لهب الوطن والأمل يتوهجان… من القصيدة السمراء
تاريخ النشر: 29/07/12 | 4:50“لهب الوطن والأمل يتوهجان… من القصيدة السمراء”. اسرار القصيدة السمراء للشاعر د. زياد محاميد في رثاء الشاعر راشد حسين
عندما يحاكيك النص الأدبي ويقدم لك سيره متكاملة بتفاصيل دقيقه وحاله انفعال قويةلا يمكنك ان تكتفي بالفرأة فقط …تجد نفسك متحيزا للنص وربما للسيره فتكتب ليزداد انفاعلك طاقه تنتقل للاخرين ….هذا ما حصل معي اثناء قرأه القصيده السمراء” للشاعر الطبيب الفحماوي د زياد محاميد،التي يخلد بها الشاعر الفلسطيني الكبير راشد حسين ابن قريه مصمص…فالقصيده تتميز بقوه التعابير الشعرية الملتزمة وقوه الصور الشعرية المأخوذه من سيرة الشاعر راشد حسين…واصفه المكان بتفاصيلة والزمان بدقته…لتجذب القاري وتسيطر على احاسيسه فيبدأ بانتظار الحدث الدراميتيكي وكان الشاعر يقوم بعمليه تنويم معناطيسي للقاريء مهيا له كرسي الأ سترخاء كي يتحمل صدمات اتيه طالما تحدث عنها الناس وتسالوا ولم يجدوا اجوبه دقيقه عنها وربما لن يجدوا…..
الشاعر ينجح في مسكك يد القاري ومرافقته في رحله مليئه بالقوه والحزن والصمود والارادة والانفعالات التي يحملها الشاب الفلسطيني الممزق بين اجزاء الهويه واحلام الناس وهمومهم ليحسم امره بالهجره المتحوله له لجحيم من العذب والشوق والحنين ….والموت..
هنا ..هنا …(في مصمص..في الوطن ) يبدأ الشاعر في سرد النص لينتهي هناك …في نيويورك…لكنه يكرر هنا مرتين ليعبر عن البعد الجغرافي الذي اصبح صفرا بفعل ذكاء وانتماء الشاعر راشد الذي اهد كمشه تراب…حين يقول
” هنا..هنا
ومثلما هناك..
حين فاضت جداول الحزن
على خدود قلبك
واخاديد جرحك
أخذت من الحي القديم..
كمشة تراب..
تعفر بغبار الزعتر..
في جيب معطفك المشفر..
لتنثررها قطرات حنين..
زكية شقية نقية
على حدود طيفك،
في مرايا الحي الجديد…
في الفنادق النيويوركية..”..
وكان الطبيب يصف العلاج للجرح الذي” فاض على اخاديد القلب” وهو” كمشه تراب تعفر بغبار الزعتر”….نثرها المهاجر على حدود طيفه..فالطيف هو الذي يتواجد في نيويورك….والفكره هنا تؤكد انتماء راشد للوطن فكانه بقي هنا جسدا ولم يهاجر الى الخارج الا طيف التسائل عن حقيقته في المرايا…..وهنا ينجح الشاعر بخلق حاله الصراع بين البقاء والهجرة…الصمود والرحيل….”هنا هنا ” –الحي القديم …كمشه تراب –زعتر…و”هناك”- طيف…في الحي الجديد..الاسم المرادف لنيوروك…وللفنادق …والفندق هو رمز للسكن الموقت..اي ان الشاعر نجح في فرض البقاء كحقيقه لا نقاش حولها مقابل الهجرة واللرحيل واللجوء كفكره مؤقته.وهو ما يتناسب مع امل العوده الذي يحمله ابناء شعبنا ….
تفاصيل المكان :
الحي القديم ..مرج ابن عامر- مجيدون –اللجون – الروحه المنشيه في قريه مشيرفه- نيويورك…الفنادق….:ظروف مكتنيه استخدمها الشاعر لتخدم تراكم التفاعل الانتمائي بتفاصيله الى المكان وهو الوطن …..الكمشه –الفراشة.. رائحه الزعتر – النحلة- عبق الزعرورة…وهي حالات متحركه دينامية تفيد نقيض السكون والثابت…لتعكس نفسيه الشاعر راشد حسين وهي نفسيه تشبه “نفسيات ” المثقف الفلسطيني المنتمي المنحاز لوطنه مقابل انحيازه للدولة التي اصبح بها اقليه مقابل كونه الاكثريه قبل عشرين عاما واقل….
