الباهرة
تاريخ النشر: 02/01/15 | 16:55الموج عجوز ثرثار، والدنيا الّتي كانت جميلة قبل أن يتركها جلال ويذهب تبدو كقمر أزرق، والناس مغبرون ومدمنون على الخلل والإنطفاء. لذلك؛ لا يكف النمل الأسود عن حفر خنادقه في أجسادهم. تتوقفُ عند غبار الناس وتفاجىء تلقائيّة تسلله لقاموس عشقها. لا توجد مفردات كثيرة تدلّهت بها لهذا الحد.
ألِأن جلال صادقَهُ؟ يجوز أن حكايتها معه لم تبدأ قبل جلال، ولكنّها تتذكر دائما، أنّ احتقان لونه كان مبررا لفتنة لم تتوقف عن تسجيلها في دفتر الرسم منذ الصِغَر. تطلب إليهم المعلّمة أن يرسموا سماء، فتجلس تحت اخر مقعد في الفصل، وترسم ترابا فوق قبر ثمّ تلوّنه بالبنّي والأحمر والأخضر، كل كومة ومستطيلها الخاص. تَزْكُر ورقة فوليو A4 بالكومات الصغيرة القاتمة. ناعمة جدا مثل التراب الذي تقتفي أثره في حاكورة البيت، لتعثر على صغار الخلد وتلاعبهم بين أصابعها وتضحك.
حين تبحث عنها معلمة الرسم لا تحتاج لأكثر من انحناءة خفيفة تحت المقاعد لتجدها كما عوّدتها تكبّ على كوماتها في آخر مقعد؛ منهمكة بالتسطير والمحو برغم نهيها لها ألف مرّة عن استعمال الممحاة والمسطرة. تزعق فيها وهي لا تزال منحنية “لن تتوقفي عن عادتك السيّئة”؟! ترفع حاجبيها من بعيد، تلاحظ غضب المعلّمة. تسترد عيونَهَا الكثيرة بهدوء وترخي حواجِبها فوق ساحة البياضة الواسعة؛ متابِعة جَبْلَ التراب فوق القبر الواسع بألوانها الخشبية. تُزيح أطراف شعرها المنبوش ببصلة كتفها، وتسترسل لسحابة الصمت. مندمجة أكثر مما تعتقد المعلمة بكوماتها الخاطفة لشوق طفولتها الشقيّة. ربّما من السفوح الترابية لقوالب الوحل، بدأت تنتظر الشوق وتبحث عنه بَليلاً في أكواع جلالَ لا يصل.
ثمان وأربعين كومة، تعدّها المعلمة حين تستنهضها مع ورقة الفوليو A4 “لا تخطئين أبدا، لكن، لماذا لا تسمعين؟ سيدفنك الغبار، ألف قدم تدور حولك”. حين تحاول المعلّمة نفضه تتمرد.. تفلت من يدها.. وترجوها ألا تفعل، “بس ريحتو زيِّ الشِّتَا”. تلفُ الدهشة المعلمة “وأنت يا باهرة بتحبي الشتا”؟ تهمس باستحياء، منطلقة الأسارير: “مش بس معلمة، بموت فيه”.
تعيش المعلمة مفاجآتها اليوميّة مع طفلة المقعد الأخير، الباهرة. لكنّها لا تكف عن سؤالها، حين تعثر عليها تحت المقعد: لماذا حجزتْ هذا القبر، وجلبت جميع بيوت الخلد من حاكورة بيتهم إلى المدرسة؟ باهرة لم تعرف أيضا، ولم تنزعج من توقف الكومات عند الرقم ثمانية وأربعين، بدل سبعة وأربعين.. أو ستة.. أو تسعة. لم تتفوق في الأرقام، تميّزت فقط في تكويم التراب وجَبله، ولم يجرؤ على منافستها في عجنِهِ أحد. وحين التقت جلال أقنعها، على أنقاض نقاش صعب، أنَّهُ دعسات الصمت في قلب الزمن؛ كصليل الجنس في مرآة الرغبة.
