أثر أو حرف أو بعض حرف عن عبد الناصر!
ورغم هذا تدور الطاحونة باللازمة التقليدية..فيصدح صوت الفرّان عاليًا:
“عبد الناصر عمّي ..جريديييييييييييي!”
ويطيب للحاكم عسكري الخواجا دوف أن يستدعي الفرّان..ويستجوبه عن سرّ النداء!
فيرسل “شُرابة خُرجه” -واحدًا من أجاويد الأعاريب- للاتصال بـ”الفرّان”..وإيصال الرسالة:
عليك أن تحضر إلى المسكوبية..والامتثال أمام سعادة الحاكم!
يسأل الحاكمُ العجوزَ الغلبان:
– ليس هنالك خبر في الجريدة عن عبد الناصر..وأنت لا تكفّ عن ترداد اسم عبد الناصر..أين عبد الناصر!؟
فيجيب الفران: بدنا نعيش عمّي..جريدييييييييييييي!
يبتسم الحاكم “المثقف”..ابتسامة لا تخلو من “تسامح”..فيرفع الحصار عن الفرّان..ويطلق سراحه!
يبتسم الرجل..ويخرج من مكتب الحاكم العسكري عنترًا..صائحًا بأعلى صوته:
– عبد الناصر عمّي جريدييييييييي!
ويعلو عبد الناصر عاليًا عاليًا حتى يغطي سماء المدينة..ويطير الصوت مع سرب العصافير المهاجرة..من سماء الناصرة..ليحلق عاليًا ويفرد أجنحته لترفرف في سماء القاهرة!
**
فتحي فوراني
حيفا، 5-12-2014