الاحساس بالماضي..والأحساس التاريخي في اطار احساس شعري في بوتقه من الادب الانشائي القومي الملتزم..يرفقه فيض عاطفي ..(sentimentality) والهام شعري inspiration)) بانسجام وانسياب زمني ينتقل الكاتب من رحله لمرحله ليغلق بها دائره البقاء بتحقق العودة الى الحي القديم..على تلة تطل على وادي عاره..ما بين مجدو والروحة….لتتحول حياة راشد حسين ورحلته وشعرة الى اسطوره…بترتيب تاريخي في مركزها التجربه الحسية…فيكون غبار الزعتر حلقه اولى لتنهي القصيدة بنسمات الصباح الصيفيه او الشتائية …..وحس نور الشمس الندى والفراش وهمس القوافي..حيث تجتمع جميع الحواس لتشارك في وصف الحاله التراجيديه للموت والعوده لشاعر كبير وصل مرحله الهدوء المطلق بعد ان تنبا الأنتفاضات كلها..واحس بها وعاش جزء منها في غربته…ليفجر انتفاضته الاولى في اكثر مكان عمومي في نيويورك وهو مترو منهاتن ..ليصل صداها ارض المخيمات في الاردن والبنان وغزة والضفه الغربيةالمحتله…”
هناك..ومثلما هنا..هناك
تشتعل…
من فمك …ومن المك
من همك ووهمك
من كتمك حلمك ردمك عتمك
حتمك يتمك
ومن دمك..
تشتعل في مترو منهاتن ..
إنتفاضة حزنك،
الحبلى بالشوق والغربة..
تتيه تحت المصابيح الكهربية..
فينسكب الحب العامري
في خطوط الهاتف البيرودمشقي
فيفوح عطر نعناعك
المهرب من الجمارك
كالممنوعات..
ليبرق شعاعك..
في عتمة المخيمات..”
هنا التمس صوره معقده لتركيبه جديده مكوناتها الحدس الفني artistic intuition والجنون الشعري….poetic madness وهي ميزه نادره لدى شعرائنتا المحليين….ظهرت جليا في احتدام واقع الغربة وتصادمه بالرغبه الجامحه بالتواصل مع الوطن رغم كل الامه وتجمع الذكريات ليضعها د زياد في قالب غريب سكبه ربما من بعض المعلومات المنتشره هنا وهناك حول الحاله النفسيه للشاعر راشد حسين حين بدأ يسجل قصائده صوتيا على اله تسجيل “مسجل” بعد كتابتها..ربما لينقلها لنا بكل صدقها “لحاسه السمع وهي الحاسه الاكثر اهمية للانسان وهي الحاسه التي لا تنام ولا ترتاح … وهنا يفهم د زياد الحاله ليكتب واصفا اللحظه وصفا تفصيليا دقيقا ممتعا..ويقول :
وهناك ..لا هنا…
هناك في “لا سواك.”.
تجتمع خلايا الذاكرة المهرولة
كخلية فدائية..
نحو حريتك الموعودة
في سماعات الة التسجيل الساخنة كجدران جهنم..”
وكما يبدو فانه فعلا اصبحت امريكا ونيويورك “جهنم” لراشد حسين حين توحد في غرفته مع اله التسجيل يقرأ ويسجل ما يكتب فتحترق الغرفة ويرحل راشد بينما تدور عجلات الشريط في اله التسجيل ليسخن المسجل بسخونه جدران جهنم….
هذه الصوره الشعرية poetic image هي في الواقع صوره حية living image او صوره منظوره visual image …للحظات راشد حسين حيا وشاعرا يحمل تراكمات المهجر والمعاناة…وهي مسكوبه هنا بشكل رمزي وشكل عضوي متماسكان لا يمكن فصلهما لا شعريا ولا تاريخيا (symbolic form ,+organic form
وانا اعتقد انه هنا يصل الكاتب د زياد الى قمته الابداعيه كشاعر ومؤرخ ومتحدث عن رواية وسيره لشخصيه تهمه كشخصيه الشاعر راشد حسين..ليلخص قاعدة معاناتها التي نمت عليها هذه اقمة بكلماته الوصفيه الرائعة لواقع الشاعر في الحي القديم وفي الحي الجديد بالكلمات التالية :
هنا..مثلما هناك…
ماذا يعطيك الأمل الداكن…
حين يتراكم الألم
في كل المساكن….والأماكن..
بعلو عمارات الكرياة ..
والموساد والشاباك…..
سوى قفزه لمقعد جانب الشباك..
في طائرة.. كالصقر مستنفرة
لا تملك فيها الا الأختناق..
وفي جيبك بقايا التذكرة…..
ويواصل في مقطع اخر يكتب :
وما عاد قلبك يحتمل….
دعوات التحقيق المستنفرة
على مائدة الفطور مبعثرة..