أحبّت هذه الدعسات؛ لأنّها مشتقة من فعلٍ قادرٍ دوما على التحقق، مثل دعسات جنود جيش الدفاع في الجنوب اللبناني، ودعسات حزب الله في إقليم التفاح والليطاني، ودعسات لاجئي ألـ-48 في رمل المخيّمات، “ودعسات لهفتك يا جلال بين عينيَّ”.
تهمس حين ينازعها الحنين.. خضراء كالبقدونس الّذي يكبّره الفلاحون في صفائح الخل. تشبِهُ الّتي تراهنّا على احتمالات بقائها بعد أن يكنس الزمن كلّ الدعسات. وكانت تشاكسه، “دير بالك، هذه النباتات الخضراء رهنا لبقائنا معا”. بقيت هي، وذهبا كليهما. هي مع صفيحة الخلّ الفارغة، وهو مع التراب الّذي عبّأ به جيوب سترته المهلهلة.
أحببتُكَ، ربّما، لكن أكثر منكَ دعساتِك؛ لأنّ المرأة تحتاج أن تحسّ ثقلاً في أقدامها لتظلّ ممتلئة بالانتماء إليه، أم أنّه مسّ الكينونة فقط، أن تظلّ نقيض الصدى ونقيض الفراغ؟ وأحببتُ الغبار منذ سمعتُكَ تُفسّرُ وُجودَهُ. “سيدفنُ أثاثَ البيت، ويدفنُكِ قَريباً تحته”، تقول صديقتها باشمئزاز. تُسكتُها بِكلامِها الموزون عن فلسفة تسميها “فلسفة الغبار”، لم تسمع عنها من قبل، مرددة كالببغاء حديث جلال الطويل والمتعب. تبهّره كما اعتادت بآرائها الماجنة حول منافعه الوهميّة.
ماجنةً كنتُ في تَهْجِئةِ محبّتي وغُبَاري. منافع أتبنّاها، لم يُنزل الله بها من سلطان. حين تُلحُّ، وأرتبِك أتذكّرُ قِدْراً تَركتُها فوقَ النَّارِ وأهرب. أُلفلفُ الموضوع، كيفَمَا اتُّفِق، وَسطَ استهجانها المتزايد لفلسفتي الدخيلة. تنهي الموضوع بتأفف وضيق، “أكيد باهرة جرى لعقلك شي؟” تتركني خلف الباب على عجل وتعدو باتّجاه الدَّرج، كأنّما تتخلّص من عدوى وباء. أستوقفُهَا لأستكملَ جُملتي فتجرُّ أطرافَ فستانِها الفضفاض. من زرِّ ساقِها يسقطُ اسم جلال ويتدحرج متململا فوق لزوجة الدَّرج. تلتفتُ إليَّ بحنق واعدة إيايّ بموت جميل داخل الوهم. أنخرسُ تماما. يعلقُ في ثقب أذني صدى الحرف الأخير. فيه شيء من الدمدمة والدمدمة تذيب روحها، ولو كانت مسرحا لفرح.
جميع صديقاتها عُفنها، وواحدة لم تعد قادرة على استساغتها. لن يفهَمنَ أنَّ الغبارَ موروثها الوحيد من ذكرى رجل تمنّت عنه الموت. منذُ سقطَ تكتّل عقلي في مقدّمة حذائي، كأنّما لم يكن قبل ذلك في أيّ مكان. زلّ، ربّما كما أكّدت أمّي لجارتنا بدريّة. سمِعْتُها من شبّاك المطبخ المطل على ساحة البيت المائجة بشجيرات الحبق البرّي، تبثُّ لها ما قالته فتّاحة المندل، وتتحسّر بألم، “هذه الحزينة لم يبق في رأسها، منذ ذهاب الحزين، بِزْرِة عقل، “كانت مولعة فيه، وما يكون”! وفهمتُ من لون الحُرقة الّتي التهبت في وجنتيها أنّ الحزين ليس غير جلال.
