خمسون سنة على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب
تاريخ النشر: 26/12/14 | 17:39بدر شاكر السياب شاعر عراقي ((25 ديسمبر 1926 – 24 ديسمبر 1964) تُعزى إليه بدايات شعر التفعيلة،
وهو صاحب مدرسة شعرية جديدة في فنيتها معنى ومبنى.
اهتممت به وبدراسته في مرحلة الشهادة الثانية (M.A)، وكتبت عنه رسالتي: لغة الشعر لدى بدر السياب وصلتها بلغة المصادر القديمة، فمن أحب أن يحتفظ بملف الكتاب فليخبرني عبر الرسائل الخاصة حتى أرسل له.
إليكم مقالة كتبتها عن السياب، ونشرتها في كتابي: دراسات وأبحاث في الأدب العربي الحديث. دالية الكرمل- دار آسيا- 1992، ص 57- 62.
إشارات ورموز عربيـــة في شعر السيــــاب
لقد صرح السياب مرة أنه ينتظر المؤلف الحديث الذي يجمع الرموز العربية في شعره من مظانها المتفرقة كيما يمكن الإفادة منها. ( 1 )
والحديث عن دور الأسطورة والرمز في الشعر الحديث قد يطول بنا إذا تقصيناه، يقول السياب في هذا السياق:
هناك مظهر مهم من مظاهر الشعر الحديث هو اللجوء إلى الخرافة والأسطورة، وإلى الرموز، ولم تكن الحاجة إلى الرمز وإلى الأسطورة أمسّ مما هي عليه اليوم، فنحن نعيش في عالم لا شعر فيه- أعني أن القيم التي تسوده قيم لاشعرية، والكلمة العليا فيه للمادة لا للروح، وراحت الأشياء التي كان في وسع الشاعر أن يقولها أن يحولها إلى جزء من نفسه تتحطم واحدًا فواحدًا، أو تنسحب إلى هامش الحياة.
إذن فالتعبير المباشر عن اللاشعر لن يكون شعرًا، فماذا يفعل الشاعر إذا عاد إلى الأساطير إلى الخرافات التي ما تزال تحتفظ بحرارتها، لأنها ليست جزءًا من هذا العالم. عاد إليها ليستعملها رموزًا وليبني منها عوالم يتحدى بها منطق الذهب والحديد( 2 ).
وهو يعترف في مكان آخر أن الرموز والأساطير تخلص الشاعر من إلقاء كلماته بصورة نثرية وبلا واسطة، وتضيف تداعيات لشعره. (3 )
ويرى ب. موريه أن هذه الرموز تساعد على خلق موسيقا جديدة – موسيقا الفكرة – بالإضافة إلى إيقاع الوزن، وهذا النوع من الموسيقا يشبه التنويعات السمفونية – إنها عودة لنفس الفكرة التي تؤكد الموضوع الرئيسي للقصيدة، وبالإضافة إلى التداعيات التي تثيرها هذه الرموز من التاريخ والميثولوجيا فهي تساعد في تجسيد التشبيهات بصورة حية ودقيقة أكثر، وتساعد الشاعر أن يكون مراقبًا حياديًا أقل عاطفة، وقادرًا على كبح مشاعره ( 4 ).
ومن خلال ملاحظتنا لرموز السياب نرى أنه يطعم قصائد بعناصر موحية، وهي عنده كالكنوز يلجأ إليها مقارنًا بين ما كان وبين ما هو كائن، وهو بها يعمق المعنى وينقل التجربة إلى جو إنساني يستمد الجذور من التاريخ الفاعل والمحرك.
وسنحاول هنا أن نصنفها ونحدد ماهيتها:
1- رموز من السيرة النبوية:
يقول السياب:
محمد اليتيم أحرقوه فالمساء
يضيء من حريقه، وفارت الدماء
( ص 467 من المجموعة الكاملة 1 للسياب ) ويقول:
محمد النبي في حراء قيدوه
ستأكل الكلاب من دم البراق
( ص 468 )
فهو بهذه الأبيـــات لا ينقل إلينا الجو الديني كما كان، بل يقدم لنا صورة العذاب الذي عاناه محمد عليه السلام أكثر مما يجسم صورة النصر. والرسول محمد في التاريخ لم يكن شهيدًا – حسب الاصطلاح المتولد في بعد، بل كان رمزًا للموقف والنضال. وهو يقول في ضوء السيرة:
ولا ملأت حراء وصبحه الآيات والسور
(ص 184)
وحراء هو الغار الذي نزل فيه الوحي على النبي عليه السلام، بيد أن السياب يخلط بينه وبين غار (ثور) – وثور في الطريق إلى المدينة:
هذا حرائي حاكت العنكبوت
خيطًا على بابه
(ص 425)
والعنكبوت حسب السيرة حاكت خيوطها على غار ثور(5).
