الواقع اللغويّ وأزمة الهُويّة!
تاريخ النشر: 01/09/12 | 23:22بدعوة من مجمع اللغة العربيّة في حيفا، عقدت مدينة الناصرة العربيّة مؤتمرًا في فندق جولدن كراون، تحت عنوان “مؤتمر اللغة العربيّة في الواقع اللغويّ في (إسرائيل)، وذلك بتاريخ 25-8-2012، ووسط حضور من المثقفين والأدباء.
وفي كلمة رئيس المجمع البروفيسور محمود غنايم جاء:
الأخوات والإخوة.. الواقعُ اللغويّ للّغة العربيّة في إسرائيل لا يستدعي عملاً فرديًّا فحسب، بل عملاً مؤسّساتيًّا تتضافر فيه جميعُ الجهود، لوضع لغتنا العربيّة في مقدّمة الأمور التي يجب الحفاظُ عليها. أقول عملاً مؤسّساتيًّا، لأنّ استثناءَ أيّةِ مؤسّسة ثقافيّة أو سياسيّة أو اجتماعيّة أو دينيّة خطأٌ، لن يقودَ إلاّ إلى الاتكاليّة وإلى التباطؤ والترهّل، بدلَ شدِّ الأحزمة والتشمير من أجلِ البناء والعمل المُثمر.
إنّ ما تقوم به بعضُ المؤسّسات للمحافظة على اللغة العربيّة، وإعطائها مكانتَها كلغة قوميّة على جميع الأصعدة، عملٌ يجب أن يُشجَّع، ويجب أن يَلقى الدعمَ جماهيريًّا، وأخصُّ بالذكر بهذه المناسبة ما تقوم به بلديّةُ الناصرة من سنّ القوانين، لوضع اللغة العربيّة في مركز حياة المواطن، سواء من خلال التعامل بها في المكاتبات الرسميّة، أو من خلال إبرازِها في المشهد المكانيّ على الأماكن العامّة والخاصّة. وأُهيب بالبلديّات والمجالس العربيّة أن تحذوَ حذوَ الناصرة في سنّ القوانين المساعِدة، لإكساب اللغة العربيّة مكانَها ومكانتَها التي تستحقها في المشهد اللغويّ، سواء من خلال المراسلات، أو من خلال علامات الإشهار وغيرِها. نحن في مجمع اللغة العربيّة أقمنا العديدَ من المؤتمرات والندوات والأيّام الدراسيّة حول اللغة العربيّة، وأقمنا مؤتمرًا قبل سنتيْن عن اللغة العربيّة في المشهد اللغويّ، وها نحن نعود ثانية لهذا المؤتمر الذي يعالج هذه الظاهرة. نأمُل أن يكونَ هذا اليومُ الدراسيّ مُثمرًا، ولا بدّ أن تتبعَه أيّامٌ أخرى، لتبقى اللغةُ العربيّة في مركز الوعي الجماهيريّ.
الأخوات والإخوة.. هناك في علم السيمياء ما يُسمّى بالرموز، واللغةُ هي رمز، والتعامل معها ليس مجرّدَ اتخاذها وسيلةً للاتّصال والتخاطب اليوميّ، بل لها وظيفةٌ فارقة في رؤية الإنسان لذاته على المستوى الشخصيّ أوّلاً، وعلى المستوى الجمْعيّ ثانيًا. ولقد بات من البديهي أنّ اللغةَ ليست وسيلةَ اتّصال فحسب، بل هي دالةٌ على الوعي السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ. إن الاعتزازَ باللغة العربيّة والتمسّكَ بها هما جزءٌ من الاعتزاز بشخصيّتِنا، سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا. كما أنّ هذا الاعتزازَ لن يتأتّى إذا لم نُطوّر في مجتمعنا وفي أبنائنا وبناتنا الوعيَ لهذه الجزئيّة من حياتنا.