غريبة هذه المرأة، همستُ لنفسي. لا تكفّ أبدا عن توبيخ أَلَمِي، ولا يهمّها أن تحيلَ أخباري إِلى نشرة جويّة عامّة. فغدا سيُذَاعُ في حيِّ التفّاحة أنّ ابنتها أحبّت الفدائي الّذي فجّر حافلة الركاب رقم 48 في شارع دزنجوف في تل أبيب. وغداً، أيضا، ستجوبُ شرطة الوحدة الخاصّة شوارع يافا بحثا عنها. لم تصدّق مرّة واحدة بأنّه قادر على تفجير فَشَكَة في دجاجة. وكان حين يفعلون يحتج، “ليش يذبحوها؟ طيب يطخّوها”.
كرهتْ أمّها أيضا. إنّها ثرثارة كالموج؛ لا تكفّ عن الشكوى وافتعال الحزن، حتّى أمام أفراد الشرطة الّذين ماجوا في ساحة البيت. بدأوا يسألون، وبدأت تجاوب على كلّ ما لم تعتقد أنّها تعرفه عنه. مجرد كلام يملؤون به أوراقهم الجائعة لأسماء يعلّقون عليها إدانة:
– أين رأيتِه آخر مرّة؟
– قرب المرحاض.
– ماذا قال عن الدنيا؟
أنّها مثلكم سوداء، وابنة كلبة.
– لا تطيلي لسانك”.
– أخاف إن قَصُرَ يا سيّدي أن تَطالَهُ، مُرغماً، مِقصّات بذاءاتكم.
– ماذا قال عن اليهود؟
– ما يقولُهُ عن العرب؛ “أنذال، وأبناءُ كَلْبَة”.
– ماذا لبس تحت بنطاله؟
– ما تلبِسنَهُ زَوجاتِكُم تحت فساتينهنّ”.
– ماذا كانت آخر جملة غَزلَكِ بها؟”
– أُحبّك كما أحبّ الرقم ثمانٍ وأربعين.
– أهكذا يتغزل العشاقُ في مخيّمكم بحبيباتهنّ؟
– (حدّقت فيهِ بحقد):
حيُّنا وليسَ مخيّمنا، فقير يا سيّدي، ولأنّ رجاله لم يدوّروا رقما بين أيديهم منذ رأوكم، يفتعلون هواية التغزل بالأرقام، أنت تفهم مجرد وهم جميل.
– ماذا كانت آخر أمنية تمنّاها؟
– أن يصاب ليوم واحد بالتخمة.
لغموا رأسها بالأسئلة، وحين امتنعت عن الكلام لغموا جسدها بالكدمات؛ هزُّوا جسدها حتّى أغمي عليها. تدفَّق نزيف حاد بين ساقيها، من ذات الموضع الّذي ظلّ جلال يتشوّق أن ينزف منه “لم يكن يحفظ غير الرقم ثمانية وأربعين يا أولاد الكمبة”. لم تفهم شوقه آنذاك، بل وكرهت أن تفهم. خافت أن يقتل الشوق الغامض حبّها الجامح، فالرّجل يعاف المرأة بعد أن يفضّ سرّها. هو كالدعسات الّتي تحبّ شوقها في فمه، هي على عاديتها غريبة وقاصفة، وقد رفضت مراراً عروضه السخيّة لتقـشيرها حين موّهته بجهلها. ظلّت ترفض وظلّ يدهش، هذه المرأة الفاتنة هل سيفهم المنطق الّذي يحقن خانات عقلها؟
ذهبت أمها بعيدَ شهور من احتفال حيّ التفاحة في يافا بكتيبة الوحدة الخاصّة. داهمتها الكآبة والمرض. وتمنّت، بصمت شديد، أن تأخذها إليها الملائكة، ليست أفضل من جلال لتعيش أشواق غَدِه. عاشَ لها بألفِ شوقٍ، لذلك خطّأ تفسيراتها المرتبكة، ونواياها الشريرة المتفاقمة تجاه وجودها. لقد ذهبَ وذهبت أمّها، ولن تملك قوّة ثنيها عن تنفيذ مخططها، حتّى قيامة جلال من موته! فاجأت نفسها حين صدّعت أجزاءها الوحدة بالوساوس والمرض، أيعودُ حقا؟ هل يعود الموتى من صمتهم؟ كانت عاجزة عن تجميع قصاصات جسده في صورة كاملة. دائما كان ثمّة جزء ناقص. ويبدو أنّه يرفض العودة إلى ما قبل انفجار الحافلة، همستْ لنفسها باستسلام، ودفنها اليأس بالشوق. كم صعبة أشواقها إليه، تفهم الآن ذلك أكثر من أيِّ وقتٍ مضى.
