قابَ ضَمٍّ عَلى نَصْبِ ساقَيْنِ
تاريخ النشر: 25/12/14 | 9:42ما زالَتْ مُهِمَّةُ شَحْنِ الْكَلامِ بِالْحَياةِ تَسيلُ حَياةً.
وَما زالَتْ عَرَباتُ خُيولِ الدِّفْءِ تَقِفُ في مَحَطَّاتِ اللُّغاتِ،
رَيْثَما تَتِمُّ حُمولَتُها لِتَنْطَلِقَ إِلى بَعْدٍ غَيْرِ ذي قَبْلٍ في الْبِذارِ وَفي الْحَصادِ.
مَخازِنُ خُرْدَةِ الْعَرباتِ تَمْلَأُ الْـمَدى
وَالطَّريقُ يَرْفَعُ حَبْلَهُ السِّرِّيَّ حاجِزًا وَلا يَسْمَحُ لِلْكَثيرِ بِعُبورِهِ صَوْبَ الْأَساطيرِ الْجَديدَةِ،
تَتَمَلْمَلُ الْأَساطيرُ حَياةً هُناكَ.
حينَ تُفْرِغُ الْعَرَباتُ الَّتي نَجَحَتْ بِاجْتيازِ حَبْلِ الطَّريقِ السِّرِّيِّ حُمولَتَها، تَهْبِطُ شُموسٌ تَقْبِسُ ضِياءَها مِنْ عُروقِ نَرْجِسٍ يَنْبُتُ عَلى حَوافِّ الشَّهْوَةِ.
يَسْأَلُ النَرْجِسُ شَمْسًا خَجولَةً حَطَّتْ لِلتَّوِّ عَلى حَبْلِ نَظْرَةٍ نَشَروا عَلَيْهِ رُؤاهُمْ حَتَّى يُثْمِرَ الضَّوْءُ الْخَيالِيُّ كَيْ تَرْجِعَ قَوافِلُهُمْ مِنْ طَريقِ الرَّمادِ:
– هُنا شَهْوَةٌ كَثيرَةٌ حَصَدْناها مِنْ حُقولِنا تِلْكَ، وَبَعْضُها تَرَكَها لَنا ذاتَ أَنْدَلُسٍ صَهيلُ مُهْرٍ عَرَبِيٍّ، فَاشْرَبي مِنْها تَرْجَعي مُحَمَّلَةً بِلَوْنِ طَيْفي، وَيورِقُ فيكِ نَسْلي وَأَخْضَرُّ بَعْدَ الشُّحوبِ.
وَتَكْرَعُ الشَّمْسُ الْخَجولَةُ كَأْسَيْنِ مِنْ شَهْوَةٍ بِطَعْمٍ مُغْرٍ بِالْـمَزيدِ عَلى سَريرِ النَّرْجِسِ، فَتَلِدُ ذاتَها مِنْها بِلا انْتِهاءٍ وَلا يَكونُ النَّرْجِسُ.
يُراقِبُني الْكَلامُ هُنا كَحارِسٍ عَلى حاجِزٍ عابِرٍ يُحَدِّقُ بي طَويلًا، يُشْهِرُ في وَجْهي ما يَحْمِلُ مِنْ غُبارٍ سِلاحًا، وَأَنا الْعَنيدُ الْأَوَّلُ وَآخِرُ الْـمُحارِبينَ وَلا اسْتِراحَةَ لي، تَتَقافَزُ حَرَكاتُهُ وَتَصيحُ بَيْنَ رَفْضِ الْعُبورِ وَإِيجابِهِ، فَكُلُّ تَثْبيتٍ يُلْغي ما نَطَقَتْ في الْحَياةِ السَّابِقَةِ وَيُسْقِطُ حُجَّةَ الْكَلامِ بِاعْتِراضي، تُحِسُّ تَخَلُّقَها، كَتَصْويرٍ بَطيءٍ تَرى هَيْأَتَها كَيْفَ تَنْمو لِتَقولَ ما لَمْ تَقُلْ.
وَأَنا ما زِلْتُ طَريدَ فَخِّ اللُّغَةِ وَشَرَكِها الْـمَنْصوبِ لي مُنْذُ مَرَّتِ الْعاصِفَةُ وَمَزَّقَتْ شَرايينَ كَلامي وَسالَ دَمُهُ وَانْقَطَعَتْ دُروبي.