وفي قول الشاعر:
وهبّ محمد وإلهه العربي والأنصار
إن إلهنا فينا
(ص 402)
استعادة لمواقف النصر في تضامنه مع المغرب العربي، وهو يشدد على كلمة (العربي) وصفـًا للإله حتى يؤكد عروبة المغرب، أو ليظهر عروبته هو بصورة حادة بعد أن مر بتجربة الشيوعية.
2- وإشارات التراث العربي القبلي نجد أصداءها عند الشاعر، ففي قوله:
كما أكلوه إذ جاعوا
إلهم
(ص400)
إشارة إلى بعض قبائل العرب (روي أنهم بنو حنيفة)، إذ كانوا يصنعون آلهتهم من التمور، فإذا جاعت القبيلة أكلت ما صنعته.
ويقول الشاعر:
أشم فيه عفن الزمان والعوالم العجيبة
من إرمٍ وعاد
(ص 605)
وشاعرنا يتعامل مع (إرم وعاد) الواردتين في القرآن الكريم كأنهما دلالة للعفن، بيد أن السياب يختار في قصيدة (إرم ذات العماد – ص 602) رواية لقصة إرم – عن صياد من الجنوب (جد أبيه) حيث تحدث عن أيام صباه، وأنه رأى جنة عاد الضائعة، ثم اختفت عنه، وظل يبحث عنها….وقد حاول السياب هنا من خلال هذه الأسطورة التعبير عن حنينه للماضي، فمن قصص الحب المأثورة يضمّن الشاعر أبيـــاته:
وهي المفلـّية العجوز وما توشوش عن حزام.
وكيف شق القبر عنه أمام عفراء الجميلة
(ص 318)
ويعلق السياب في حاشية القصيدة:
هكذا أصبح اسم الشاعر العاشق عروة بن الحزام عند العامة الذين يروون قصة حبه لعفراء وموته، ويرددون معاني قصيدته بشعر عامي.
وتأخذ القصة مسارًا حزينًا وهو غريب على الخليج، وإذا كان قد استذكر قصة عروة وحزام فلا بدع أن تجد قصة عنترة وعبلة أصداءها كذلك:
ذاك عنترٌ يجوب
دجى الصحاري إن حي عبلة المزار
(604)
ويعلق عز الدين إسماعيل في مقاله “الشعر المعاصر والتراث العربي”:
يستغل السياب قصة الحب البدوي التي تردد في التاريخ العربي، وهي قصة عنتر وعبلة، وذلك في قصيدته – إرم ذات العماد – ولست في حاجة أن أعيد هنا ما قلته في هذا التلاحم بين المأثور والواقع النفسي للشاعر، فقد وجد الشاعر في هذه القصة القبلية توجيهًا نفسيًا كافيًا يجدد لنا المسار النفسي لشعوره الراهن. ( 6 )
وأبو زيد الهلالي- رمز البطولة العربية الملحمية له مكان أسطوري في ثنايا قصائده، حتى يتوافق مع اندفاعه وحماسه للعروبة:
والأمل الخالق من توثب الصغير
ألف أبي زيد تفور الرغوة
من خيله الحمراء
(ص221)
3- رموز من التاريخ العربي:
في قصيدة (مرثية جيكور) نجد حشدًا من الإشارات التاريخية ساقها الشاعر في معرض استهتار، فهو يرمز للتاريخ بعصر (تعبان بن عيسى)، وربما كان الاسم الأول ليسقط تعبه هو:
لا عليك السلام يا عصر تعبان بن عيسى وهنت بين العهود
ها هو الآن فحمة تنخر الديدان فيها فتلتظي من جديد
ذلك الكائن الخرافي في جيكور هومير شعبه المكدود
جالس القرفصاء في شمس آذار وعيناه في بلاط الرشيد
يمضغ التبغ والتواريخ والأحلام بالشدق والخيال الوئيد
ما تزال البسوس محمومة الخيل لديه وما خبا من يزيد
نار عينين ألقتاها على الشمر ظلالا مذبحات الوريد
كلما لز شمره الخيل أو عرى أبو زيده التحام الجنود
شد راحًا وأطلق المغزل الدوار يدحوه للمدار الجديد
(ص 407)
فالشاعر مل حالة الخواء التي خلص إليها أخيرًا من جراء مضغ التبغ والتواريخ والأحلام، وقد لاحظنا حشدًا من الأسماء: الرشيد – رمز البذخ، والبسوس – معركة بكر وتغلب، ويزيد هو الذي أمر الشمر بقتل الحسين، وكان مرتديًا ثيابًا حمرًا، وأبو زيد اشتهر بملاحمه….. وفي هذه الإشارات جميعًا رمز للحرب التي نجتر تفاصيلها بلا جدوى، وهو يؤكد ثانية فيقول:
لا عليك السلام يا عصر تعبان بن عيسى وهنت بين العهود!