أقلعت أمّها عن الثرثرة، وأقلع جلال عن الإشتياق، لمن تحيا الآن؟ يشعلُها فحيح همسه “هجّرونا عند الرقم ثمانية وأربعين، وسوفَ نُعيدهُم إلى نفسِ آلمحطّة، وسوف نتزوّج يا باهرة حين يستطيل الزمن ويصير الشهر ثمانية وأربعين يوما، فقط حينذاك”. مغَلَها الضّحك بعد أن سمعتهُ. عدّت الأيام على أصابِعِهَا ولم تصل ليوم يحدث فيه زواجها. ضحكتْ مستظرفة النكتة. يداورها؛ والمداورة أسلوبه الأثير في إطلاق النكات. لكنّها حين أصغت لبكاء الكلمات في قلبها سكتت، تماماً، وتسمّم ضحكها بالتعاسة. حدّقت بسبلتي شاربيه الضئيلين، وتملّكها إحساس بالعدم. استخفّت بالدنيا وبه ربّما، وبالرقم الّذي يهدد وجودهما معا. وبضحكها الممجوج حين أحصت أبعاد نكتته، وقررت بكلام أبحّ يرتعد نقمة “إذن.. لن نتزززز..وّووّج أبببب..ددداً”.
تتذكر الآن ابتسامته البيضاء، نصف مشتعلة تحت ياقته، كأنّما تعتذر بنصفها المعتم عن ترددها. قرحة، أجل قرحة ضيِّقة عند نصفها المعلّق دائماً، لكنّها لم تتمكن من خداعها، حتّى وهو مندفع في استعراض فلسفةِ غبارهِ، كانت تُعَسْعِسُ روحَها تـقاسيمَهُ، وتتأكدُ من فداحةِ الهوّةِ الّتي سَيَخلُصُ إليها، لكنَّهَا هوّةٌ ماكرة لم تُشِع غيْر شقرقات الأمكنة في وجوه محيطيه إلاّها هي. كانت تجسّ نبض الأرقام في غمزة كوعه، كلّما انكشفَ عمقَهَا اسودّت أصابعها وجَعَرَ الخوفُ فِي حَلقِها. لماذا كان حاذقا لهذا الحد في فلسفةِ الخداعِ أيضا؟ هل فهم أحدٌ غيرها كُنْهَ هذا الغبار؟ كان عاصفة تملأ مخيلته عندما يرتفع صهيل الخيول في حظائر الضفة الأخرى. ولم يقل وداعا لصفيحة الخلّ وأوراق البقدونس، هذا ما يؤلمها. وحيدا وبعيدا ذهب، ألأنّه قطع عهدا على الشمس قلّد غروبها؟ وحيدة يشيّعها الشفق بعد أن يتلفع آلنّاسُ في غرفهم وتُكزدِرُ البرودةُ في الشوارع. لكنّها تذهبُ لتعود، تتشبَّثُ ببصيصِ حقيقةٍ وآهٍ.
