ليس دفاعا عن سعيد عقل /محمود أبو رجب

لولا مواقفه السياسية لاستحق لقب شاعر العصر الذي لا يبارى، بل الشاعر الأصيل

وصف الجيش الاسرائيلي بجيش الخلاص، ووصف عرفات برأس الحية، وبيغن بالبطل، ومع ذلك بقي ايقونة شعر فريدة، كما الايقونة فيروز في الغناء

رحل عن هذه الدنيا في 28/11/14 اكبر شعراء لبنان المعاصرين، كما وصفه بعضهم، وكان عقل في حديث اذاعي معه،اثناء حرب لبنان الاولى سنة 1982 قال بالحرف الواحد.
«باقي في خطوتين، خطوة واحدة إنوّ يكمل هالبطل بيغين تنظيف لبنان من آخر فلسطيني، هذا المطلب اللي بدو اياه لبنان. اذا هالأمر هذا ما تم انا بكون تعيس، والشعب اللبناني كله بكون تعيس معي. اول ما فات الجيش الاسرائيلي على لبنان، كان لازم كل لبنان يقوم يقاتل معو. انا لو كان عندي تنظيم حربي ، كنت هلا بقوم وما بخلي الجيش الاسرائيلي.. انا في جريدتي اليوم، وانا عم بشكر الجيش الاسرائيلي بعنوان «اسرائيل عنا» بهاالافتتاحية وأنا عم بكتب بقول انا مبسوط لسببين.. لانو هالجيش عم بيخلصنا، ولانو بيغن بيخلص العالم وعم يسحق راس الحية اللي اسمه ارهاب. بس بقول انا زعلان لانو مش احنا اللي عم بنخلص لبنان من هالوسخة اللي اسمها العنصرية الدموية الفلسطينية.
ويضيف ردا على سؤال: انا بعتقد انو في كم سياسي في لبنان منزوعين… واكثرهم في الحكم، هن اللي ما خلو الشعب اللبناني يشترك. الشعب اللبناني في هالحرب عمل حرب حلوة ضد الفلسطينيين… انما كيس عرفات ، هايدا عامل نصب وعامل ابتزاز هائل على دول البترول، ومعو شي 70مليار. اشترى هاليومين زعامات في اوروبا وامريكا حتى يمشو ضدكو. حتى تقول انو هالجيش اللي جاي يخلص لبنان هايدا جيش غزو، اللي بيقول جيش غزو بدو قص راس. انا باسم كل لبنان بقول: هذا الوحيد جيش الخلاص».
بالرغم من موقفه هذا، ومن مواقفه وتصريحاته الاخرى التي قال فيها ان اللبنانيين فينيقيون، وليسوا عربا، وانه لا يريد ان يرى حرفا عربيا واحدا في لبنان، كما وضع أبجدية لاتينية لكتابة اللهجة اللبنانية التي دعا الى استعمالها بدلا من الفصحى، الا انه بقي شاعرا عظيما بالفصحى، وبالعامية، مما حدا ببعضهم ليصفه بالشاعر، والمفكر، والفيلسوف، واكبر شعراء لبنان المعاصرين.
وللأمانة العلمية والشعرية فان الذين وصفوه بالشاعر والمفكر والفيلسوف، لم يجانبوا الحقيقة، فهو في شعره يقترب فنيا من صاحب هذه الاوصاف الاصلي، ابو العلاء المعري.
بعضهم، بدافع اعجابهم بشعره، حاولوا ان يغفروا له مواقفه وتصريحاته السياسية، فادعوا بانه لم يثبت على رأي، ولا على موقف، اذ كان مزاجيا متقلبا، لكنني شخصيا اعتقد ان الرجل لم يصرح بما صرح به، ولم يتخد من المواقف السياسية ما اتخذ الا بدافع تعبيره عن الألم واليأس والاحباط الذي لحق به بسبب النكبة التي حلت بلبنان جراء الحرب الاهلية، والغزو الاسرائيلي،وبسبب ضعف العرب وتقاعسهم عن مساعدته وقد كانت نكبة سعيد عقل مضاعفة بأهله، بشعبه، بفنه وابداعه، بتراثه وبلغته التي احبها وعشقها وكانت اداة تعبيره فصيحةً وعاميةً. فصرح بما صرح تعبيرا عن الم وحزن وحرقة. كانت مواقفه وتصريحاته بمثابة صرخة احتجاج مدوية، بمثابة عملية انتحار كما فعل زميله الشاعر خليل حاوي الذي اطلق النار على رأسه في منزله في شارع الحمرا لانه لم يتحمل رؤية القوات الاسرائيلية تدخل بيروت، لكن حاوي انتحر جسديا، وعقل انتحر نفسيا وعقليا.
والا كيف يمكن ان نوفق بين تصريحاته ومواقفه هذه وبين تغنيه بمكة وبالشام وفلسطين فكتب ما غنته فيروز:
غنيت مكة اهلها الصيدا
والعيد يملأ أضلعي عيدا
يا قارىء القرآن صل لهم
أهلي هناك وطيّب البيدا
وبفلسطين قال:
سيفٌ فليشهر في الدنيا
ولتصدع ابواق تصدع
الان الان وليس غدا