إنّ التسمياتِ التي تُطلق على المواقع والشوارع والبلدان هي جزءٌ أساسيّ من تمسُّكِنا بهُويّتنا ومجتمعنا وثقافتنا، ويجب عدمُ التهاون في هذه الرموز التي قد تبدو للبعض ليست مُهمّة. العكسُ هو الصحيح، إذا استهنّا بالظواهر الفرديّة والظواهرِ الهامشيّة، ولم نقفْ لها بالمرصاد قبل أن تستفحلَ، فلن يتوانى البعضُ عن التفريط بأكثرَ من ذلك. تبدأ بحرف وبكلمة ولا نعرف أين تنتهي. لذلك انشغلنا في السنة الأخيرة بالتوجّه للمؤسّسات المختلفة، للمحافظة على وجود اللغة العربيّة في اللافتات وفي الجامعات وفي المؤسّسات المختلفة، وعلى النقد المتداوَل بصورة صحيحة وحسبِ قواعد اللغة، ويأتي هذا المؤتمر لتأكيد ما نؤمن به في مجمع اللغة العربيّة.
سنقود معركةً ليست هيّنة ولا بسيطة على قضيّة تسميات المدن والمواقعِ واللافتات في الطرق، وهذه قضيّةٌ تحتاج إلى دعمٍ جماهيريّ وسياسيّ. نحن كمؤسّسة ثقافيّة لا نعمل في السياسة بصورة مباشرة، ولكنّنا على اتّفاقٍ وعِلم، أنّ الكثيرَ من القضايا اللغويّة والتسميات لن تُحَلَّ إلاّ بقراراتٍ سياسيّة، وهذه القراراتُ لن تُتّخذَ إلاّ بالوعي الجماهيريّ لِما يجري على الساحة المحليّة.
المؤسّسة الأدبيّة من كُتّاب ونقّاد لها دورٌ كبير في غرزِ القيم الثقافيّة والتراثيّة في المجتمع، من خلال التركيز على الأسماء في الأدب، سواءٌ لتعزيز العلاقة مع المكان أو الزمان أو الإنسان. ليست القضيّةُ لعبةَ حروف وكلمات، بل هي بناءُ حضارة عبرَ الحفاظ على المخزون الثقافيّ والتراثيّ الذي يصلنا بالمكان والزمان. إنّ بلورةَ روايةٍ تاريخيّة مدعمةٍ بالأسماء، هي جزءٌ أساسيّ من بلورةِ الهُويّةِ الكلّيّةِ لهذه الجماهير الفلسطينيّة في هذه البلاد، ونحن في صراع على الحيّز، بكلّ ما يحمل هذا الحيّزُ من دلالة معنويّة ومادّيّة.
وكوني أتيتُ من حقل الأدب وتحليل النصّ، فقد استوقفتني كلماتٌ في أغنية فيروز:
أسامينا شو تعبوا أهالينا تَ لاقوها وشو افتكروا فينا
الأسامي كلام شو خصّ الكلام عينينا … هنّي أسامينا
نعم الأسماءُ هي الهُويّة، وكم تعبت الأجيالُ السابقة وهي تَسِمُ هذه الرموزَ وتطبعُها في الذاكرة التاريخيّة وفي الحضارة الإنسانيّة، الأسماءُ ليست مجرّدَ كلام، إنّها العيونُ التي ننظر بها، والهُويّةُ التي نُعْرَفُ من خلالها.
وفي كلمة المهندس رامز جرايسي؛ رئيس بلدية الناصرة واللجنة القطريّة جاء:
اِسمحوا لي أن أُعبّر عن التقدير لمجمع اللغة العربيّة بكلّ ما يقوم به، من أجل تعزيز اللغة العربيّة، والقيام بجهد لعملٍ هامّ يتعلّق بملاءمة احتياجات العصر لتطوير اللغة، وتحديد استعمالات يوميّة تُلائِم أمورًا استُحدِثت نتيجة التطوّرات العلميّة والعصريّة بشكلٍ خاصّ، فأهمّيّة الندوة تأتي على خلفيّة جانبَيْن هما وجهان لنفس العملة:
الجانب الأوّل: كون اللغة جزءًا من الهُويّة الوطنيّة والثقافيّة لأيّ شعب.