استحالت رأسها إلى نافورة من الهواجس اللئيمة، كلّما أشرق قرص لشَّمسِ أو أغرب. ساعات طويلة تسند حائط الشُّرفة لتحرسها من اغتيالٍ محتمل حتّى يسحبها أوّل انحدار للأفق. تعبَتْ من سَحْجِ الصّدى في مراييل مطبخها، وأصبحت غير قادرة على إحياء ما يموت يوميا في زوايا البيت. شيء ما سقط من رأسها أثناء النوم فوق المخدّة وأفرغهُ من الشّوق. دفنت قلبَها آلوحشة وفي دمها تمزَّقَتْ أصواتُ الّليل. أبقيَ شوق بعد جلال؟ كيف يمكن أن تحادثهنّ ولا ينحشر أطلس عينيه الشفيف عفوا بين ثقوب الكلام. صديقاتها لا يفهمن أنّها تحتاج أنفاسه ونكاته وغباره، وخطوات الذئب الجائع بين سيقان الكلام. إنَّ رجلا لم يتقن رقص الأنفاس في نشوة الجسد كما فعل. تمنَّعت، ليمعنَ في المحاولة، وحثّتهُ من بعيد على انتزاع استسلامها كما ينتزع مدلّهٌ طوقا من خصر راقصة آخر ليلٍ أحمر، بحيلة وشراسة. لحظة سقوطِهِ تعربدُ تقاسيمَهَا برغبةٍ رَعِنَة. “هكذا هنّ النساء، (يمازحها لحظة تطوّق ساعده خصرها)، ينتشينَ لحظة السُّقوط”. تستاءُ وتتجهم ظلال خديها، تعبس كثيرا فيسارع إلى تقبيل باطن مرفقها هامسا بانسحاق “لا تغضبي يا مليكة روحي، الكلام يطير مثل الحمام ومثل الغبار وأوراق الشجر، لكنّ المحبّة تزهر في القلب إزهار الأبد”. حبّها لتكوينه يفرغ غضبها كما تفعل قرصات الشَّمسِ لبالونات الأطفال الملوّنة.
تقلّبُ رسائله الصّوتية داخل الحاكي، وتنأخِذُ بضحكاته، ببنساتها المتكررة تحديداً. لم يترك لها رجل ذاكرة زاخرة كالّتي تركها جلال. لسبب لا تفهمه، كان حريصا على رسم اللحظة الّتي لا تشاركه مشاهدَها. يوثِّقها، صوتيا، بعناية ودقّة “صباح الخير”.. “مساء الخير، وِلِك وينك، انتظرتك قرب بائع الذرة المشويّة، تذكرينه، أليس كذلك؟ قبل المنعطف المواجه لمقبرة النصارى”، “لاح أخنقك مش عارف ألقيكي، أنا قريب من ورق الخرّوبة اللّي سجّلنا عليها أسامينا، الساعة سبعة ونص، بس وينك، وينك”.. “إحكيني ضروري، ع حداعش ونص قبل ضربة جرس الكنيسة، واليوم يوم الأحد.
وقعت الدنيا بكلساتي، وتحمّص راسي، بس بلاكي ولا ولا ولا شي ماشي”، يغلق السماعة ثمّ يعيد آلإتّصال.. “ماشي ماشي ماشي على مدرستي ماشي، بديييش أصحا قبل ما أَشُوفك، إِفهَمي عاد! طفّرتِ بُسطاري وسماي، قلبِي آنخلع، إسألِيني ليش؟”.. “مشغول على طول بس بفكر فيكي زي المهبول”.. “مِششتَقْلِك، وِلِكْ وينْ وينْ ربّك؟ تضغط أسنانها على آخر آلكاف، تُعِيدُ مذاقها وتبتسم بقهر. تذكر أنّها أعادت رسالة صغيرة بعد طول انقطاع لتغيظَهُ، “ربّي هناك فوق راسك، وربك أنت”. أغاظه استفزازها، أيّام ثلاثة بطول ليلها وعرض نهاراتها، أين تذهبين؟ شتمها وشتم الدَنيا الّتي ألقت على لهفته كبرياء صمتها.