أُشاكِسُها أُناغيها أُضاجِعُ أَوْجاعَها وَأَمانيها، تُميتُني عَلى صَدْرِها حُلُمًا وَتَبْعَثُني نَسْرًا عَلى قِمَمٍ، وَأَهْبِطُ فَوْقَ نَهْدَيْها مِنْ جَديدٍ بَحْثًا عَنْ حَليبِ طُفولَةٍ جَديدَةٍ أَوْ غَفْوَةِ مَوْتٍ تَنْقُلُني إِلى الْحَياةِ الْـمُطِلَّةِ عَلَيَّ مِنْ ثُقوبِ مَطالِعِ شُروقِ تَأْويلي بِما أُهَيِّئُ لَها مِنْ إِقْبالي هُناكَ مُحَمَّلًا بِها، فَتَسْلَخُني اللُّغَةُ مِنْ نَسيجِ الْحَياةِ الْقَديمَةِ في عُروقي، وَتَحْضُنُني بِكامِلِ لَهْفَتِها وَشَبَقِ أُنوثَتِها الْـمُتَفَجِّرَةِ مُنْذُ أَشْرَعْنا الْخُطى.
تَصيحُ مِنْ خَلْفي عُصورُ أَصْواتٍ تُناديني: تَلَفَّعْ بِنا بِحِصْنِكَ الْحَصينِ،
عُدْ إِلَيْنا فَما زالَتْ مَواقِدُنا تَلِدُ اللَّهيبَ بِلا حَطَبْ..
ما زِلْنا نَبْعَثُ الدِّفْءَ في عُروقِ الثَّلْجِ الْـمُتَسَلِّقِ جَبَلَ الْحِكْمَةِ.
أَنْظُرُ لِلْخَلْفِ أَرى الْـمَدى يَتَّسِعُ،
لكِنَّهُمْ مَعي فَكَيْفُ يَحْجُزُهُمْ عَنِّي مَدًى أَوْ تَفْصِلُنا أَزْمِنَهْ.
كَأَنَّي لَسْتُ هُمْ أَوْ هُمْ لَيْسوا أَنا
أَتْلو ما تَيَسَّرِ لي وَ”قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدْ”.
وَلا يَسْمَعُني مِنْهُمْ أَحَدْ.
أَفْرُكُ عَيْنَيَّ فَرُبَّما ما زالَ أَثَرُ خَطْوِ النَّوْمِ عالِقًا بِهِما يَحولُ دونَ رُؤْيَتي.
بَلْ أَنا هُمْ وَهُمْ أَنا، حاضِرينَ في غِيابِنا وَغائِبينَ عَنْ حُضورِنا عَلى مَسْرَحِ تَعْريفِ الْـمَوْتِ وَالْحَياةِ وَما بَيْنَهُما بَيْنَ جَماهيرِ الْـمَوْتِ وَالْحَياةِ، يَصِدِمُنا انْشِغالُ كُتَّابِ سينارْيو كِلَيْهِما بِقِتالِ الْآخَرِ عَنْ رَأْيِهِ وَإِنْتاجِهِ وَتَعْريفِهِ، وَدَوَّامَةُ عِراكِهِما ما زالَتْ تَلُفُّ الْـمَسْرَحَ هُناكَ، وَنَحْنُ شَيْءٌ نَقيضُ الشَّيْءِ مَتَى تَشَيَّأَ.
يَتَّسِعُ الْفَناءُ وَيُخَيِّمُ اللَّا شَيْءُ لَيْلًا مُقْبِلًا مِنْ رَصيفٍ نَسَلَتْهُ أَرْصِفَةُ مَسْرَحِ الْعُبورِ إِلى حَياةِ الْـمَوْتِ في أَصابِعِ مَوْتِ الْحَياةِ عَلى طَريقي الْـمُقْبِلَهْ.
ما زِلْتُ قافِيَةً شَرودًا في فَضاءٍ لا نِهائِيِّ الْكَلِماتِ أَقْنِصُ مِنْ كُلِّ شُحْنَةٍ وَقودًا لِأُتابِعَ رِحْلَتي صَوْبي.
ما زلْتُ نَقيضَ الْـمَوْتى عَلى قارِعَةِ مَخارِجِ الْأَحْرُفِ الْـمُتَكَلِّسَهْ.
ما زِلْتُ قَلْقَلَةَ السُّكونِ وَإِقْلابَ اعْوِجاجِ النَّهْرِ عَنْ مَصَبِّهِ.
