في يوم اللغة العربيـــة حديث في اللغة (3)
تاريخ النشر: 20/12/14 | 11:16إذا كان الأدب تجسيدًا وتقييمًا للحياة، فإن النقد هو تجسيد للأدب وتقويم له. وكلمة النقد لا تعني بالضرورة تبيان المساوئ دون المحاسن، ولكن ألسنتنا جرت على المفهوم السلبي داعية كلمة التقريظ على المفهوم الايجابي.
ولو عدنا إلى الوراء، إلى مصادرنا الأدبية الأولى، لرأينا طرفة يقف ناقدًا للمسيِّب بن عـَلَس عندما أنشد:
وقد أتناسى الهمَّ عند ادِّكاره *** بناجٍ عليه الصيعريةُ مُكْدَمِ
يقول طرفة ساخرًا: “استنوق الجمل” والصيعرية هي سمة خاصة بالنوق لا بالجمال تكون بأعناقها.
فكيف لا يقول المسيِّب (أو المتلَمِّس على رواية أخرى) ناجية ومكدمة؟ والجواب عند طرفة.
ونعرف قصة النابغة إذ كان في بعض شعره إقواء (وهو تغيير حركة الروي) غفل عنه حتى غنت جارية:
زعم البوارح أن رحلتنا غدًا*** وبذاك خبرنا الغرابُ الأسودُ
وكانت رويّ النابغة مكسورًا، ففطن إلى الهَنة وجعل العجُز “:
وبذاك تنعاب الغراب الأسود “.
وامرؤ القيس عندما صاوله عَلقَمة بن عبَدة في شعره يحتكم هو وصاحبه إلى أم جُندَب وهي زوج امرئ القيس.
يقول الأول:
فللسوط ألهوبٌ وللساق درةٌ *** وللزجرِ منه وقعُ أخرجَ مهذبِ
ويقول الثاني:
فأدركهن ثانيًا من عنانه *** يمر كمر الرائح المتحلب
فحكمت أم جندب لعلقمة، إذ قالت لبعلها: علقمة أشعر منك.
قال: وكيف؟
قالت: لأنك زجرت فرسك، وحركته بساقك، وضربته بسوطك. وأنه جاء هذا الصيد، ثم أدركه ثانياً من عنانه، فغضب امرؤ القيس وقال: ليس كما قلت، ولكنك هويته، فطلقها، فتزوجها علقمة بعد ذلك، وبهذا لقب علقمة الفحل..
ومع أن القصة ينكرها طه حسين في جملة ما أنكر من الشعر الجاهلي لاعتبارات مختلفة، فإن مثل هذا النقد كان يتسم بالذوق والإحساس الصادقين دون الاعتماد على نظريات نفسية واجتماعية – شأننا اليوم.
وبإيجاز، فإن سبب الحكم هو كون امرئ القيس قد أجهد فرسه أيما إجهاد، وجعله يُزجر، حتى وقع كذكر النعام المسرع. وأما فرس علقمة فقد مر كما يمر سحاب العشي المتساقط.
وتنقل لنا الأخبار الأدبية أن النابغة كان ينصب قبة من أدم، فيجلس للقضاء في الشعر.. وليقول القول الفصل في شاعرية شعراء ذلك العصر.
يقول حسان في مجلس النابغة متحديًا بقوة سبكه:
لنا الجفناتُ الغرُّ يلمعن بالضحى *** وأسيافنا يقطرن من نجدةٍ دما
فنظن هذا البيت لا يشوبه عيب، وإذا بالخنساء تجد له عشر ثغرات في معاني الكلمات وظلالها الدلالية…ذكرها صاحب الأغاني، ومن شاء فليعد إليها.
ويستمر الذوق في الحكم الأدبي ولكن بزيادة رهافة وبعد نظر.
فشتان بين معنى ” هذا ابن هرْمةَ واقفًا بالباب ” ومعنى “…. قائمًا بالباب “، ومعنى “….قاعدًا بالباب “. ويميز المتنبي بين الحائك والبزاز، و يقنع سيف الدولة عندما نقده في توزيع عجزين لبيتين أنهما في صيغته أهدى وأبدع.
ويقول بشار في قصيدة عذبة:
وإذا قلت لها جودي لنا *** خرجت بالصمت عن ” لا ” و ” نعم ”
نفّسي يا عبدُ عني واعلمي *** أننــــــــي يا عبــد من لحــــــم ودم
ويعلق أحدهم: لماذا لم تقل (خرست) بدلا من (خرجت) فبادره بشار:
إذن… أنا في عقلك؟! فض الله فاك! أتطيّر على من أحب بالخرس!
وكأني بالأدب العربي قد أصابه بعض الركود لرفضه الجديد. حدث إسحق بن إبراهيم المـَوصلي قال: أنشدت الأصمعي:
هـل إلى نظـره منـك سبيـل *** يُروَّ منها الصدي ويشفى الغليل
إن ما قل عندك يكثر عندي *** وكثير ممـن تحــب القليــــــل
فقال الأصمعي معجَـبًـا: لمن هذا الديباج الخسرواني؟
قال: فقلت: هي لي وهي بنت ليلتها، فقال: لا جرم أن فيها ضعف التوليد….وفي رواية أخرى قال له: خَرِّق خرِّق!!
وقد راق لي ما قرأته في كتاب المنصف لابن وكيع التنيسي، إذ يعلق على هذه القصة:
“ما أقبح رأي علمائنا في أن يرد عليهم اللفظ الذي لا يعجب والمعنى الذي لا يطرب فيعظمون أمره ويجلون قدره، لأنه لمن تقدم زمانه وبعد أوانه…. فإذا وافاهم المحدَث باللفظ العجيب والمعنى الغريب أعرضوا عنه وغضّوا منه وأنفوا من رواية قوله: حتى إن أبا عمرو بن العلاء قال: لقد كثر هذا المحدث حتى لقد هممت بروايته يعني شعر جرير والفرزدق، فقدم عذرًاً في روايته، حتى كأنّ الفضل مقصور على من تقدم زمانه أو لم يكن القديم محدثاً….. وأظنهم يرون الشعر بمنزلة المشروب، كلما عتق كان أفضل له.” والفكرة وردت قبله لدى ابن قتيبة في الشعر والشعراء، فهو أبو الموضوعية في النقد – في رأيي…
…………………
من كتابي “من أحشاء البحر”. ط2. باقة الغربية: مركز دراسات القاسمي- 2007، ص 53- 56.
ب.فاروق مواسي