والوجه الآخر: في واقعنا وخصوصيّة واقعنا هي التحدّيات، التي تواجهها اللغة في ظلّ واقعنا كأقلّيّة قوميّة، ضمن دولة تعتمد لغةً أخرى كأساس في تعاملها، وهذا الأمر يُحتّم أن تُلائِمَ الأقليّة نفسَها لهذا الواقع، وفي عمليّة الملاءمة تلك، يجري تآكلٌ في مكانة واستعمالات اللغة الأمّ. اللغة العربيّة في هذه الحال، والأمر ليس فقط نابعًا من واقع وتطوّر طبيعيّ ضمن هذا الواقع، وإنّما أيضًا من خلال عمل منهجيّ مؤسّساتيّ، للحدّ من مكانة اللغة العربيّة وتقليص التعامل بها.
نحن نشهد في الفترة الأخيرة تعاظمًا في الهجمة على اللغة، كجزء من الهجمة على الأقليّة العربيّة الفلسطينيّة في هذه البلاد. الهجوم على اللغة وكلّ المحاولات للمسّ بمكانتها الرسميّة ومكانتها الفعليّة، هو جزء من كلّ ما يتعلّق بموجة التحريض المُعادي للعرب، التي تسود وتتعاظم في هذه الدولة.
يمكن أن نُعدّد الكثير من النماذج، ولكن يكفي أن أشير إلى نموذجيْن من الفترة والسنوات الأخيرة:
النموذج الأوّل: حوالي سنة 2009، تمثّل بوضع تسميات وتغيير في تسميات المواقع، وفي نفس الوقت اعتماد النص العبريّ في كتابتها اللغة العربيّة، مثلاً الناصرة تصبح في اللغة العربيّة نتسرات، ويافا تصبح باللغة العربيّة يافو، وشفاعمرو تصبح باللغة العربيّة وتكتب بالحروف العربية شفارعام، وتمّ نشر هذه التسميات على موقع وزارة المواصلات في حينه، ولإعطائها شرعيّة تمّ إقحام اسم بروفيسور راسم خمايسي ضمن اللجنة، التي يُفترض أنّها أقرّت هذه الأسماء، وطبعًا، وبعد لفت نظر بروفيسور خمايسي لهذا الأمر، طلب إسقاط اسمه من اللجنة، وهذا ما تمّ، لأنّه حينما توجّهت برسالة إلى وزير المواصلات، وهدّدت بالتوجّه إلى محكمة العدل العليا حول هذا الموضوع، قاموا بتغيير الصفحة الأولى، وكتبوا عليها باللون الأحمر “مسودة تيوتا”، ولكن فعليًّا، مَن يُتابع اللافتات التي يتمّ تجديدها في كثير من الأحيان، فقد اعتمدوا أسلوب السلامة اسمًا بعدَ اسم، حتى يُقلصوا مِن قوّة مواجهة هذا التصرّف.
في الرسالة التي وجّهتها قلت: إنّ هذا ليس مجرّد تغيير أسماء، إنّما هو اعتداء على التاريخ واعتداء على الحضارة، وهو جريمة ثقافيّة، وتحديدًا بالنسبة لمدينة الناصرة، فقد هدّدتُ بالتوجّه إلى اليونيسكو، لأنّ اسم الناصرة هو ليس مجرّد اسم مكان، إنّما هو قيمة في التراث الإنسانيّ، وطبعًا، أسماء معظم المواقع والبلدات العربيّة هي ليست مجرّد أسماء أماكن، وليست مجرّد لفظ، إنّما هي جزء من تاريخ وحضارة وتراث إنسانيّ، وأيّ اعتداء على هذه التسميات، هو اعتداء على التاريخ والحضارة والتراث الإنسانيّ، وطبعًا، بالنسبة لنا، على التراث الوطنيّ.
والنموذج الآخر، هو محاولة تغيير حتى الجانب الشكليّ في مكانة اللغة العربيّة من ناحية القانون، فمبادرة الوزير ديختر، وهو لا يُعتبر من اليمين المتطرّف، واليوم لا أعلم ما هو اليمين وما هو اليمين المتطرّف، وحتى أحيانًا ما هو اليسار، فيما يتعلّق بالتعامل معنا، مع الأقليّة العربيّة الفلسطينيّة المواطنين في الدولة، طبعًا هذه محاولة بائسة لتثبيت ما هو قائم.