اجراس العودة فلتقرع
انا لن انساك فلسطينُ
ويشد يشد بي البعد
وفي الشام:
قرأت مجدك في قلبي وفي الكتب
شام ما المجد، أانت المجد لم يغب .
وفي عمان:
سكنتُ عينيك يا عمان فالتفتت
اليّ من عطش الصحراء أمواه
ومن يقرأ شعر سعيد عقل ، الفصيح والعامي على السواء، بتمعن ودراسة يجد انه شعر عبقري اصيل.. شعر مركب دقيق، عالي الصنعة، فريدها مليء بالاستعارات والتشبيهات الرائعة.. كل عبارة فيه، بل كل لفظة خاصة بسعيد، مستمدة من نبع لغته الفياض، من تراكيبه،من صوره، من اشراقاته، لدرجة انك لا تجد لها علاقة بمفردات وعبارات وصور الشعراء الاخرين سواء كانوا من السابقين او المعاصرين.. ولا علاقة كبيرة لافكاره ومعانيه بافكارهم ومعانيهم، لغته، وصوره، ورؤاه واستعاراته وتشبيهاته غير مسبوقة كلها له وحده، نتاج فنه، وابداعه مما جعل النسج على منواله شبه مستحيل. من هنا يصح القول فيه ما يصح بفيروز، هناك فيروز واحدة، وهناك سعيد عقل واحد. اما بقية الشعراء كبقية المغنين فمتشابهون الى حد بعيد صوتا، وصورا، وافكارا ومعاني، ومفردات وصيغا.
خذوا مثلا قصيدته سائليني التي يقول فيها:
سائليني حين عطّرتُ السلام
كيف غار الورد واعتلَّ الخزام
فتجد ان صورة «عطّرت السلام» درة من ابتكار عقل لم يسبقه اليها احد. أما صورة «كيف غار الورد واعتل الخزام»، وان كانت قريبة من صورة ابن خفاجة الاندلسي في موشحه «جادك الغيث» حين يقول
فاذا الماء تناجى والحصا
وخلا كل خليل بأخيه
تجد الورد غيورا برما
يشتكي من وجده ما يشتكي
الا ان عقل اخذ جزيئات هذه الصورة وركبها من جديد، مضيفا عليها من عنده جزئية «واعتل الخزام».والقصيدة برمتها مكدسة بالصور، وباللوحات النادرة التي تشبه، من حيث خصوصيتها، لوحات كبار الرسامين في العالم.
من هذه اللوحات ما جاء في البيتين السادس والسابع من قصيدة سائليني حيث يقول:
رُدّ لي من صبوتي يا بردي
ذكريات زُرْنَ في ليَّا قوام
ليلة ارتاح لنا الحَوْر فلا
غُصُنٌ الا شجٍ او مستهام
فهل انتبهتم الى جمال صورة ذكريات الصبا التي جاءته في احسن هيئة أو قوام، واحسن رائحة؟ ومما زاد في جمالها وخصوصيتها استعماله مفردة»ليّا» . وهي كلمة فريدة غريبة، نادرة الاستعمال ومعناها القاموسي، شيء أبيض كالحمص، يشبّه بياض المرأة به. او هو اسم نبات طيب الرائحة يشبه عود الزان.
وعقل كما ترون- لم يؤنسن فقط شجر الحور واغصانه فجعلها شجية مستهامة اذ اسقط عليها من نفوس العاشقين، بل أنسن الذكريات ايضا باستعماله نون النسوة.
وبعد، كان سعيد عقل سنة 1938 ألقى في جمعية خريجي القسم الثانوي في الجامعة الاميركية بيروت محاضرة بعنوان «كيف أفهم الشعر» قال فيها ما معناه: ان الشعر لحظة لا وعي. وان اللاوعي أرقى درجات الوعي، وهو الصفة الاولى للشعر. أما الوعي فهو الصفة الاولى والاخيرة للنثر.
وعندي ان الشعراء النظّامين إنما يكتبون عن وعي، فيكون شعرهم له صورة الشعر فقط، بعيدا عن الشعر العميق الاصيل. الذي قال سيغموند فرويد عن اصحابه:» لقد سبقني الشعراء الى كل ما جئت به، الفرق بيني وبينهم انني جئت بما هو منظم، بينما هم غرفوا من اللاوعي».
بالطبع هو ارقى درجات الوعي، ليس فقط عند سعيد عقل بل في علم النفس التلحيلي أيضا. وشعر سعيد عقل اكبر دليل على ان الشعر لحظة لا وعي. وفهم هذا الشعر ايضا يحتاج احيانا الى لحظة لا وعي، الذي يختزن جميع المعارف كما يعتقد العلماء. ففي لحظة لا وعي فهمت معنى بيته
«رد لي من صبوتي يا بردى».كما كنت فهمت بنفس الطريفة بيت بشار بن برد:
وللبخيلِ على امواله عِلَلٌ
سود الوجوه عليها أعينٌ زرق
وكذلك بيت سعيد عقل الاخر
وأنا لو رحت استرضي الشذا
لانثنى لبنان عطرا يا شآم
ضفتاكِ ارتاحتا في خاطري
واُحْتمى طيرك في الظن وحام