بللتها منقوشة ..
بزيت تخرج للتو من معصرة..
ما عاد قلبك يقبل..
اختباء المقال..
سجلته قصرا بحبرك السري…
حين استصرخ الوطن بالسؤال
عن الجريمة والمجزرة..
وكان تفاصيل حياتك..
عندهم.. صارت مسخرة….
وهنا تبرز الحقيقه المره بالكم الهائل من الملاحقة والأستفزاز ومحاولة اسكات الشاعر راشد في وطنه..ليقرر نهائيا الهجرة…وفي المهجر ..وبعد تجربه العذاب يصبح راشد اكثر رشدا…ليحول الكلمه لسلاح يناضل به حين نام الحكام وصار الشعب الفلسطيني شعب خيام ..اذ يكتب د زياد ملخصا الحاله التاريخية فيقول :
ا راشد..
يا راشد التكوين والتلوين ..
رافع الكفين…والجبين..
يا راشد القلم والقوافي والقصيدة..
يا حسين السمرة..
والأحلام الزهيدة..
سرقت من لفح الشمس سمرة الوشاح..
ومن همس السنابل..
استعرت بلسم الجراح
ونزحت لاجئا للجريدة والقصيدة
وطيب الكلام منك صار سلاح
تحكيه عن حرية..وكفاح
لا يغفو ولا ينام …
والحكام بالخطابات هيام…
وعن وطن سرقوه
في عدة ايام..
وعن شعب نكبوه..
وصار اسمه
شعب الخيام..”
ويصل د زياد قمه القمم حين يستعير افكار راشد حسين الشعريه وخصوصا ما اشتهر به ليوظفه في شرح نبؤه الشاعر عن التمرد والانتفاضات التي حصلت..حين كتب : تحكيه عن حرية..وكفاح
لا يغفو ولا ينام …
والحكام بالخطابات هيام…
وعن وطن سرقوه
في عدة ايام..
وعن شعب نكبوه..
وصار اسمه
شعب الخيام..
تحاكيه انت عن تمرد…
لشيخ وعكاز.. وحجر…
كما في الافلام ..
او الأحلام…
لانك تعرف جيدا..
ان الحكام..
عن الكفاح والتحرير..صيام..ونيام”..
تتجلى هنا المسؤلية الاخلاقيه للشاعر moral” responsibility” راشد حسين في اعلان فشل الحكام وفضحهم ليتمسك بالحلم او الخيال كطريق للتحرر بتمرد كل شيء قادر على التمرد …”لتمرد الشيخ والعكاز والحجر”…ليواصلوا طريق الثوار الذين سقطوا في طريق الكفاح الوطني..
الانفعال الشعري والحسي الحاد يتفاقم في القصيده ليصل للحظه حوار مباشر مع راشد حسين …وكان د زياد يوجه نقدا او لوما له لرحيله عن بلده…او محذرا له من غدر الغادرين له في المهجر…او هي لحظه “انكسار عاطفي ” فيها نصير كلنا متهمين….وهي ظاهره معرفه في الشعر الذي يصف ويحاكي المعاناة الفنية “artistic suffering”” ليقول د زياد مخاطبا راشد :
اذا كيف تنام…؟؟؟
وحرب تزمجر..
تسحق الطفل والحقيبة والدفتر..
وكيف تنام؟؟
والتساؤلات هنا تخدكم قضيه كبرى…قضيه الانتباه واليقظه…ربما قصد د زياد والمعروف انه ماركسي يؤمن بضروره اليقظه الثورية” مقابل خنازيرية وخبث اعداء الحرية والوطن …وربنا اللوم او النقد هنا فيه تلميح لحاله راشد حسين ووصوله لحاله من الاكتئاب والياس والأحباط…
ويواصل د زياد قرع الجرس والصراخ ليستفز راشد حسين مشيرا له ان بلده “مصمص” تتعرض لرصاص المناورات وحرق البيادرقائلا: :
“ورصاص ساخن يعبر شبابيكنا…
يخترق الاجساد ليحرق البيدر..
وكيف تنام…ولا تصحو…??
وفي مصمص قلوب…
اليك كل صباح ترحل ….
تناجيك تحاكيك وتسأل..
ويزداد صراخ كاتب القصيدة ليتسائل باستغراب عن انسحاب راشد من المعركه الكبرى..فيقول :
”
وكيف تنام؟؟؟ ولا تصحو..
قبل ان تكسر يدهم؟؟
وقبل ان تحطم قيدهم…
وتسحق كيدهم..
كيف تنام؟؟ وتغفو
تنام ولا تصحو؟؟”..