في سنوات الخمسينيات والستينيات كانت القوانين والأنظمة تُترجَم للغة العربيّة، وكانت أيضًا تُطبَع باللغة العربيّة وتُوزّع باللغة العربيّة، ولديّ في بلدية الناصرة العديد من هذه القوانين والأنظمة باللغة العربيّة، وكان يتمّ تراسل حتى مع مؤسّسات رسميّة باللغة العربيّة، وكانت المؤسّسات الرسميّة تدأب على أن يكون هناك من يعرف اللغة العربيّة، وانتهى من زمن، وأصبح موضوع أنّ اللغة العربية لغة رسميّة في البلاد، ليس أكثر من أمر شكليّ.
أمّا من ناحية الممارسة فبعيدٌ جدّا عن التعامل معها كلغة رسميّة ثانية في البلاد. طبعًا عندما يصل الأمر حتى إلى المؤسّسات الجامعيّة، تلك المؤسّسات التي يُفترَض أنّها متنوّرة حضاريًّا كما حدث مع جامعة حيفا، التي اضطرّت إلى التراجع عن التوجيهات التي أُعطِيت بإسقاط اللغة العربيّة من شعار الجامعة، هذا يدلّ أيضًا، أنّه يمكن التأثير في لجم هذا التدهور، ولا شكّ أنّ لكلّ منّا دورًا، وهناك مَن عليه أن يُترجم هذا الدوْر إلى فعل على أرض الواقع، ومنها السلطات المحليّة، ونحن في اللجنة القطريّة وأكثر من مرّة، بحثنا هذا الموضوع وتوجّهنا بنداءات إلى كلّ رؤساء السلطات المحليّة أوّلاً، باعتماد اللغة العربيّة كلغة التعامل داخل السلطة المحليّة، وما بين السلطة المحليّة والمواطنين.
أحيانًا، ما باليد حيلة، لأنّ التعامل مع المؤسّسات الرسميّة يتمّ باللغة العبريّة، وهذا أصبح واقعًا ليس بيدنا أن نُغيّره، ولكن على الأقلّ، بيدنا أن نفرض التعامل باللغة العربيّة داخل مؤسّساتنا وما بيننا وبين المواطن، وقد وُوجِهْنا في كثير من الأحيان من مدراء دوائر وأقسام، أن ليس لديهم المقدرة اللغويّة لصياغة مثلاً مَحضرًا باللغة العربيّة، فيُصاغ باللغة العبريّة. أو محام يُوجّه رسالة باللغة العبريّة، وعندما يُطلب منه أن يكتبها باللغة العربيّة، يجيب: تعلمت باللغة العبريّة وليست لديّ المقدرة بأن أصوغ الرسالة باللغة االعربيّة.
هذه النتيجة تعني أنّ هناك عمليّة متواصلة، في جوهرها تآكل اللغة العربيّة، وتبدأ من المدارس، وعندما قبِلَ وزير المعارف حين كنتُ أحد الذين توجّهت إليه، بأن يفرض أن يكون هناك مستوًى وحدّ أدنى من معرفة اللغة العربيّة لدى أيّ معلّم يتمّ تعيينه، وليس بالضرورة للغة العربيّة، لأنّه لا يُعقل أن يقف المعلم أمام الطلاب، وليس بمقدوره أن يُعبّر عن الموضوع والفكرة التي يريد إيصالها للطالب بلغته وبصورة جيدة ومقبولة. من هنا تبدأ المشكلة.
أصبح موضوع تعلم اللغة العربيّة والتقدّم لامتحانات البجروت التوجيهيّة بخمس وحدات في اللغة العربيّة معضلة، ربّما أكبرمن معضلة الرياضيّات واللغة الإنجليزيّة، ولذلك أصل إلى مَن تحمّلون أيضًا المسؤوليّة، فقلت السلطات المحليّة، وما تمّ الإشارة إليه من سنّ قانون مُساعِد، نأمل أن يتمّ المصادقة عليه قريبًا، لإلزام أيّة مؤسّسة وأيّ إعلان في حدود المدينة، أن يُصاغ على الأقلّ ثلثه باللغة العربيّة إن كان بثلاث لغات، أو نصفه بلغة عربيّة إن كان بلغتيْن، وهذا ينطبق أيضًا على اسم الموظف في البنك، يجب أن يكون أيضًا باللغة العربيّة.
