عش نشوة مهرجان مسرح الشارع في براغ
تاريخ النشر: 11/08/12 | 14:56يمتطي الفارس حصانه في ساحة فاتسلاف بشموخ ، ليستقبل يومياً أعداد هائلة للسوّاح من كافة أنحاء العالم . إنه تمثال الملك فاتسلاف ، وإنها أهم ساحات مركز مدينة براغ ، والتي معظم مبانيها أشبه بتحف فنية وتماثيل آية في الروعة والجمال ، لتجعل هذه المدينة بشوارعها وأحيائها وأزقتها ، متحفاً ضخماً لا ينتهي ، ليشهد على تاريخ وحضارة هذا الشعب العريق.
ولكن لهذه الساحة في هذه السنة بالذات ، وفي هذا الصيف بالذات ، وقع خاص ، الأمر الذي جعلني أشدّ الرحال الى مدينة براغ ، لا لأسير على جسر تشارلز ، أقدم جسور أوروبا الوسطى ، وأتمتع بمشاهدة الطبيعة الخلابة وتماثيل القديسين الممتدة على طول الجسر . أو لأزور قلعة براغ الشهيرة والتي تعتبر من أهم الرموز الشعبية والحضارية لهذا الشعب العظيم ، والتي تحيط بها الأبراج والحدائق الساحرة والمؤلفة من عدة قصور وكنائس وصالات الضيافة والأجنحة السكنية. أو قلعة فيشهراد ، أو المالا سترانا ، أو نوفي ميستو ، أو بوابة براشنا برانا والبيت الراقص ، المتحف الوطني ، دار الأوبرا ، ساحة المدينة القديمة ، أو أي معلم حضاري آخر من معالم هذه المدينة الذهبية ذات المئة برج.
رغم جمال وسحر هذه المدينة ، بجمال مبانيها وقصورها ، بخصوصية ساحاتها وأبراجها ، إلا أني زرتها لأشاهد في ساحة فاتسلاف أروع العروض المسرحية لمهرجان مسرح الشارع الدولي الرابع ، وأتابع التحضيرات الضخمة والاستعدادات ، وأشاهد التقنيات الفنية المثيرة ، ولأتمتع بإيقاعات هذه المسرحيات ورقصات وحركات الممثلين والممثلات التي بهرتني برشاقتها وصدقها وأصالتها . «مسرح الشارع» هو تقليد مترسّخ في بعض المدن الأوروبية، لكنه حديث العهد على براغ التشيكية ، والذين وجدوا في هذه التجربة فرصة هامة لإحياء الموسم السياحي فيها وبث الروح في بعض شوارعها. فكل عاصمة حول العالم تسعى لإيجاد الفعاليات المميزة للترويح عن المقيمين فيها، ولتسلية زوارها من السياح الأجانب.
امتد المهرجان على مدار ستة أيام، باشتراك مئة فنان من ستة دول أوروبية ، في عروض فنية مثيرة ، تناولت مواضيعاً شتى ، جمعت بين الخيال والفانتازيا والواقع ، كانت بعضها أشبه برحلة في عالم الأساطير ، دمجت العصر بكل تطوره مع أصالة الماضي العريق ، شاهدت سيارات تسير ملتهبة بالنار يعتليها الممثلون والراقصون، شاهدت الكثير الكثير من اللهب والنير ، إستخدام النيران في هذه العروض المثيرة كان جزءاً بارزاً ومركزياً في هذه العروض ، شاهدت كيف يدمر الانسان عالمه بيديه ، من خلال الحرب والاستبداد تارة ، ومن خلال تدمير بيئته تارة أخرى . تداخل الفضاء الخارجي مع عالمنا خلال من خلال التقنيات العالية ، ممزوجاً بحرارة إيقاعات الراقصين والراقصات التي ألهبت حماس الجمهور ، منتشياً بحرارة العروض ، بالأضواء التي امتزجت برائحة الدخان المتصاعد من الحرائق الفنية ،الوهم والحقيقة إلتقيا هنا في هذا المسرح الثائر شكلاً ومضموناً .