هنا يتجلى الامل الكبير الذي تعززت به نفسيه د زياد براشد وامثاله…ربما لسبب واضح وضوح الشمس..هو ان المقاومه المسلحة بائت بالفشل فما بقي الا المقاومة الفكريه والادبيه والحضاريه يكون فيها للقصيدة فعل البندقيه..وهذا موضع نقاش اخر قد نناقشه في مكان آخر..
…حين يقترب د زياد لنهايه قصيدته السمراء ..يبدو انه لا يرها ان تنتهي بنهايه معرفه…يتركها بنهايه مفتوحه كمخرج فذ يطمع للسيطره على عقول ووجدان المشاهدين …فمساله اليات وفاة الشاعر راشد حسين تتجلى كمساله هامه ..في سياق تاريخي وسياق قضائي وجزء من العراك القائم بين المناضلين واعدائهم …وكان د زياد يريد فتح ملف الوفاة من جديد..معتمدا على الحقائق العامة وعلى الوهم الشعري poetic illusion”” يرسم لنا بالكلمات لائحه اتهام هامة يتهم بها كل المعنيين بالانخلص من الشاعر راشد حسين كشاعر ومناضل ومفكر وصاحب رساله وانسان……فيكتب :
“هل دسوا لك السم في المعتق الأحمر…
ام رشو فضائك
بغاز اغبر اصفر واخضر؟؟
ام رموك بسحر نار..
تأكلك ..؟؟
حيا وحيدا غريبا صامتا
بلا تألم او تذمر..؟؟
فنمت لأبد الآبدين..
بلا همس..
بلا صلاة ولا أنين..
بلا قلم…
بلا قصائد وقوافي..
بلا حلم أمل وداع ودعاء للروح شافي”…وهنا تظهر محاوله ابداعيه لتفسير الحريق الذي اختنق بسببة الشاعر راشد ..سم ؟؟ غاز؟؟ مخدر؟؟ حريق؟؟…ومهما كان سبب الاشتعال الا ان هدفه كان واضحا …ان يموت راشد بلا همس بلا قلم بلا قصيدة بلا مقال بلا دعاء وبلا وداع….انها ابشع طرق التخلص من المناضلين….وهي سمه معروفه لعملاء المخابرات المتخصصين بالتصفيات للكفاءات والمفكرين الفلسطيننين انذك في السبعينيات.
رغم الالم والمعانة والدراما في القصيده ..الا ان د زياد ينجح في تحويل الحالة الصعبة…الى حالة من الامل والتفاؤل باعتراف بعظمة انتاج الشاعر راشد حسين وبالمحبة والتقدير العظيم له من اباء بلدة وشعبه الفخورين به…لينهي القصيدة بالابيات التالية : تسمو من قلب القصيدة..
وتسمو من حسك الوافي ..
لتعود وتنام على تلة…
ترقب منها نورالشمس
وزهر اللوز تدلعه ..ولا تجافي..
تستحم بمطرها الناعم شتاء..
وصيفا ..
يداعبك فراشها وطلها الناعم الصافي…
****
وكيف لا تنام ..
يا راشد الحب والحكاية والقوافي
ورفاق لك..في البلد يحكون الرواية..
ويصبحون عليك بعطر التحيات
ويمسون عليك بهمس العوافي..”
…هنا يتحول راشد الشخص الفرد..الى حاله اجتماعيه ثقافية ثوريه وطنيه وجماعية…ليصبح روايه وحكايه شعب…وحب للوطن والناس والحرية..وشاعر كبير اغنى المكتبة باحمل الاشعار الانسانية والوطنية…واروعها ما كتب ..”
مهما اشعلتم من النيران نخمدها ..الم تروا اننا من لفحها سمر”…
والسمرة هي لون التحدي والصمود والتعب والعمل والكدح….والسمرة الشرقيه تعتبر سمرة راقيه تعمدت بصحراء الشرق وشمسها….ومن هنا جاء الأسم الموفق والجميل والمعبر لهذه الرثائية العملاقه لشاعرنا الكبير راشد حسين..رحمه الله “اسم القصيدة السمراء”…والتي كتبها شاعر متميز بحسه وصدقه كتعبير عن الفعل الأنساني human action للشاعر الطبيب د زياد محاميد بما يحمله من الدوافع الشعرية والخيال الشعري والخلق الشعري والحقيقة الشعريه والرؤية الشعرية ليسكبها لنا باجمل قصيدة تظهر من رحم قانون الضرورة law of necessity) )..لشعب يناضل من اجل حريتة وبقائة وحضارتة ومستقبلة…اني احسة..لهبا منيرا يتوهج من رحم القصيدة السمراء….فالف تحية للشاعر الفحماوي…الطبيب الانسان زياد محاميد.