4 – ومن الصوفية رأينا الشاعر يستعمل (ابن حلاج)، وهو تحريف للحلاج (858 – 932 م)، إذ يقول:
ويا عهد كنا كابن حلاج واحد
مع الله إن ضاع الورى فهو ضائع
(ص 354)
ويرى د. إحسان عباس أنه استخف بفكرة التأليه( 7 )، وهو هنا لا يدل على عمق إيمانه، فيقول السياب:
الحسن البصري جاب أرض واق الواق
ولندنَ الحديد والصخر
فما رأى أحسن عيشًا منه العراق
(ص301)
فهو يتخيل نفسه الحسن البصري الذي يمكن أن يكون أحد الاثنين أو كليهما معًا:
1- الحسن البصري الصوفي (ولد في البصرة 642م – 728).
2- الحسن البصري الرحالة الوارد في قصص ألف ليلة وليلة، والباحث عن الكنوز، ويبدو لي من خلال معاينة أن الاحتمال الأول أكثر إقناعًا، بسبب ارتباط الشاعر بالبصرة، وبسبب الشعور الديني الذي لازم السياب ساعة مرضه. ونحن مع ذلك لا ننكر هنا أن ذكر (واق الواق) يدفعنا إلى التفكير في الاتجاه الثاني.
5- فيما وراء التاريخ من أساطير وقصص دينية – وأبرز رمز يستعمله الشاعر هو السندباد- صاحب الرحلات السبع، وفي حياة السياب ضياع، والسندباد قالب أو قناع يصب فيه الشاعر معاناته واقتحامه وجوَبانه، فيقول عن نفسه:
مثل سندباد يسير حول بيضة الرخ ولا يكاد.
(ص604)
ويخاطب زوجته المنتظرة:
وجلست تنتظرين عودة سندباد من السفار
(ص 229)
وبينما هو:
فلك سندباد ضل في البحر
حتى أتى جزيرة تهمس في شطآنها المحار
(ص654)
وقصة قابيل وهابيل الواردة في الكتب المقدسة يستعملها الشاعر رمزًا للشر في قابيل، ورمزًا لضياع الحق لدى هابيل، وهو يصرخ:
قابيل فينا ما تهاوى أخوه
(ص383)
والشاعر لا يريد أن يكون وريثا لقابيل خوفًا من أن يُسال السؤال الوارد في التوراة بصورة إنكارية:
ولا أكون وريث قابيل اللعين سيسألون
لمن القتيل فلا أقول
أأنا الموكل ويحكم بأخي إن قابيل المكبل بالحديد في نفسي الظلماء
( ص552 )
يرمز هنا إلى قافلة الضياع، وهي اللجوء.
لكن محمد الفيتوري في نقده لقصيدة (قافلة الضياع) يذكر أن الأسطورة التي تعتمد عليها القصيدة تختلف اختلافًا جذريًا عن مأساة اللاجئين في ارتكازها على التجربة.( 8 )
ويرد ذكر قوم يأجوج ومأجوج في القرآن الكريم على أنهم مفسدون في الأرض (سورة الكهف 94)، لكن الشاعر يستعمل الأسطورة وقد شرحها في حاشية (ص 529) أن يأجوج ومأجوج يلحسان السور بلسانيهما كل يوم حتى تصبح في رقة قشرة البصل ويدركما التعب، فيقولان غدًا سنتم العمل، وفي الغد يجدان السور على عهده من القوة والمتانة…..وهكذا حتى يولد لهما طفل يسميانه (إن شاء الله) – فيحطم السور:
يأجوج يغرز فيه من حنق أظافره الطويله
ويعض جندله الأصم وكف مأجوج الثقيله
والسور باق لا يثل وسوف يبقى ألف عام
لكن (إن شاء الإله)
طفلاً كذلك سمياه
سيهب ذات ضحى و يقلع ذلك السور الكبير (ص529)
وبعد،
فقد عرضت بعض هذه الرموز والإشارات في سياقها، وأبنت مدى تداخلها في نسيج السياب الشعري. ولا شك أن هناك رموزًا أخرى فثقافة الشاعر وقراءاته قد لا تكون مسبورة الغور دائمًا ولدى مختلف القراء المختلفة ثقافاتهم.
إذن، لتكن هذه جولة استكشافية في شعر السياب وتصاديه مع التراث العربي في الرموز والأساطير.
ولمن يهمه الأمر أشير إلى أنني كنت قد أصدرت كتابًا حول الأصداء القديمة في شعر السياب – كما يتمثل ذلك في لغة القرآن، وأساليب الشعر القديم، وقد صدرت الطبعة الثانية عن مطبعة الحكيم، الناصرة – (2006).
الهوامش
1) عبد الجبار البصري: “دراسة جديدة في الشعر العربي المعاصر”، الآداب، نوفمبر 1964 ص 4.
2) أخبار وقضايا، مجلة شعر، العدد الثالث، السنة الأولى، ص 111- 113.
3) ن.م – ص 112
4) همزراح هحداش ( بالعبرية )، العددان 1-2 /1968، ص 33.
5) ابن هشام : السيرة النبوية، ج2 ص 13.
6) الآداب شهر آب 1956 ص 64.
7) إحسان عباس: بدر شاكر السياب،دار الثقافة، بيروت – 1969، ص267.
8) الآداب شهر آب 1956، ص 64.
فاروق مواسي