لا يمكن لمن يشاهد هذه العروض المسرحية أن يتمالك نفسه ، إنه يصبح تلقائياً جزءاً من العرض ، ينسى الوقت ليعيش لحظات من النشوة الفنية ، الخلق ، الإبداع. لحظات ينتقل الى عالم ممزوج بطاقة لا يمكنني أن أحدد مصدرها ، متعة ما بعدها متعة ، لا تتوقف عن الانبهار ، لا تتوقف عن الإعجاب بما يبدعه هؤلاء الفنانين المتمردين.
بعد هذه الرحلة الممتعة في عالم مسرح الشارع الأوروبي ، تذكرت نصائح أصدقاء لي بأن أشاهد عرضاً فنياً للمسرح الأسود في براغ ، فأصبحت زيارة المسرح الأسود جزءاً لا يتجزأ من البرنامج السياحي للمدينة الذهبية. فخرجت من نشوة أجواء مهرجان مسرح الشارع ، لأدخل قاعة معتمة هادئة نسبة لصخب المهرجان في الخارج ، لأشاهد نصف ممثل بيد واحدة ، وآخر يسبح على أمواجٍ من الضوء، أو على كرةِ بحر ملوّنة تطير وحيدة. إنها متعة من نوع آخر ، متعة الموسيقا الحالمة والرقص الساحر في مشاهد مسرحية خيالية ، تجعلنا نلقي همومنا جانباً ، لندخل في عالم متألق من الضحك والخيال.
هذا هو المسرح الأسود الذي أثبت حضوره على خارطة المسرح العالمي، وثبت نفسه كنمط مسرحي له خواصه الفريدة، وإمكانياته في رفد الحركة المسرحية بعروض أقل ما يمكن القول عنها أنها محبوكة من نسج الخيال.حفظ ممثلو براغ أسرار المسرح الأسود، كنذر سحري، السر وراء السحر بسيط وأسود، الممثلون بزي أسود، وقفازات سوداء وأقنعة مفرغة عند العينين، يجسدون دور الأشخاص الخفيين، الخداع البصري وعمل الممثلين ينجح فقط بوجود مئات القطع من الأزياء السوداء المنشورة خلف كل ممثل، مع إضاءة تجعل الألوان المشعة ظاهرة للعيان، بحيث أن الممثلين يرون ولا يُرَون، فهم يحركون المواد الملونة بحيث تبدو أنها ترفرف في الهواء. بهذه الطريقة يمكن لراقص أو راقصة أن يطير بمساعدة ممثل آخر يرتدي السواد.
بعض الناس طالبوا بهذا النمط المسرحي الجديد والذي تزامن مع الاحتلال الشيوعي لتشيكوسلوفاكيا، وبات يُحمَّل برسائل نقدية للحكومة، وهذه الرسائل الاحتجاجية حملت أيضاً اسم “المسرح الأسود”. وبالعودة إلى الستينيات، أكسب الفنان التشيكي المعروف “جيري سرنك Jirí Srnec” عروض المسرح الأسود سمعة عالمية طيبة بعد جولاته في المسارح الدولية. خلال التسعينيات، لعب العديد من الفنانين التشيكيين دوراً في تطوير المسرح الأسود والترويج له، وساهموا في تعزيز سمعته، وأعلنوا براغ عاصمة للمسرح الأسود.
بدون شك ان المسرح الأسود استطاع أن يضع بصمته الثقافية في المسرح التشيكي، حيث شكل نقطة جذب ومنطقة لقاء في الوقت ذاته بين المهتمين بمثل هذه الصيغة من الفنون العالمية الحديثة، إلا أن وقع لهيب مهرجان مسرح الشارع في براغ رغم حداثته ، سيكون له الدور الأبرز في الحياة الثقافية في براغ.