رمضان : فرصة لصناعة استقامة مستديمة ؟؟!!
تاريخ النشر: 31/08/12 | 8:19بقلم الشيخ إبراهيم صرصور – رئيس حزب الوحدة العربية/ الحركة الإسلامية
وَدَّعْنَا رمضان منذ فترة قصيرة … لا ندري إن كتب الله في الغيب أن نعيش لنبلغ رمضان القادم … الأعمار بيد الله ، ولا احد يعرف كم بقي له من عمر مقدر .. لذلك رأيت من المناسب ترك المواضيع السياسية على كثرتها ، وأشغل نفسي بسياسة القلوب والأرواح والتي هي الرافعة إن صَحَّتْ لكل أشواقنا الحضارية والمدنية ، والمدخل لصناعة الحياة بكل أبعادها وقيمها … أذكر في هذه المقام فلسفة الإمام أبي حامد الغزالي في الحياة ونظرته إلى مشروع التغيير والنهضة من خلال كتابه ( إحياء علوم الدين ) … لقد عكف فيلسوف عصره على كتابة مؤلفه لسنوات ، فخرج مرجعا لكل سالك درب النجاة ولكل باحث عن استقرار روحه ونفسه وقلبه وجسده ، ولكل راغب في خلاص أمته من أوحال الفساد والانحطاط والغواية على المستويين السياسي والمجتمعي … من الملفت أن الغزالي لم يطرق باب الجهاد بمعناه العسكري في أربعة مجلدات كتابه رغم أنه عكف على تأليفه في ظل هجمات عاتية للتتار الهمجيين على ديار الإسلام ، والذي عنى بالبديهة حاجة الأمة الملحة لتعبئتها عسكريا في مواجهة الأخطار … لم يفعل … ولما سؤل عن ذلك ، أجاب إجابة الواثق والعارف بما يشفي الأمة من أمراضها : أما الجهاد العسكري ، فالكثير يتقنه ، ولكن الأمة بحاجة إلى إعداد روحي وقلبي ونفسي يطلق فيها الملكات الربانية والمهارات الملكوتية ، ويفجر بين جوانبها ينابيع العلوم اللدنية ، ويرقيها في المنازل القربية ، ويعزز فيها الخصائص الاصطفائية ، فتلمع في سمائها اللطائف الأنسية التي تنسيها الكثائف الحسية ، فتشرب من يد ربها شربة لا تظمأ بعدها نصرا وسيادة …
اتفقنا على أن رمضان يعتبر وبكل المعايير دورة تدريبية سنوية تسمو فيه النفس ، وتشرق الروح ، وينير القلب ، وتنضبط الجوارح ، وتستقيم حركة المجتمع أفرادا وجماعات … أو هكذا يجب أن يكون … المسلم الذي يعي هذه الحقيقة يبادر إلى تحقيق النقلة المميزة في واقعه ، ويعمل على تحويلها إلى حالة مستديمة يحلق في فضاءاتها ، ويستفيد من بركاتها إلى ابعد الحدود … فهو لا يمكن أن يرضى بوضع تنحط فيها نفسه بعد سمو ، وتُظلم روحه بعد إشراق ، وَيَسْوَدُ قلبه بعد أن استنار ، وتنفلت جوارحه بعد انضباط ، وترتبك حركته في الحياة بعد أن استقامت على الجادة …
حاجتنا إلى المحافظة على ما تحقق من تغيير في مختلف مناحي حياتنا في رمضان بسبب ما اختصه الله تعالى من البركات والفضائل والميزات ، هو في الحقيقة كحاجتنا إلى الماء والهواء … لا ينبغي لعاقل أن يفرط بما حققه من قفزات في طاعته وعبادته وذكره واستقامته وعلو همته ، ثم هو يعود إلى سيرته الأولى … هذا مخالف للمنطق كما انه مخالف للذوق السليم والعقل السوي … وهذا بالتحديد ما يجعلنا متخلفين بأشواط فلكية عن السلف الصالح الذين حرصوا دائما على تنمية إيمانهم وضبط سلوكهم وتعزيز يقينهم ، فحقق الله سبحانه على أيديهم ما اعتبره المنصفون من علماء الشرق والغرب فتحا مبينا وشمسا أشرقت على البشرية بعد طول غياب ، فجعلت للحياة معنى وللكرامة الإنسانية نكهة وللوجود طعما … لقد بلغوا منزلة لو كُشِفَ معها الحجاب بينهم وبين الله ما ازدادوا يقينا ، ولو رُفِعَ الحجاب فرأوا الجنة رأي العين ، ما ازدادوا فيها حبا ولها طلبا ، ولو رُفِعَ الغطاء فرأوا النار رأي العين ما ازدادوا منها خوفا وعنها هربا ، ولو جاءهم مَلَكُ الموت في أية لحظة ، ما ازدادوا بلقائه إلا حبا وسرورا وشوقا … أتعرفون لماذا ؟؟!! لأنهم ببساطه ذاقوا طعم الإيمان فعرفوا الله حق المعرفة ، فاغترفوا من بحر حبه ما جعل هَمَّهُمْ هَمًا واحدا وهو الله والإسلام ، فأصبحوا بهذا المعنى الماء التي انتظرته تربة الإنسانية العطشى ، فأعطوها ما لم تعط حضارةٌ على وجه الأرض ، خلقا وحضارة ومدنية وعلما ورفاهية وتقدما ورقيا ، وسعادة بسطت ظلالها الوارفة على الجميع بلا استثناء ، فعاشت البشرية أزهى عصورها وأعظمها ….
هذا هو السر الذي ينقصنا ويجب أن نبحث عنه … وللحقيقة أقول : لقد وجدنا الطريق إلى هذا السر بفضل أيام وليالي رمضان المبارك … أنا على يقين في أن من أقبل على رمضان بهمة عالية وإرادة جادة قد شعر بتغيير ما في حياته ، ربما لم يكن يتوقعه أبدا … فرمضان علمنا أمورا ما أحوجنا إلى الالتفات إليها … الأول ، أن في الواحد منا طاقات نائمة أو خاملة لو تحركت بالشكل الصحيح لحققت المعجزات ، فهي تبحث عمن يعيدها إلى طبيعتها وفطرتها التي فطرها الله عليها ، والثاني ، أننا قادرون على تحقيق كم هائل من الإنجازات الروحية الحياتية خلال مدة قصيرة إن نحن عقدنا النية الصادقة والعزم الأكيد وشحذنا الهمة ، والثالث ، أن التغيير ليس أمرا مستحيلا ، وأن هنالك فرصا يجب ألا تُضَيَّع ، وأن لله في دهره لنفحات دعانا الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم أن نتعرض لها حيثما هبت.
نستطيع أن نحول حياتنا إلى رمضان مستمر ، بمعنى أن نعيش أجواءه باستمرار ونسعد بلذة فيوضاته وبركاته … القرار بأيدينا ، وبأيدينا فقط … والمطلوب : قرار وإرادة وعزيمة …