وَما زِلْتُ أُطْعِمُ صَبْوَتي تُفاحَةَ الْخَلْوَةِ وَاتِّساعَ الرُّؤى.
وَما زالَ صَهيلُ أُنْثايَ الْقَريبَةِ يَشْنُقُهُ وَجَعُ اللُّغَهْ.
ماتَتْ حَواري مَوْتِ وَعْدِ دَرْبٍ مُنْذُ رُؤْيا عُلُوِّ يوسُفَ، قَبْلَ الْجُبِّ عَلى الطَّريقِ إِلى النُّبُوَّةِ.
وَلا زالَتْ لُغَتي تُحَمِّلُني وِزْرَ مَنْ زَنَوا بِها في مَوْتَتي السَّابِقَةِ وَتَتَّهِمُني بِنَزْعِ حِجابِها حَتَّى رَأَى وَجْهَها الْعابِرونَ في اللُّغاتِ بِلا لُغَةٍ وَأَطالوا قَتْلي وَاحْتِلالَ خِدْرِها.
وَما زالَتْ أُنْثايَ تُلْقِمُني ثَدْيَيْها كُلَّ غَفْوَةِ مَوْتٍ،
وَنَتَصَبَّبَ حَياةً كَرَشْحِ الْـماءِ مِنْ جِرارِ أَبينا عَلى صَعيدِ اللُّغَةِ الْأُولى
تَلِدُني أُنْثايَ كُلَّ حَيْضَةِ لُغَهْ
وَما زالَتِ اللُّغَةُ الْجَديدَةُ بِكْرًا بِلا زَوْجٍ
قالَتْ أُنْثايَ: سَأُزَوِّجُكَ اللُّغَةَ لِنَرى مَواليدَكُما.
قُلْتُ: وَأَنْتِ، أَلَسْتِ أُنْثايَ؟
قالَتْ: أَرْهَقْتَني في رِحْلَتِنا اللُّغَوِيَّةِ إِلى كَلامِنا، وَسَأُزَوِّجُكَ مِنَ اللُّغَةِ، فَلا تَلِدا مَوْتًا بَعْدَ الْيَوْمِ، فَقَدْ سَئِمْنا الْعَيْشَ مَوْتًا، وَاطْلِقا نَسْلَ الْحَياةِ،
عَلى تِلالِ الْـمَوْتِ الْـمَهيضِ، لِنَكونَ أَثافِيَّها.
جَلَسَتْ أُنْثايَ قابَ ضَمٍّ عَلى نَصْبِ ساقَيْنِ مَرْفوعَتَيْنِ بِإِدْغامِ السُّكونِ صَخَبًا.
ضَحِكْتُ مِنْ قَحْفِ الصَّهيلِ الْعَريضِ وَقَدْ داهَمَني وادِيانِ مِنْ ذَهَبِ السُّفوحِ الْـمُتْخَمَةِ أَفْعالًا مَضَتْ.
ضَحِكَتْ أُنْثايَ وَقالَتْ: كَأَنَّكَ أَبْصَرْتَ الْآنَ، فَشَكِّلِ الْأَفْعالَ بِالْآتي وَبِـ”ارْكَبْ مَعَنا” لِنَكونَ مُبْتَدَأَ الْكَلامِ الْجَديدِ وَانْبِعاثَ الْأَساطيرِ في جَسَدِ اللُّغَهْ.
قُلْتُ: هَلْ نَكونُ؟
قالَتْ: أَعادَكَ مَوْتُكَ الْقَديمُ؟، أَلا تَرى النَّسْلَ الْجَديدَ عَلى امْتِدادِ الْفاصِلَهْ؟
قُلْتُ: أَهذا دَمي أَمْ دَمُ الْعابِرينَ مَسْفوحًا عَلى قَدَمي؟ أَكُنْتُ في حَرْبٍ خِلال مَوْتِيَ الْآنِيِّ أَمْ زاغَ الْبَصَرُ؟.
قالَتْ: كَمْ أُحِبُّكَ وَأَنْتَ بَيْنَ السُّقوطِ وَالْاِنْتِصابِ، اُنْظُرْ تِلْكَ النَّجْمَةَ عَلى السَّديمِ الْقَريبِ، هُناكَ وَلَدْتُكَ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَكُنْتَ أَنا، فَانْتَصِبِ الْآنَ وَعُدْ أَنا.
محمود مرعي