وأيضًا للمدارس، ولمدراء المدارس، وللجان أولياء أمور الطلاب في المدارس دوْر في الإصرار على أن يكون للغة العربيّة مكانة متميّزة، ضمن برنامج التعليم لأيّ طالب، من روضة الأطفال فصاعدًا، والآن أصبح التعليم من جيل ثلاث سنوات مجانيًّا، فمِن هنا يبدأ إدخال أهمّيّة اللغة إلى إدراك الطفل، وبالتالي ينمو مع فكرة أهمّيّة اللغة عندما يكبر.
وأودّ أن أشير إلى أمر أيضًا في رأيي له أهمّيّة ضمن واقعنا، وكما هو معروف، منذ سنتيْن بدأت تعمل في مدينة الناصرة أوّل كليّة أكاديميّة معترف بها من مجلس التعليم العالي، ورئيسها بروفيسور جورج قنازع، وطبعًا دون أن يكون هناك أيّ تمويل، لأنه كما يظهر، أنّ مَن أعطى المصادقة كان على ثقة مِن عدم إمكانيّة تفعيل مؤسّسة أكاديميّة بدون تمويل، مؤسسة جماهيريّة طبعًا، ولكن في نهاية السنة الحاليّة ستُصدر المؤسّسة أوّل شهادات B.A و B.S.C ، والأمر المهمّ والذي نأمل أن يتمّ إنجازه قريبًا جدًّا، وكان قرارًا استراتيجيّا، هو بناء سيلابوس لتدريس اللغة العربيّة للقب الأوّل كلغة أمّ، فالأمر غير القائم في كلّ الجامعات الإسرائيليّة، التي تُدرّس فيها اللغة العربيّة كلغة أجنبيّة، وفي كثير من الأحيان هناك دروس باللغة العبريّة، وهذا طبعًا له دلالة، ليس فقط أنّه يتيح الفرصة لتخريج خريجي اللغة العربيّة بمستوى أعلى من المؤسّسات الأكاديميّة الإسرائيليّة، وإنّما له أيضًا دلالة معنويّة هامّة.
وألخّص؛ بأنّ لهذا الموضوع أهمّيّة كبيرة على خلفيّة واقعنا وموقعنا، وضمن مُجمَل التحدّيات التي نواجهها ونناضل من أجل الأرض والقرى غير المعترف بها والقرى المُهجّرة، وبنفس المستوى يجب أن نناضل من أجل الحفاظ على لغتنا، وفي هذا النضال دوْرنا الذاتيّ أكبر بكثير من دوْرنا الذاتيّ في الإشكالات والتحدّيات التي نواجهها، وأن يقوم كلّ منّا ضمن مجتمعنا بأقصى ما يمكن لتحقيق هذا الهدف، لأنّ البديل هو الضياع القوميّ، والضياع الوطنيّ، والضياع الحضاريّ، وطبعًا أزمة الهُويّة!
ومن ثمّ ابتدأت الجلسة الأولى، فتناولت البُعدَ التاريخيّ لموضوع اللغة العربيّة والتسميات، وقد تولى رئاستها محمود كيّال، وألقى المحاضرة الأولى بروفيسور راسم خمايسي في جامعة حيفا، بعنوان أسماء المواقع في بلادنا بين الماضي والحاضر:
تحدّث عن تدارس ونقاش مسألة المكان في الواقع اللغويّ، وكيف نستطيع أن نُحضّر وننتج معرفة، ونربط بين اللغة العربيّة والمكان، خاصّة على خلفيّة هجمة التحريض، وعمليّة محاولة عبرنة الأسماء وتذويتها، سواء بواسطة الخرائط ، أو الإعلام والإنتاج المعرفيّ الأكاديميّ.
وقد قدّم دراسة تناولت أسماء المواقع بين خارطتيْن، فترة في الماضي والحاضر، بحيث رصد وناقش كيفيّة نشوء أسماء المواقع ومسمّياتها، كجزء من الموروث الحضاريّ والتراث اللغويّ، والواقع الموضوعيّ للغة العربيّة في حيّزنا، وكيف أنّ هناك عمليّة ممنهجة ومبرمجة لتغييب وإنكار هذه الخارطة، بواسطة عبرنة الأسماء وخلق خارطة بديلة .