كم يبدو الأمس فاتناً وخائناً. ابتعدت عن الحاكي بحركة عصبيّة، وسرت في أعصاب رأسها قشعريرة. حاذتِ النافذة، وشتمت رائحة العتمة ودندنة نبالها. “لحد بعيد تشبه رائحة شعره”، همستْ بألم. على غير توقع تدفقت موجة هواء صاقعة ونفضت الغبار الَّذي حجّ إلى المكان. غمرَ وجهها فعبّت منه بسخاءٍ فتسبّب لها، على الفور، بنوبة سعال حادّة. جرت إلى المرحاض لتستفرِغَ ما اختلط بسموم جسدها، ولم تسعفها غير قطرات متفرقّة من سائل حامض، حدّقت فيه بحياد كأنّه لمعدة سِواها؛ معدتها خاوية، ومنذ أيّام لا تمتلىء بغير آلهواء.
تقاومُ القهر بالموت، لكنّها لا تموت ولا يعود جلال. منذ متى لم تتفقد زوايا البيت وتكتشف الغبار يتزاحم بهذه الكثافة؟ سيدفنها بلا شك، ويوما ما ستجد نفسها تحته جثّة هامدة. لم تخطئ صديقاتها التقدير. وإذا لم تفكر بطرده سيقتلها. حرّضتها الفكرة على ذبولها، “لأنها لا تموت يجب أن تحتلّ مكانه”، وَعَدتْ نفسَهَا. فجأة اشتمّت في بللِ العتمة أنفاسه ذكيّة كما اعتادتها، وتعبّأت حيويّة. مُدهشةٌ حين يتموّج الألقُ ثلجاً في عينيها. التفتت إلى الخلف حيث يربض الحاكي، وأطلقت خطواتها للهواء.
نهض الهواء معها وأطلقَ ساقيهِ لفراغِ آلصَّالة. نفضتِ الكنبة والزَّوايا الّتي آستوطنتها بيوتُ العناكبُ وأَغمَضتْ على حُلُمٍ بهيجٍ قبل أن تتجددَ ذاكرةَ الحاكِي وتضربَها في منتصفِ قلبِها.. “وِلِك وِينْ وِينْ وِي..ي ينْ رَبِّك”. جرت محمومة باتّجاهه، وأغلقتهُ بعنفٍ أَسقطَهُ فوق قدمها. سال عصير شريانها، ومعهُ انهار قلبها. جرّت خطواتها إلى الكنبة القريبة، وتلاشى كلّ شيء، كأنّها لم تتألق قبل لحظة. كان جسدها مرهقاً وأشبه بخرقة مثقوبة يمطر من أطرافها البكاء.
مع حلول المساء سكنت أنفاسها تحت الشرشف المورّد بأزهار البنفسج، وكانت تهمهم بشوق لا يصغي لأنفاسِهِ إلّاها، “يجب أن تعود يا جلال؛ أنا والغبارُ في شوقٍ قَاتلٍ إليكْ”. حينَ تناهتْ لِمسمعها طَرَقاتُ حذاءٍ بعيدٍ أبرقت عيناها وانتظرت مستثارة. كانت ستركضُ إلى البابِ وَتُشْرِعُهُ عَلَى مِصراعيه، لولا أنّ الطرقات غيّرت وجهتها عند التواء الَسلالم.
حين تباعد حفيف الخُطُواتِ أَقْعت فوق البلاط العاري؛ باردة الملامح، جاحظة الذّاكرة، تتذكَّرُ أنَّ آخرَ ما رأتْهُ من جلال قِطَعاً مدممّةً لشكلِ جسد، لا يمكن أنْ تُسَمِّيها جلالا.
رجاء بكريّة