هناك صراع بين خارطتين ، والذي يُعبّر عن الصراع السياسيّ الحيزي الثقافيّ بين مشروعيْن على هذه البلاد، وحاولت أن أترجم كيفيّة إبراز هذه الخارطة العبريّة مكان الخارطة العربيّة، من خلال أدوات تُستخدَم فيها المؤسّسة، يُستخدَم فيها الإعلام، تستخدم فيها إنتاج اللغة العبريّة، وعمليًّا، محاولة إنكار اللغة العربيّة في هذا الواقع، وقد أعطيت عدة توصيات:
عمليّة نشر الأبحاث واجب على السلطات العربيّة، وأن تقوم بإعداد خرائط تمثّل الموقع وتُبرز الموقع والفولكلور المحليّ بتسميات المواقع، ولديها القدرة ولديها الإمكانيّات، ودون أيّ مانع .بالإضافة لذلك، هناك نوع من حالة إنتاج الخارطة العربيّة كما هي، قبل الثمانية وأربعين، وكذلك إنتاج الخارطة كما نتجت في الواقع الجديد الذي نشأ، بحيث يكون فيها تعبير للغة العربيّة، للواقع العربيّ، ولهذا الحضور العربيّ .
يُشكّل الصراع على أسماء المواقع أحدَ مُركّبات الصراع الرئيسة بين المجموعات القوميّة، الإثنيّة، الثقافيّة التي تعيش في نفس الحيز، وكلّ مجموعة تسعى إلى تغليب حضورها وسيطرتها على الحيّز، من خلال فرض أسماء مستقاة من تراثها وثقافتها.
لا شك بأنّ الاسم هو نتاج لغة مجتمع ذي تراث، ثقافة وحضور، وكلّ غالب في صراع يسعى إلى خلق خارطة أسماء للمواقع، تعبّر عن روايته، ثقافته وتراثه؛ ولذلك نجد أنّ فرض أسماء على المواقع تخلق غُربة بين المجموعة القوميّة الثقافيّة وبين محيطها، إذا لم يكن هناك تجانس وانسجام بين أسماء المواقع، وبين تاريخ وتراث المجموعة التي تعيش في الحيّز.
كانت الحركة الصهيونيّة على وعي بأهمّيّة خلق خارطة أسماء مواقع، كجزء من عمليّة مُبرمَجة لاحتلال المكان وإقصاء الإنسان العربيّ الفلسطينيّ، وتغييب تراثه، وتزييف تاريخ المواقع العربيّة الفلسطينيّة من خلال عرض مسطرة تاريخية انتقائيّة أو مُحرّفة؛ لذلك بدأ الصراع على وضع اسم للبلاد عامّة، وعلى اسم كلّ بلدة، واد، جبل…إلخ، خاصّة، منذ أن بدأ المشروع الصهيونيّ يُنفّذ في بلادنا، وتمّ تنظيم عمليّة تبديل وتحريف أسماء المواقع بعد إقامة “لجنة الأسماء المنبثقة عن الكيرن كيّيمت” عام 1922، وفي عام 1952 تمّ إقرارها بموجب قانون لتصبح لجنة الأسماء الحكوميّة، وهذه اللجنة خلقت خارطة جديدة لأسماء المواقع، وهي ما تزال فاعلة، تتخذ قرار وضع اسم لكلّ موقع.
تهدف المحاضرة إلى وضع عرض نظريّ لعلاقة الصراع على تسمية المواقع وأثرها في خلق الحيّز العامّ، وكيفيّة تطبيق تغيير أسماء المواقع في بلادنا، وتعرض المحاضرة حالة خلق خارطتيْن لأسماء المواقع: واحدة تُمثّل الرواية، التراث، الثقافة والحضور العربيّ الفلسطينيّ؛ وأخرى تمثل الرواية الصهيونيّة الإسرائيليّة، كما تتناول المحاضرة دوْرُ ثنائيّة…